عبد اللطيف اللعبي: الشعر قادر على النضال من أجل الحرية والجمال

Wednesday 9th of March 2022 12:14:42 AM ,
5142 (منارات)
منارات ,

حاوره: مخلص الصغير

عبد اللطيف اللعبي شاعر مغربي وعربي كوني، هو الذي توج بجائزة «الجونكور» منذ سنوات، مثلما ترجمت أعماله إلى الكثير من اللغات، وأثارت أفكاره الكثير من السجالات والنقاشات.أسس في منتصف ستينيات القرن الماضي مجلة «أنفاس» إلى جانب عدد من التشكيليين والمفكرين والمناضلين المغاربة.

وكانت هذه المجلة من ضمن وثائق الإدانة التي قادته إلى تجربة اعتقال سياسي خانقة. لكنه ظل يتنفس الأشعار والأحلام والأفكار المتحررة حتى وهو داخل السجن. ولا يزال «مجنون الأمل»، يدعونا إلى التسلح بالأحلام العنيدة، كما يسميها، حتى في أحلك اللحظات القاتمة التي تمر منها شعوب الإنسانية اليوم.

بعد تجربة السجن، غادر إلى فرنسا، حين لجأ إلى ما يسميه «المنفى الاختياري»، وهنالك علا صيته وصوته دفاعا عن القضية الفلسطينية. كتب في الرواية والمسرح، أبدع في الشعر، وأقنع في الفكر، وهو صاحب رسائل ونداءات ثقافية، طرح فيها قضايا جديدة، وجهر فيها بأفكار وأحلام عنيدة. كتب للأطفال، ولا يزال، وكتب لكل الإنسانية من أجل الإنسانية كلها، مسلحا بقوة الفكر وضوء الشعر.

من إصداراتك الأخيرة ألبوم شعري موجه إلى الأطفال، مثلما هو نشيد إنساني موجه إلى كل العالم، وهو بعنوان «J›atteste: Contre La Barbarie»، أو «أشهد: ضد البربرية».

إلى جانب الهجمات والتفجيرات الإرهابية البربرية، ثمة بربرية أخرى، على مستوى الفكر، أو ما يمكن أن نسميه إرهابا فكريا. كيف السبيل إلى مواجهة هذه البربرية الشاملة أيها الشاعر؟

المنخرطون في مشروع حضاري وفكري لا يمكن أن يواجهوا العنف إلا بالأساليب المتحضرة، كما تعلم. من هنا، تقوم مواجهتنا على النقاش، والتحليل المعمق، والإقناع والاقتناع. على قوة الفكر وطاقة الخيال، في سبيل النضال من أجل الحرية والجمال. وهذه هي أدواتنا ما دمنا لا نمتلك سلطة رادعة. وما دمنا لا نملك قوة باستثناء قوة الفكر.

إن هذا الدمار الذي بات يحاصرنا من كل جهة يفرض علينا تعبئة من طراز خاص، من خلال انتفاضة الوعي، وانتفاضة الفكر، الذي لا يقبل بالهزيمة أبدا. إذ لا يمكننا الاستسلام في جميع الأحوال والأهوال، ولا يمكن لنا أن نغادر خندق الحلم وجبهة الأمل.

فأين هم المثقفون والمفكرون العرب الآن، حتى يستخدموا قوة الفكر؟ ألا ترى أن الأغلبية قد خلدت إلى الصمت تجاه ما يجري؟

أظن أن الكثير من المثقفين العرب يعبرون، اليوم، عن أفكارهم بكل قوة. أرى أن المشكل أبعد من ذلك. المشكل هو أن المثقف العربي، وبالنظر إلى الشروط التاريخية، يبقى معزولا الآن، في هذه اللحظة الراهنة والساخنة. معزول، وليست لديه الإمكانيات التي تسمح له بالتدخل. فالسلطة الرابعة ليست في أيدي المثقفين مثلا، بل هي في أيدي أصحاب المال والمصالح. ولذلك، لا ينفذ صوت المثقفين إلى العمق، ولا يصل إلى عامة الناس. وهنا، يكون المثقف مطالبا بأن يبحث ويجتهد أكثر لينشر وجهة نظره. علينا أن نكون واعين، ونحن نعيش «عهد البربرية الجديد» أن المثقف معزول، ومنزوع السلاح.

وإلى جانب قوة الفكر، يمكن الحديث عن قوة الشعر، أيضا، والذي يظل قادرا، وباستمرار، على النضال من أجل الحرية والجمال، في مثل هذه العهود القاتمة. والأمر نفسه بالنسبة إلى سائر أشكال الكتابة الأدبية، وعبر كل الفنون. فهنالك أفكار ومواقف تمر عبر التعبيرات الأدبية والفنية. والسينما مثال ساطع في هذا الباب، وهي تضطلع بدورها في هذه المرحلة. لكننا نعود مرة أخرى لنشير إلى ضعف الوسائل والإمكانيات. فبينما كان درويش يطبع 200 ألف نسخة من ديوانه، صار الشاعر العربي اليوم يطبع 1000 نسخة. والكتاب الذي ينشر في بلد عربي ما يجد صعوبة في الانتقال إلى البلدان العربية الأخرى. ما دامت هذه الأقطار العربية قد صارت سجونا وجزرا معزولة هي الأخرى.

فكيف السبيل إلى الخروج من هذه السجون، وتكسير هذه الحواجز وإسقاط هذه الأسوار؟

نعم، علينا تكسير هذه الحواجز المتينة التي بنيت خلال عشرين سنة تقريبا، حيث تحولت الأقطار العربية إلى سجون وجزر معزولة. جزر منفصلة عن بعضها. فما هو سائد حاليا هو هذا النزوع نحو التفكير بشكل قطري. بينما التفكير على مستوى العالم العربي تقلص. لذلك، فمن جملة التحديات المطروحة خلق رابط بين المبدعين والمفكرين العرب. هذا مع العلم أننا نتوفر اليوم على كل الوسائل المتطورة التي تضمن التواصل في ما بيننا، والتقريب بين وجهاتنا وأسئلتنا. والحال أننا استطعنا فعل شيء من هذا القبيل في الماضي، من غير أن نتوفر على هذه الإمكانيات.

l مرت سنوات على انطلاقة الربيع العربي. لكن هذا الربيع العربي الدامي لم ينته، بينما تكاد تنتهي شعوب بكاملها وأمم بتاريخها وحضارتها، مثل اليمن وسوريا تحديدا.

إنها الكارثة. فهذه الحرب لم يسلم منها أحد. تصور أنني، بدوري، لم أسلم منها، وكنت ضحية الحرب السورية، أنا وأشعاري وأفكاري، أيضا. لأنه، وبعد مشوار طويل، لم يكن لي ناشر عربي، حتى اهتديت إلى دار «ورد»، من خلال صاحبها وصاحبي الناشر مجد حيدر. وبفضل هذه الدار استطعت نشر نحو عشرة أعمال بالعربية، من شعر ومسرح وأعمال فكرية أيضا. ومع اندلاع الحرب في سوريا توقف نشاط الكثير من دور النشر في سوريا، ومن بينها دار «ورد». فكانت حالتي في هذا الوضع مثل قنبلة تلقى على الجيوش وتمتد شظاياها لتصيب المدنيين.

هذا هو عهد البربرية، وهذا هو الجحيم الذي يبشر به. الحرب والدمار في سوريا، والوضع المتردي في العراق، والوضع المضطرب، دوما، في لبنان. البلد الذي يمتلك قوة على مستوى نشر الثقافة وتوزيع الكتاب. أما أوضاع مصر صعبة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. والأكيد هو أن الثقافة العربية تمر بمحنة في الظرفية الحالية، بحكم هذه الأوضاع التراجيدية.

ومن قبل، كانت فرص اللقاء أوفر، وأكثر زخما، مما هو عليه الحال اليوم. والآن ضاقت الأرض العربية بمن عليها من المثقفين والمبدعين، وبمن عليها من الأبرياء والمستضعفين.

ثمة قضية أخرى كانت من القضايا التي شكلت وعينا الشقي، وألهمت المثقفين والمبدعين العرب. ولطالما انشغل اللعبي بهذه القضية، وناضل من أجلها وعَرَّفَ بعدالتها في فرنسا بشكل خاص. لكن هذه القضية تراجعت إلى دائرة الصمت، بعد الجحيم العربي القائم والقاتم.: إنها القضية الفلسطينية !

نعم، فلسطين (يتحسر اللعبي). من الكوارث السياسية الأخرى هذا التغييب الحالي لفلسطين والقضية الفلسطينية. فما يجري حاليا في العالم العربي كان مفعوله تغييب القضية الفلسطينية، بشكل أو بآخر. وكأن لا شيء يحدث هنالك اليوم. أو كأن الوضع على ما يرام. وهذه هي مفارقاتنا الصارخة. فبينما صار الوعي العربي الراهن يقاسي المآسي الصاعقة التي يعيشها الشعب السوري، والشعب اليمني، والشعب العراقي، بات الوعي بالقضية الفلسطينية يتقلص ويتراجع. وهذا الصمت تجاه ما يجري في فلسطين يشجع إسرائيل على المضي في استراتيجية الاستيطان وتصفية المطالب الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وفرض الأمر الواقع. وأظن، ههنا، أن كل الاحتمالات تبقى واردة، بحيث يمكن لإسرائيل أن تتخذ قرارات من قبيل طرد الشعب الفلسطيني مما يسمى «إسرائيل»، ويمكنها أن تتجه إلى حد تصفية هذه القضية بشكل نهائي (قضية الشعب الفلسطيني).

هب الربيع العربي في شكل انتفاضات من أجل الحرية. انتفاضات طالبت بإسقاط الاستبداد، فسقطت هذه الدول في يد الظلام والمجهول. وتحولت ميادين الثورة من ساحات للتحرير إلى ساحات للتكفير. من أين عم كل هذا السواد. ألا ترى أن مجتمعاتنا العربية صارت محافظة ومتشددة أكثر، خلال السنوات الأخيرة، بحيث عرفت ما يمكن أن نسميه ردة كبرى، بما أدى إلى صعود خطابات التقليد، ثم التشدد، وصولا إلى التطرف والعنف الدموي وانتهاء بالبربرية التي تتحدث عنها؟

المجتمعات العربية في الفترة الأخيرة أصبحت محافظة أكثر من ذي قبل، بما فيها التقاليد الدينية. وذلك على حساب التحرر من العقلية الماضوية والعادات والتقاليد البائدة، تلك التي تعرقل السيرورة التحررية للشخص والجماعة.وعودة الفكر المحافظ ليست في صالح المطامح التي كانت معلنة منذ عقدين إلى ثلاثة أو أربعة عقود. طموحاتنا نحو الحريات الفردية والجماعية، وآمالنا في عصرنة المجتمعات.

نعم، وبالفعل، نشعر بأن هنالك ردة على هذا المستوى، على حساب حرية الفكر. فأنا، مثلا، أنتمي إلى جيل لم يكن يواجه الدينيين، بل كنا نتحرر من قيود بعض المعتقدات والعادات والتقاليد. وكانت حرية الشخص هي المحددة لممارساتنا.

وثمة مفارقة أخرى تمتد أمام بصرنا كل يوم، في الشارع المغرب والعربي. حيث نجد نساء في عمرنا لا يرتدين الحجاب، ونساء في عقدهن الخامس والرابع ولا يرتدين الحجاب، بينما ترتدي الحجاب والحجاب المتشدد فتيات في عقدهن الثاني والثالث، في ربيع شبابهن.

ألهذا، يصر اللعبي على كتابة أدب موجه إلى الأطفال، منذ فترات، وإلى اليوم، يقينا منه بأن التربية على قيم التحرر والجمال مسألة لا بد منها. وأن التشبع بهذه القيم والوعي بها ينبغي أن يكون وعيا مبكرا؟

الشاعر هو الذي لا يتخلى عن طفولته. ويعيد الأمجاد إلى طفولته في نظرته إلى العالم والكائنات من حوله. التربية تبدأ من المنطلق. وعليه، فأنا أشتغل في أدب الأطفال انطلاقا من وجهة نظر خاصة في الموضوع. فأغلبية الأعمال التي تنتمي إلى مدونة أدب الطفل هدفها هو الترفيه والتسلية، وتقديم حكايات لإغناء المخيلة وإثراء اللغة… ولكن، قليلة هي الكتب التي تنتمي إلى أدب الأطفال، وتتوجه إلى الطفل، بحيث ترى أن في استطاعة هذا الطفل استيعاب القضايا التي تتعلق بالمجتمع، وبالعنف، وبالحرية. إذ يمكن أن تكون هنالك كتب فيها روح مواطنة تتوجه إلى الطفل، وأن تكون أداة للتفكير في قضايا أكثر جدية، بما فيها مسألة العنف والموت، أقصد هذه القضايا التي نعيشها. فلا بد من كتب ونصوص تمكن الطفل وتمده بطاقة لفهم العنف القائم حاليا في المجتمع البشري. وفي هذا الإطار، جاء كتاب «أشهد: ضد البربرية»، من أجل فهم ما هو الإرهاب، ولماذا؟..

ثمة مسألة أخرى، في هذا الصدد، وهي أننا نعتقد بأن الطفل بريء تمام البراءة، وأنه ملاك. لكننا إذا أمعنّا التأمل في سلوك الأطفال يمكن أن نلمس إرهاصات العنف والأنانية لديهم، والتي تؤدي، مع مرور الوقت، إلى عدم التسامح. فالطفل حين يكون طفلا لا يكون سلبيا. ومنذ البداية، قد تظهر عليه أمارات وإرهاصات العنف والأنانية التي تنزع به في المستقبل نحو التسلط وممارسة العنف تجاه الآخرين. من هنا، أحرص على الكتابة للأطفال، وعلى عقد لقاءات مفتوحة معهم، والإنصات إليهم، في أوروبا كما في المغرب.

أمام ما يجري من أحداث ودم عربي منذ خمس سنوات، ومع لجوء ونزوح أبناء هذه الأمة نحو أوروبا، تحديدا، يلتحق مثقفون وأدباء ومبدعون عرب بالغرب. وكأنهم يشكلون ويكتبون اليوم أدب وفكر مهجر جديد. ألا ترى أن هؤلاء المهجريون الجدد قادرون على استجماع صوت عربي واحد في الخارج، يعود صداه إلى الداخل. وأنت الذي عشت ولما تزل تعيش في فرنسا، بينما تتردد على المغرب، في ما سميته مرة «المنفى الاختياري»؟

كثيرا ما أصبت بخيبة في هذا الموضوع. كنت أعتقد أنه، بعد هجرة الأدمغة والمثقفين، وبسبب تواجد هؤلاء في المهجر، يمكنهم خلق دينامية ثقافية جديدة على المستوى العربي. ولم أتوقف عند هذا الحد، بل حاولت خلق حركية جماعية من هذا القبيل، سواء تعلق الأمر باتخاذ مواقف عندما تكون هنالك أحداث سياسية، أو محاولة البحث عن شروط وأساليب وأدوات العمل الجماعي. لكن ما لاحظته، شخصيا، هو أن هذا الحماس أخذ يتقلص شيئا فشيئا، حين يدخل عدد من هؤلاء في انشغالات فردية، إما بالوقوف في الهامش، من أجل الكتابة والإبداع، أو لترتيب أوضاع مادية معيشية في المهجر. وإن كان هذا لا يلغي بعض الصداقات التي أثمرت في ترجمة الأعمال الإبداعية مثلا، وفي لقاءات جماعية مشتركة. علاقات تبقى في حدود الصداقة، أما التحرك الجماعي فلم يتم بعد.

جرى الإعلان قبل سنتين، عن ميلاد مؤسسة تحمل اسم «مؤسسة اللعبي للثقافة». وقد كنت ناديت بشيء من هذا القبيل، يوم طرحت للنقاش بيانا أصدرته قبل سبع سنوات، تحت مسمى «من أجل ميثاق وطني للثقافة». لكن المؤسسة تأتي في سياق أكثر راهنية، وأكثر رمزية أيضا، بعد الاحتفال بمرور خمسين سنة على تأسيسك لمجلة «أنفاس» سنة 1966.

مؤسسة اللعبي للثقافة إنما جاءت لتجيب عن الهم الذي سكنني، والذي عبرت عنه أكثر من مرة، خلال السنوات العشرالأخيرة. والمتمثل في الحفاظ على الذاكرة الثقافية المعاصرة وحمايتها، ليس من أجل متحفة هذه الذاكرة، بل من أجل نقلها إلى الأجيال الحالية والأجيال القادمة. وهذا ما ألححت عليه، بالفعل، في «نداء من أجل ميثاق وطني للثقافة»، عندما تضمن مطلب إنشاء «معهد للذاكرة المعاصرة». فلما لم تكن هنالك استجابة حتى اليوم، جاءت فكرة المؤسسة، باعتبارها منبرا لليقظة، والتذكير وإعادة التذكير. ذلك أن الثقافة إنما تبنى عبر سيرورة، والحفاظ على ذاكرتها هو ما يساعدنا على تكوين مادة هذه الذاكرة. أو ما يمكن أن يسميها «لحمة التكوين الثقافي»، وهذه اللحمة هي منطلق الفكرة التي كانت من وراء إحداث مؤسسة اللعبي للثقافة.

كما أن هنالك هما شخصيا من وراء فكرة المؤسسة (يبتسم اللعبي). فمدى حياتي، لا أريد أن أترك الأمور تجري كما اتفق، إنما أحاول تنظيم حياتي لخدمة مجموعة من القضايا والقناعات. وحتى بعد الممات، أريد أن أخدم هذه القضايا. فعلى الإنسان أن يمتلك رؤية بعيدة المدى، تتجاوزه هو نفسه. وما ناضلت من أجله يتجاوز شخصي، ويتجاوز المسافة الحياتية لعمري نحو الناس الذين سيأتون من بعدي. من هنا، ستصبح المؤسسة إطارا لنقل التجربة إلى الأجيال الصاعدة.

إنها مؤسسة للتفكير والمبادرة، أساسا، وهي ليست مهيكلة، ولن تكون على غرار مكتبة أو خزانة. فمقر المؤسسة هو منزلي في الهرهورة، في الرباط، وليست لها هياكل أو إمكانيات. ومهمتها هي طرح مجموعة من المبادرات والإلحاح على عدد من القضايا. مؤسسة لها وظيفة التذكير والمطالبة بالتذكير وفتح النقاش. وهي تضطلع أيضا بمهمة حماية ذاكرة المؤسس، والالتفاف حول القضايا التي طرحها وناضل من أجلها. لكن المؤسسة ليست جمعية ثقافية، تقوم بتنظيم أنشطة، مهمة المؤسسة هي إنجاز أحداث ثقافية (جمع حدث)، على أن تكون أحداثا نوعية، بحيث يمكن للحدث أن يقدم جديدا يثري ويستثير الساحة الثقافية، ويجعل الخطوط تتحرك.

ثم إن المؤسسة لا تحمل برنامجا متكاملا وجاهزا، بل هي تطرح القضايا بحسب المستجدات والتحديات والرهانات. فأنا لا أقدم وعودا سابقة، ولذلك سوف تشتغل المؤسسة على الثقافة مشروعا بمشروع.

ألا ترى أن ثقافتنا في حاجة إلى «أنفاس جديدة»؟

العودة إلى مجلة «أنفاس»، ونشرها من جديد، هو «اشتغال نوعي على حدث ثقافي عمره نصف قرن. إن مرور 50 سنة على ولادة أنفاس يذكرنا بحدث منير عرفته الساحة الفكرية والسياسية والثقافية في لحظة معينة من تاريخ المغرب المعاصر. وقد ظهرت المجلة وصدرت سنة 1966 بعد مجزرة البيضاء الأليمة التي عرفتها مدينة الدار البيضاء في 23 مارس 1966. وبعد اختطاف واغتيال القائد الثوري المهدي بنبركة في أكتوبر 1965، والإعلان عن حالة الاستثناء في المغرب، في يوينو 1965.

كان مناخا سياسيا قاسيا، ومع ذلك، وبرغم هذه الظروف، ففي خضمها خلقت المجلة واستطاعت أن تشكل قطبا للمقاومة الثقافية والفكرية. وهو ما يؤكد أن في تاريخنا محطات منيرة، وليست هنالك السوداوية والدمار والقمع فقط. فثمة أشياء أخرى. وعندما نعود إلى الوراء، علينا أن نبحث عن تجربة تمدنا بالأمل في أحلك الظروف. فلا بد أن نتسلح بالأمل، وبالجرأة والحلم والجسارة، وهذه مسألة مهمة بالنسبة إلى الأجيال الحالية، التي تعيش تمزقا وحيرة وفقدانا للثوابت… ونحن كنا شبابا عندما أسسنا تجربة أنفاس، رغم قسوة تلك المرحلة. والأجيال الجديدة يمكن أن تقوم بمبادرات مماثلة، ولها أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية. فعسى أن تكون مجلة «أنفاس» حافزا على الانطلاقات الجديدة».

في لقاء جمعنا بمدينة أغادير، قبل خمس سنوات، كنت تبدو متحمسا كثيرا للربيع العربي، أنشدت له في أمسية شعرية وتغنيت به،. فماذا عن هذا الربيع ومآلاته اليوم؟

الربيع العربي أجهض، وتحالفت ضده العديد من القوى المعادية للطموح الذي تشكل لدى الشباب في اتجاه مجتمع عادل ومتحرر وديمقراطي ديمقراطية حقيقية، مع وضع نهاية للتسلط. وقد عشت تلك المرحلة مع الشباب بشعور مخلص (يبتسم) شعور فيه صدق وإخلاص، ولم يكن شعورا مصطنعا. كان عندنا إحساس بأن التاريخ العربي سوف يشهد طفرة وقطيعة مع الماضي. وبطبيعة الحال، لم يكن هنالك وعي بالقوى المعادية، وبشروط اللحظة التاريخية. فالإنسان عندما ينهض من أجل تحرره لا يقوم بتحليل شامل للأوضاع، لكي يرى ما إذا كان عليه أن يتحرك أم لا. فهنالك ما هو غير متوقع دائما. فمن كان يظن بأن مظاهرات قامت في فرنسا سنة 1789 سوف تؤدي إلى قيام الثورة الفرنسية!

مع ذلك، ورغم ما تعرضت له الثورات العربية من إجهاض ومصادرة، فلا بد من التسلح بالأمل، والتشبث بذلك الحلم العنيد الذي خلق مع البشرية، منذ وعى الإنسان بنفسه، إذ من الواجب الحفاظ على نافذة صغيرة مشرعة على الأمل.

أما عن مآلات هذا الربيع العربي، ونتائجه، فيمكن اعتبار الحصيلة هزيمة، وهي الهزيمة التي تطرح تحديا على الفكر، وسؤالا عريضا حول كيفية تجديد هذا الفكر العربي، عبر تجديد أساليبنا في التعبير وتجديد وتثوير لغتنا، وخوض قضايا جديدة وارتياد مغامرات فكرية مغايرة، إذ لا يمكن لنا أن نقبل بهزيمة الفكر على الإطلاق.

كنت سباقا إلى الانشغال على سؤال البيئة من خلال الشعر والأدب، بعدما أصبح المشكل البيئي يتهدد العالم بالزوال. العالم الذي أوشك على نهايته، بسبب الاحتباسات الحرارية والتقلبات المناخية، وبمساعدة الحروب والإبادات الجماعية. هل نعيش نهاية الإنسان وقيامة العالم؟

هذه مسألة مصيرية لم تكن واضحة ولم ننتبه إليها، زمنا طويلا، عبر تاريخنا الإنساني. وهي مسألة التحدي البيئي، الذي لم يكن مطروحا أصلا للنقاش في الفكر العربي، بينما هو تحد كبير. ولأول مرة، اشتغلت على هذا التحدي في كتاب «شاعر يمر»، حيث انتبهت إلى أن المفكرين والمبدعين كانوا ينظرون إلى التجربة البشرية على أنها تجربة متواصلة بلا نهاية، وتعيش في نوع من الاستمرارية. والآن، بات من الممكن أن تتوقف هذه التجربة على هذه الأرض. وهي التجربة الوحيدة للحياة. ذلك أن الحياة على هذه الأرض تبقى في نظري معجزة، وهي شيء خارق، وشيء فريد ننتمي إليه. لكن هنالك مؤشرات تدل على أن هذه المعجزة يمكن أن تتوقف، والبشرية ستكون مسؤولة عن تدميرها الذاتي.

عن مجلة نزوى