عقيل مهدي يوسف: المعرفة والجمال

Thursday 10th of February 2022 12:24:01 AM ,
5124 (عراقيون)
عراقيون ,

عواد علي

ينفرد المخرج والكاتب والناقد المسرحي الدكتور عقيل مهدي يوسف (عميد كلية الفنون الجميلة ببغداد) بين جميع المشتغلين في الحقل المسرحي في العراق بثقافته الموسوعية التي تجمع بين نظريات المسرح، وعلم الجمال، والمعرفة، بمفهومها الفلسفي، والثقافة السينمائية، واتجاهات النقد الحديث،

إضافة الى تجربة طويلة في ممارسة التمثيل والإخراج والتأليف الدرامي والنقد المسرحي والأدبي. وهو، كما معروف عنه، واحد من أكفأ الأساتذة في كلية الفنون في تخصصات عديدة.

حاول عقيل يوسف منذ ربع قرن، بعد عودته الى العراق حاملاً الدكتوراه، أن يختط لنفسه منهجاً خاصاً في الإبداع المسرحي، وأعني به (مسرح السيرة) تأليفاً وإخراجاً، فأنجز مجموعة من العروض عن رموز ثقافية عراقية هم (حقي الشبلي، يوسف العاني، السياب، و جواد سليم) بصياغة درامية لا تفرط بعناصر الصنعة المسرحية لصالح الجانب الوثائقي، أو السيري الذي يخص هؤلاء الرموز، بل تصهر الوقائع والمواقف الحقيقية المنتخبة في قالب درامي يقوم على حبكة متنامية فيها من الأحداث والشخصيات والصراعات ما يجعلها تتسم بكل خصائص الحبكة الدرامية التي تتطلبها بنية المسرحية في شكلها الحديث المتعارف عليه. ومن هنا كان سر نجاحه في هذا المنهج الذي أتمنى أن يستمر في السير عليه، ويحافظ على ريادته فيه، مثلما تميز محمد مبارك في نصوصه المسرحية التي كتبها عن رموزنا التراثية (المتنبي، عروة بن الورد، المعري...إلخ)، خاصةً أن الثقافة العراقية (العربية والكردية والتركمانية والكلدوآشورية) فيها من الرموز ما يشكل كنزاً لا ينضب، ومنهم، مثلاً لا حصراً، الجواهري، البياتي، غائب طعمة فرمان، فائق حسن، نازك الملائكة، بلند الحيدري، إبراهيم جلال، جاسم العبودي، سعدي يوسف، مظفر النواب، محمد خضير، زينب، ناهدة الرماح، معروف الرصافي، ذنون أيوب، حافظ الدروبي، محمد غني حكمت، اسماعيل فتاح الترك، شاكر حسن آل سعيد، كوران، نالي، شيركو بيكه س، حسين عارف، خليل شوقي، بيره ميرد، صبري بوتاني، عماد الدين نسيمي، فضولي، هجري ده ده، صلاح نورس، سركون بولص، أدمون صبري، حنا رسام، سليم بطي، يوسف الصائغ، محمود جنداري، حسب الشيخ جعفر، علي جواد الطاهر، فؤاد التكرلي، عبد الرحمن مجيد الربيعي، بدري حسون فريد، جعفر السعدي، سامي عبد الحميد، قاسم محمد، جعفر علي، عبد الخالق الركابي...إلخ.

ولم تقتصر تجارب عقيل يوسف في التأليف والإخراج على مسرحيات السيرة فحسب، بل كتب وأخرج مسرحيات أخرى كلاسيكية وحديثة، منها (الضفادع) لأرستوفانيس، ومسرحيات ليوربيديس، و( الصبي كلكامش، من يهوى القصائد، الليالي البيضاء، سيرة بنيوية في مسرحية عراقية)، وهي كلها من تأليفه. وقد نحت هذه التجارب الى اتجاهات عديدة، كالتعبيرية، والواقعية، والفانتازيا، والسخرية.

تعرفت على عقيل يوسف في أثناء دراستي الأولية في كلية الفنون، على الرغم من أنه لم يدرسني لكوني في فرع غير الفرع الذي كان يدرّس فيه، ثم نشأت بيننا صداقة اعتيادية أول الأمر بعد تخرجي، و ربما كان أحد دوافعها اهتمامنا المشترك بالنقد المسرحي، وتعمقت شيئاً فشيئاً في أثناء دراستي العليا لوجودي معه داخل الكلية، وتقاسُمِنا الشغف الى المعرفة النقدية الحديثة بتياراتها المختلفة، و استغراقنا في قضايا المسرح وهمومه وشجونه، فضلاً عن المودة والتقارب النفسي بيننا. وقد دفعت هذه العلاقة الحميمة عقيل يوسف الى أن يسند لي دوراً في مسرحية السياب، على الرغم من كوني ممثلاً غير موهوب، وكان آخر عهد لي بالتمثيل قبل ذلك بعشر سنين، وقد أديت الدور، وهو شخصية (المخبر) الذي يلاحق السياب (ميمون الخالدي) حتى وهو على سرير المرض، بشكل معقول الى حد ما، وخاصة في العرض الذي قدم في مهرجان القاهرة الدولي الثاني للمسرح التجريبي عام 1989، على الرغم من قول الأستاذ سامي عبد الحميد، الذي حضر العرض، إنني فاجأته بأدائي الجيد ولمساتي الكوميدية الخفيفة التي أضفيتها على الشخصية. وعلى العكس من ذلك كان أدائي، وأداء زميلي حسين الأنصاري، وهو مثلي ناقد أكثر من كونه ممثلاً، أداءً مرتبكاً في عرضي أيام قرطاج المسرحية بتونس، ومهرجان السياب في البصرة خلال العام نفسه. وحين أتذكر الآن تلك التجربة أشعر أن المخرج عقيل يوسف قد غامر كثيراً في إسناده لي، وللأنصاري دورين في مسرحيته، خاصةً أنه كان يشارك، أول مرة، مخرجاً في مهرجانات دولية. وشاءت الظروف أن أغترب عن الوطن في النصف الأول من التسعينات، وظل هو يكابد مع غيره من المسرحيين، متحملاً قسوة تلك الظروف بشقيها المعيشي والثقافي، حيث الجوع والحرمان من مصادر المعرفة وتجارب المسرح العالمي والعربي التي تستقبلها المهرجانات المسرحية في بعض العواصم العربية. وكان ذلك يؤلمني كثيراً، أنا الذي انفتحت أمامي أبواب هذه المصادر والمهرجانات بمجرد أن انتقلت الى بلد عربي مجاور، فاستثمرت عملي مسؤولاً عن اللجنة الإعلامية في أيام عمان المسرحية (الملتقى الدولي للفرق المسرحية المستقلة) عام 1997، وانتزعت دعوةً لعقيل يوسف، بوصفه ناقداً، للمشاركة مع ثلاثة أو أربعة من النقاد العرب فقط في المهرجان. ولكن ما يحز في نفسي حتى الآن أنني لم أستطع، بسبب انشغالي بالعمل المضني المكلف به، أن أتفرغ له، وأحتفي به ولو على مدى ساعات قليلة.

ظلت كتابات عقيل يوسف ومؤلفاته، عدا ما كان ينشره من مقالات في الصحف والدوريات العراقية، حبيسة الأدراج سنوات طويلة بسبب ضيق مساحة نشر الكتب في العراق، الى أن أتيحت له الفرصة لنشرها في عدد من دور النشر العربية في الأردن، ولبنان، فصدرت له الكتب الآتية تباعاً: الجمالية بين الذوق والفكر (1988)، نظرات في فن التمثيل ( 1988)، في بنية العرض المسرحي (1990)، جماليات المسرح الجديد (1999)، شروط الابتكار في الفن والأدب (2000)، جاذبية الصورة السينمائية: دراسة في جماليات السينما (2000)، متعة المسرح (2001)، التربية المسرحية في المدارس (2001). كما صدر له كتاب مترجم عام 2002 بعنوان (تربية الممثل في مدرسة ستانسلافسكي) لـ (ج. فـ بريستلي). ولا زالت مقالاته في النقد التطبيقي غير منشورة في كتاب حتى الآن.

وفي مقالاته الأخيرة التي نشرها في جريدة الزمان يدعو عقيل يوسف الى إعادة النظر في إطلاق مصطلح (التجريبية) على العروض المسرحية العربية التي تحاول الخروج على المألوف، والتقليدي في المشهد المسرحي العربي، ويقترح بديلاً له هو مصطلح (التجاربية) كحل وسط بين التجريبية والإبداعية، على أساس أن التجارب المسرحية، مهما تطرفت في بحثها عن الجديد، ستندرج لا محالة في التراث الوطني للمسرح، وتصبح جزءاً من التراث الروحي للشعب بصفتها الإبداعية لا التجريبية، التي هي (أداة) للوصول الى الإبداعية، وأن المسرح العربي، على الرغم من كونه شديد الالتصاق بالتجريب في المسرح العالمي، (الذي يخضع لقوانين مغايرة مختبرياً عما يجري على السطح، ويغير من هندسة العرض الوراثية)، وتواصل الأجيال المسرحية العربية في التقاطه، لم يسع الى تطوير خطاب تجريبي خاص به و بهذه الأجيال، بل ظل أقرب الى تقليد الظاهرة (التجريبية) العالمية.

ولئن أتفقت معه في المسوغات التي بنى عليها دعوته، وهي مسوغات كنت قد قدمتها في بحث لي عن التجريب في المسرح العراقي كتبته عام 1993، ونشرته في دورية (المسرح) المصرية، ثم في كتابي (المعرفة والعقاب)، لأختلف معه في استبدال مصطلح (التجريبية) بمصطلح (التجاربية)، لأن الثاني يشير في دلالته اللغوية الى ما يشير إليه الأول نفسه، كونهما مشتقين من جذر واحد هو (جرّب، تجريباً، وتجربةً = اختبره وامتحنه)، فالتجريبية مصدر صناعي منسوب الى الاسم المفرد (التجريب)، والتجاربية مصدر صناعي، أيضاً، منسوب الى الجمع (التجارب) ومفردها (تجربة). وقد صيغ المصدر في اللغة لإفادة معنى لا يفيده غيره، و هو الدلالة على طبيعة اتصاف شيء بصفة ما، فحين نقول إن هذه العروض المسرحية (تجريبية) نعني صفتها القائمة على التجربة، وحين نقول إنها (تجاربية) نعني صفتها القائمة على التجارب، والفرق هنا أن الأولى وردت بصيغة المفرد، والثانية بصيغة الجمع. ولكن، بغض النظر عن المشكلة اللغوية لمصطلحه البديل، أرى أن إدراك عقيل يوسف للخلل الذي ينتاب العروض المسرحية العربية، التي توصف بـ (التجريبية)، في سعيها الى التجديد، وكسر المواضعات والمسلمات في الخطاب المسرحي العربي السائد، وهو قطعاً خلل تشترك معنا فيه مسارح الكثير من الأمم، يفصح عن وعي نقدي أصيل، ونظرة ثاقبة الى التجربة المسرحية في الثقافة العربية، لا يحملهما عدد كبير من النقاد والمسرحيين العرب.