حسين مردان بين الغربة والتمرد

Wednesday 9th of March 2022 10:26:54 PM ,
5143 (عراقيون)
عراقيون ,

د. قحطان الفرج الله

«حين قرأت شعر مردان ومقالاته وجدت توجها مختلفـًا تمامـًا عن التيار الذي كان سائدًا في زمنه سواء في الشعر العراقي أو الشعر العربي عامة، وهو اتجاه غرائبي وجودي سوريالي غاضب ساخط على الأوضاع الاجتماعية وساخط على نفسه أيضـًا ويستخدم تقنيات شعرية جديدة أو مختلفة على الأقل لتجسيد هذه التجربة”.

استطاع الشاعر حسين مردان أن يمارس حريته الفكرية والاعتقادية التي أدت به إلى السجن فطرح أفكاره معتمدًا على أيقونة الجسد والمرأة ولم يأبه لكل معارض اتهمه بالخروج السافر على قيم وحدود المجتمع، وراح يقترح الحل السليم للتخلص من الرقابة الفكرية، أو التقيد الصارم للأفكار فيقول: “الفنان حر في عرض أحاسيسه الداخلية فهو ليس كذلك في التعبير عن أحداث العالم الخارجي فهو في الحالة الأولى يعود بالأذى على نفسه فقط أما في الحالة الثانية فقد يسبب الضرر للآخرين. إذاً فما هو الحل الصحيح لهذه المشكلة التي تشغل جميع أدباء العالم اليوم...؟ إن الحل الوحيد هو أن نضع مصير الفنان بين يديه وحده ثم نطلب منه شيئـًا واحدًا هو أن يحمل الحقيقة دائمـًا في قلبه”() هذه هي الفكرة التي ينطلق منها حسين مردان، إنها حرية الفكر التي تعتمد على حقائق ومبادئ وتذر التزييف والنفاق، والخداع والتستر وراء حجب الرذيلة المحتجبة بالسماء على حد قوله.

ولد في قضاء (طويريج) بمدينة الهندية التابعة لمحافظة بابل جنوب العراق عام 1927م، ولم نعثر في الترجمات التي أطلعنا عليها على اليوم والشهر الذي ولد فيه، ومهما كتب المترجمون عن حسين مردان فإنهم لن يصلوا بنا إلى تجسيد نشأته، والظروف التي تحيط بحياته، بالشكل الذي يصوره حسين مردان نفسه، ففي مقال أسماه حسين مردان: (مشروع مذكرات.. من أيام الطفولة) تحدث عن نشأته، وبدا في حديثه مشككـًا، ويستدعي علامات التعجب، وذلك عندما يقول: “أنا لا أعرف اليوم الذي ولدت فيه، لذا لا أعرف عمري بالضبط، ويزعم دفتر النفوس أني قد جئت إلى العالم سنة 1927 وهذا التاريخ موضع شك أيضـًا، والأرض التي شاهدت وجهي لأول مرة تقع في قضاء – طويريج – وتدعى اليوم (الهندية)… ولا أعرف أصلي كذلك، فوالدي يزعم أنه من قبيلة العبيد ومن آل سلطان بالذات (أي من الشيوخ) أما أمي فتدعي أنها من عشيرة البيات، ولم أقم بأي تحقيق في الموضوع، فلم أكن أؤمن في يوم ما بمثل هذه الأمور، ولذلك لم أضف إلى اسمي أي لقب، كما هي العادة المتبعة عند البعض، وأعتقد شخصيـًا أن جذور عائلتي تمتد إلى قوميات متعددة!، فالشكل العام لملامحي، وعيني بصورة خاصة، يؤكد أن عروقي تحمل الدم العربي ممزوجـًا بدماء الترك والكرد، وأظن أن هناك دماء أخرى مغولية أو فارسية.

ولعل هذا الخلط هو السبب في وجود هذا الكائن المتناقض الذي يدعى (حسين مردان).....قضيت السنين الأولى من طفولتي متنقلًا مع والدي بين مدن الفرات الأوسط، ثم انتقلنا إلى قضاء الخالص، وهناك دخلت المدرسة الابتدائية...يخيل ليّ، أني لم أكن طفلًا في يوم من الأيام، فأنا لا أستطيع على الرغم من خيالي الواسع أن أتصور نفسي صغيرًا وابتسم لكل من يداعبني، وكلّ ما أتذكره من ذلك العهد هو مجموعة من الصور المتقطعة الباهتة...وتزعم أمي أني كنت في منتهى الوقاحة، وأني كنت سريع الغضب، وأحبّ التشرد في الأزقة، ولم أكن أحبّ اللعب إلا مع البنات، ومع ذلك فلم تحبني امرأة طيلة حياتي.. وأذكر أني كنت من أمهر رماة الأحجار، وقد قتلت لقلقــًا، وأحزنني منظره وهو يلوب من الألم، ومنذ ذلك اليوم تركت هذه اللعبة اللعينة ولم أعد إليها إلا مرة واحدة في مدينة أستوكهولم في السويد، والعجيب أني أصبت الهدف في هذه المرة أيضـًا، ومُنحت جائزة جميلة وهي “فرارة من الورق” أهديتها لمرافقتي السويدية...أما بالنسبة لذاكرتي المدرسية، فقد كنت أودّ كافة الدروس عدا اللغة الإنكليزية، هذه اللغة التي أشعر بأشد الحاجة إليها الآن، وكذلك درس الحساب الذي كان عدوي اللدود، ولقد عاشت هذه العداوة إلى اليوم؛ بل أنا أكره حتى البنوك والآلات الحاسبة، كما أنني وبالتبعية بتّ أضيق بمعاشرة كل من له علاقة بدنيا الحساب والمحاسبة».

هكذا يصف حسين مردان طفولته ليترك لنا علامات استفهام كبيرة. فهو لا يهتم بمعرفة تاريخ ميلاده، وذَكَره على وفق ما جاء محرري وقائع الميلاد من أنه ولد في سنة 1927م وصرح بعدم قناعته بما ذكروه، فيعتبر ذلك محض زعم يشك في صدقه.

يدعوك حديثه للتعجب عندما يصف نفسه بما تزعمه أمه وبما يراه في نفسه، فذكر أنه وقح -كما زعمت أمه- سريع الغضب، محب للتشرد، منعزل عن أبناء جنسه من الذكور، فكان يلعب مع البنات، ومع كل هذا، فهو حنون يحزن لتألم اللقلق الذي اتخذ من قتله لعبة وصفها بأنها لعبة لعينة.

ترجم الكثيرون لهذه المرحلة من حياة مردان (مرحلة النشأة)، فذكروا بعضـًا من ملامح حياته الخفية التي تتمم ما ذكره حسين مردان؛ فذكروا أن حسين مردان ولد لأب بسيط كان يعمل عريفـًا في شرطة السكة الحديد، ثم تنقل حسين مردان مع والده في عدة مدن بحكم وظيفة أبيه، ثم استقر في مدينة الخالص “ديالي”، وقد أنهى حسين الابتدائية في مدينة بعقوبة وكان قد انتقل أبوه إليها، ثم هجر المدرسة في المرحلة المتوسطة ()، وقد نشأ فقيرًا وكان لا يفصح كثيرًا عن ذلك، ولكن قصائده قد أفصحت، فتحدث عن الحرمان والبؤس والتشرد. وذكر من ترجم له أن حياة الفقر دعته إلى ترك المدرسة صبيًا، فهو في مقال آخر بعنوان: (قبضة الضوء والحزام) يكشف عن هذا، فيقول: “في السابعة قرأت (عنترة)، وفي العاشرة نظمت أول بيت، وبدأت أمي تضايقني بأن لابد من الانقطاع عن الأدب، وهكذا تركت المدرسة ثم بدأ الخصام مع العائلة، واضطررت إلى هجر البيت.

فيكشف لنا عن مدى ولعه بالأدب منذ الصغر حتى أن أمه ضايقته بسببه، فترك المدرسة وهجر البيت، في إشارة إلى أن ترك المدرسة وهجر البيت أحب إليه من الانقطاع عن الأدب وتذوقه، فهذا بالنسبة له أمر لا يمكن، فاستبدل بعد انقطاعه دروسه المدرسية بقراءة الكتب الأدبية والشعرية والقصصية، حتى أنه كان يقرأ الكتاب في ليلة واحدة، فتسجل ذاكرته أغلبه.. ومن هذا المنطلق بدأ شعوره يتبلور ويكشف عن موهبة شعرية وكتابية.

لعل سبب نبوغه في الأدب منذ الصغر: أن هذا النبوغ امتداد لنبوغه في اللغة العربية، بناء على ما ذكره بعض اصدقاء حسين مردان كان له حضورا متميزا في درس اللغة العربية في مرحلتي الابتدائية والمتوسطة قبل أن ينقطع عنها.

هجر حسين مردان الدراسة وعاش حياة العزلة والتشرد اتجه إلى بغداد سنة 1948م، لأداء الخدمة العسكرية الجبرية، حاملًا إرادة الإنسان الرافض والمتحدي لكلّ جمود المجتمع وتناقضاته، مثّل نمطـًا خاصـًا جعل قياداته في الخدمة يميزونه بميزات خاصة، فكان لديه الوقت للقراءة، فازداد إعجابه بإلياس أبو شبكة، وبودلير، وتعرف على سارتر ومصطلحاته، وعاش متشردًا، ففي الليل كان يلتحف الأرصفة والحدائق، وفي النهار يرتاد المقاهي والحانات وخصوصًا مقهى (الزهاوي) ومقهى (واق واق) ليلتقي بأمثاله من الشباب المتمرد الغاضب ليحاورهم ويجادلهم بأفكاره التي تتزاحم في ذهنه”وبإمكاننا مقارنة عملية الهجرة بمرحلة المراهقة العاصفة والقلقة التي تنقل الفرد من الطفولة إلى النضج، مثل المهاجرين القابعين في زورق تتلاطمه الأمواج، والعواصف، وهو في طريقه إلى سبر أغوار عالم جديد” تأثر حسين مردان بمعيشته الضيقة، فامتهن مختلف المهن، وكان منها عامل بناء، إلا أن غربته الوجودية كانت متجذرة في أعماقه، فسرها بقوله: “كنت أقول لنفسي وأنا أضع الطابوق على صدري، ليكن، سأضع رجلي فوق الجميع، وبعد أيام جلست مع الشاعر الرصافي.

ثم التقى بجماعة (الوقت الضائع) وساهم في إصدار مجلاتها ومعه (بلند الحيدري، وإبراهيم اليتيم، وحسين هداوي، وعدنان رؤوف) وغيرهم. لم يكن دخول مردان عالم المجون والصعلكة اختياريـًا ربما، وإنما قد يكون انسياقًا لاشعوري حيث وجد الشاعر فيه نفسه بعد أن تلبسته الغربة والعزلة والفاقة الحادة.

عمل في مجال الصحافة مصححـًا في جريدة (الأهالي) لسان الحزب الوطني الديمقراطي، وازداد شعوره بالأمان بعد أن تمكن من المكوث على سطح بناية الجريدة. كما هيأ له هذا العمل التعرف على عبد المجيد الونداوي، وغائب طعمة فرمان، والأستاذ عبد الملك نوري، “ومن هذه الأجواء بالذات ولدت الشخصيات الحقيقية لرواية (خمسة أصوات)” وبعد إغلاق الجريدة عاد مردان إلى حياة الشظف والعوز حتى أنه يقول: “في زمن ما بعت سروالي لكي أسكر بثمنه. كان معي غائب طعمة فرمان، وعبد المجيد الونداوي.. هكذا شربنا البنطلون في كازينو بلقيس” تنقل بعدها بين الصحف العراقية فعمل بجريدة (البلاد)، وأشرف على الصفحة الأدبية في جريدة (الأخبار) ثم في (المستقبل)، ثم عمل محررًا في مجلة (ألف. باء)، وآخر وظائفه في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون العراقي معاونـًا للمدير العام. فبات مردان بذلك مستويـًا على سوقه، فكان يحق له أن يتزاحم مع هؤلاء الشعراء الذين كانوا على ضربه ويواجههم بأفكاره، ومن الأعمال التي أسندت إليه: عضوية الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء العراقيين بعد ثورة 14 تموز 1958م، وسافر إلى الكويت في نفس العام ضمن الوفد الممثل لاتحاد الأدباء بالعراق لحضور مؤتمر الأدباء العرب الرابع، واختير لتمثيل الاتحاد في مؤتمر السلم العالمي لنزع السلاح مؤتمر موسكو عام 1962م.