لماذا «الإخوة كرامازوف» رواية آينشتاين المفضلة؟

Tuesday 15th of March 2022 11:15:07 PM ,
5147 (منارات)
منارات ,

أحمد عبد اللطيف

لم يصرح آينشتاين أبدًا ما الذي تعلمه بالتحديد من قراءة دوستويفسكي، ولا ما أثار فضوله الكبير تجاه أدبه. لكن العديد من عبارات صاحب نظرية النسبية تؤكد أن “الإخوة كرامازوف” كانت فتحًا لأفق بالنسبة إليه، والعمل الأدبي الذي أسره، كما أن العديد من علماء النفس والفيزياء تعاملوا مع النص الدوستويفسكي باعتباره نصًا علميًا.

وفي لقاء بين كُتّاب ومفكرين على هامش “هاي فستيفال كيرتيرو”، في مدينة مكسيكو سيتي، كان السؤال المطروح حول العلم والأدب يتمركز حول علاقة عالم الفيزياء العبقري بأحد أعظم الروائيين في التاريخ، وهو السؤال الذي فتحت إجابته جسرًا يجعلنا نعيد قراءة كل منهما على ضوء جديد، ويزيد من تقديرنا للكاتب الروسي.

يكتب دوستويفسكي: “قل لي بصراحة؛ لو أن مصائر البشرية بين يديك، وبوسعك أن تجعل الإنسان سعيدًا للأبد، لكن لتحقق له السلام والسكينة تضطر إلى تعذيب كائن حي، كائن واحد، هو هذه الرضيعة التي تضرب صدرها بقبضة يديها، لتشيد على دموعها سعادة المستقبل، فهل تفعل ذلك؟»

بهذا النوع من المعضلات، يواجه دوستويفسكي شخصياته وقارئه، ومن هذا المنطلق تقول عنه فيرجينيا وولف: “بالإضافة لشكسبير، ما من قراءة قادرة على إثارة العواطف مثل دوستويفسكي».

المقطع السابق من رواية “الإخوة كرامازوف”، أكثر الروايات سحرية على الإطلاق بحسب سيغموند فرويد، أبو التحليل النفسي. وفرويد، مثل آخرين كثيرين، صرحوا بأن هذا العمل يمثل أعلى درجات الإنجاز الأدبي العالمي.

مع ذلك، تعد علاقة آينشتاين بدوستويفسكي علاقة أعمق مما يبدو، وأعمق من علاقة بقية العلماء بالكاتب الروسي الأهم على الإطلاق. وبحسب كتاب ألكساندر موسكوفسكي، أول من كتب كتابًا عن صاحب النسبية، فآينشتاين كان يقول: “تعلمت من دوستويفسكي أكثر مما تعلمت من أي مفكر علمي آخر، بمن فيهم غاوس”. وكان كارل غاوس أحد الرواد في مجال الهندسة اللاإقليدية، التي كانت أساس نسبية آينشتاين.

وكما يشير المؤلف المكسيكي خوسيه جوردون في كتابه “كون يصعب إدراكه: أحلام الوحدة”، فإحدى شخصيات دوستويفسكي “كانت تحاول التعرف على هندسات لامرئية، هندسة وراء الهندسة التي تهرب من الأبعاد التي يمكن أن نقدرها».

هذه الشخصية هي إيفان كرامازوف، الملحد والعقلاني، الذي كان يتبنى عجزه أمام قبول الكون وانسجام الإله كأحد نتائج محدودية عقله، وكان يقول إن عقله إقليدي أرضي، ثلاثي الأبعاد، أما الانسجام الإلهي فيبدو أنه يعمل في البعد الرابع.

يقول جوردون إن “آينشتاين كان يتحاور ليلًا مع رجل أدب يعيش في رواية”. وهذه الشخصية “المصنوعة من الأدب” كانت تتصور أن الإله لو كان موجودًا وخلق العالم، فلا بد أنه خلقه طبقًا لهندسة إقليدس. ومع ذلك، ثمة متخصصون في الهندسة، وثمة فلاسفة، يشكّون في ذلك. وينقل جوردون عن آينشتاين “لقد توصلت إلى نتيجة مفادها أني لو لم أفهم ذلك فلن أفهم الإله”، في إشارة “للحلم بالتقاء خطين متوازيين في مكان ما من الكون”، بحسب ما اقترح إقليدس عن استحالة التقائهما في الأرض. وهي الفكرة التي طرحها دوستويفسكي، ويشير إليها عالم الرياضيات ديفيد فولر في مقاله “الرياضيات كخيال علمي” بقوله: “تأملات دوستويفسكي حول الزمن والمكان يمكن اعتبارها متسقة، بالمعنى الكيفي، مع إطار نظرية النسبية الخاصة».

ثمة متحدث آخر يمكن أن يشارك في هذا “الحوار الشبحي”، بالإضافة لإيفان كرامازوف، إنه الشيطان الذي، بسبب نسبية الزمن، يسير من دون ساعة، بملابس بالية، ويصل متأخرًا إلى مواعيده.

“إيفان كرامازوف، الملحد والعقلاني، كان يتبنى عجزه أمام قبول الكون وانسجام الإله كأحد نتائج محدودية عقله، وكان يقول إن عقله إقليدي أرضي، ثلاثي الأبعاد، أما الانسجام الإلهي فيبدو أنه يعمل في البعد الرابع»

«كنت بعيدًا جدًا، ولكي أصل إلى الأرض، تحتم عليّ عبور الفضاء. وبالطبع، هذه مسألة تستغرق ثانية واحدة بالنسبة لي، رغم أن ضوء الشمس يتأخر ثماني دقائق”، إنها ذريعة الشيطان لتأخره. هذا الشيطان يطرح، بالإضافة إلى ذلك، مفاهيم زمنية صعبة الإدراك، مثل مفهوم الخلود، ويرسمه ببراعة عندما يحكي أسطورة تنتهي في بداية الحكاية.

يحكي عن فيلسوف حين يموت بدلًا من مقابلة الظلام والعدم، يجد حياةً أمامه في الفردوس. ولأن ذلك يتناقض مع مبادئه، يشعر بالاستفزاز والغضب، فيُحكم عليه بالسير ملايين الكيلومترات. يعترض لمدة ألف عام، ثم يبدأ في السير.

ـ ألا يتساوى البقاء نائمًا للأبد مثل التجول أربعة ملايين كيلومتر؟ هذه الكيلومترات ستستغرق بليون عام.

- ربما أكثر. لو معنا قلم وورقة يمكن أن نحسبها. لكنه أنهى مسيرته منذ زمن طويل، ومن هنا تبدأ الحكاية، يجيب الشيطان.

بعض العلماء أكد أن الروائي الأعظم قد ألهم الفيزيائي العظيم نظرية النسبية العامة، وهي وجهة نظر لها وجاهتها. في عام 1880 صدرت “الإخوة كرامازوف”، بعد عام من ميلاد آينشتاين (وبعد عدة أشهر من موت دوستويفسكي)، وقبل عقود من اقتراح العالم الفيزيائي بطريقة مختلفة لفهم العالم واستقباله. هكذا كان محتملًا وشعريًا، أيضًا، أن يلهمه العمل الأدبي بالشرارة الأولى والفكرة الأسعد في حياة آينشتاين.

لكن ثمة حقيقة أخرى، أن آينشتاين طور النظرية العامة للنسبية بين عامي 1907 و1915، وبحسب الرسائل المتبادلة مع عالم السموم السويسري، هاينريش زانغر، والفيزيائي النمساوي، بول إهرينفست، نعرف أنه لم يكن قد قرأ ما ستغدو روايته المفضلة بعد خمس سنوات، 1920. وفي رسالة مؤرخة بـ 7 نيسان/ أبريل 1920، كتب آينشتاين للعالم النمساوي: “وقعتُ في أسر الإخوة كرامازوف. إنه كتاب ساحر. من المؤسف أني لم أقرأه من قبل».

«أسعد فكرة في حياته” كانت، بحسب ما كتب، “تخيل شخص يسقط من سطح بيت وينتبه إلى أنه لا يشعر بوزنه ذاته”، وهي الفكرة التي فاجأته عام 1907 وفتحت الطريق لنظرية النسبية. لكن، فكرة ألا تكون “الإخوة كرامازوف” منبع الإلهام المباشر لنظرياته العلمية لا تنفي الصلة بين دوستويفسكي وآينشتاين.

أخلاق لا فيزياء

يعتقد الفيزيائي، ومؤرخ العلوم، بوريس كوزنتسوف (1903 ـ 1984)، أن سر العلاقة بينهما ليس في المقاطع التي تلامس الفيزياء في روايات دوستويفسكي، وإنما في الهامش الإنسانوي الذي يتمتع به آينشتاين ويطبقه على العلم. ويوضح ذلك بأن “جوهر النص الأدبي لدى دوستويفسكي هو البحث عن هارموني كوني لا يتجاهل مصائر الأفراد ومعاناتهم، وجوهر العمل العلمي عند آينشتاين هو محاولة اكتشاف هارموني ميكروسكوبي لا يتجاهل العمليات الميكروسكوبية».

“آينشتاين طور النظرية العامة للنسبية بين عامي 1907 و1915، وبحسب الرسائل المتبادلة مع عالم السموم السويسري، هاينريش زانغر، والفيزيائي النمساوي، بول إهرينفست، نعرف أنه لم يكن قد قرأ ما ستغدو روايته المفضلة بعد خمس سنوات»

ليؤسس لرؤية آينشتاين، يشير كوزنتسوف إلى مقاومة صاحب النسبية لقبول اكتشافات الميكانيكا الكمية التي كانت تقترح أن طبيعة العمليات الميكروسكوبية عشوائية وغير محددة.

فكرة أن الإله لا يلعب ولا حتى بمصير الجزئيات الأصغر، بحسب كوزنتسوف، تبدو جلية في هذا السؤال المستحيل حول تأسيس السعادة البشرية على دموع طفلة بريئة. هذه هي أخلاق دويستويفسكي الذي يعبّر عن شخصياته، وهي أخلاق آينشتاين المعكوسة في علمه، فالمسألة ليست فيزياء حين ينظر آينشتاين لعمل دوستويفسكي.

خطوط متوازية

الأكيد أن آينشتاين وقع في غرام “الإخوة كرامازوف”، وفي “كون يصعب إدراكه” يطرح خوسيه جوردون سحر العلم، وذكّرنا فيه المؤلف أن هذا الفيزيائي يبرهن لنا أن “الفضاء غير المرئي يتمتع بمنحنيات”، وأن “في الفضاء المنحنى يمكن أن يتلاقى خطان متوازيان ويتبادلان القبلات».

وجوردون يدعونا لنتخيل: “صديقنا الأعز يمكن أن يطير في خط مستقيم، أن يحلق فوق رؤوسنا، ويبتعد عنا حتى حدود الكون للأبد، لكن إن كان الفضاء منحنيًا، بعد آلاف الملايين من السنين، يمكن أن يدور ويلمس ظهرنا، مثل مشاعر حب تعود بشكل متعرج، ولا يمكن تفسيره».

*هذه المادة مجتزأ من لقاء بين كتاب ومفكرين على هامش “هاي فستيفال كيرتيرو” بمكسيكو سيتي، حول العلم والأدب وعلاقتهما، بناء على علاقة آينشتاين ودوستويفسكي.

عن موقع ضفة ثالثة