صيد الأسود في العراق.. روايات من القرن التاسع عشر

Sunday 3rd of April 2022 09:55:47 PM ,
5158 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

علي أبو الطحين

تزخر الجداريات الفنية للآثار البابلية والأشورية في حضارات وادي الرافدين بأمثلة عديدة لرياضة صيد الأسود في البراري والأنهار العراقية. كما تحمل الذاكرة الشعبية العراقية جملة من الحكايات والأمثال والكنايات عن أبو خميس متوارثة من تاريخ العراق القديم. ولم تختفي الأسود فعلياًفي العراق، إلا في العقود الأولى من القرن العشرين.

دون العديد من الرحالة الأجانب على شواهد للأسود في كتب رحلاتهم ومغامراتهم في العراق، فأنثوني شيرلي ذكر في رحلته من حلب الى بغداد سنة 1599 بأنه كان يشاهد الأسود تأتي لترتوي صباح كل يوم من نهر الفرات، وكتب جون كيننير أنه عند زيارته العراق سنة 1813، شاهد عدد من الأسود بين بغداد والبصرة في الأحراش على جانبي النهر. ونقل عن أحد أصدقائه بأن قنوات نهر الحي تكتض بالأسود. وفي ذكريات القنصل الروسي في بغداد بيير بونافيدين عدة صفحات عن صيد الأسود في العراق، ذكر فيها رواية سمعها عن بنت شيخ المنتفك التي طلبت ان يكون عريسها من يستطيع قتل الأسد الذي أرعب المنطقة. فنالها ذلك البطل الذي شق بطن الأسد بخنجره. وأكد هذه الرواية المؤرخ يعقوب سركيس نقلاً عن المرحوم عبد المحسن السعدون، حيث ذكر له ان والده فهد باشا السعدون، وعد بتزويج أبنته لمن يتقدم من أبناء عمها بقتل الأسد الذي أرهب المنتفك، وفعلاً حدث ذلك.

ولعل يوميات جوزيف زفوبودا هي أكثر المصادر أهمية في توثيق مشاهدة الأسود في العراق وفي تفاصيل صيدها التي قام بها بنفسه. كان جوزيف زفوبودا المولود في بغداد سنة 1840، يعمل محصلاً وكاتباً على بواخر شركة لنج للنقل النهري بين بغداد والبصرة لأكثر من أربعين عاماً، منذ سنة 1862. ودأب خلال تلك السنوات على تدوين يومياته بالتفاصيل في دفاتر مذكراته حتى وفاته سنة 1908. وفي صفحاتها أشارات عديدة عن الأسود.

وضع جوزيف زفوبودا مقال بعنوان “بين الأسود”، عن قصة لم يسبق لها مثيل في صيد الأسود في بلاد الرافدين نشرت في جريدة “الأوقات الهندية” يوم 21 نيسان 1874.

كان جوزيف زفوبودا في رحلة للعودة من البصرة الى بغداد على متن الباخرة “مدينة لندن” العائدة لشركة لنج تحت قيادة القبطان كاولي ومساعده، أخيه هنري زفوبودا. أنطلقت الباخرة من البصرة يوم 18 آذار 1874، ووصلت القرنة في الساعة العاشرة ليلاً. أضطرت الباخرة، بعد مغادرة القرنة بساعة واحدة، الى التوقف بسبب أرتفاع منسوب المياه وانغمار ضفتي نهر دجلة وصعوبة معرفة المجرى الرئيسي تحت جنح الظلام. عند أنفلاق الصباح تحركت الباخرة مرة أخرى، وعند حوالي الساعة السادسة صباحاً، شوهد ثلاثة أسود كبيرة تسير وتخوض في الماء على الشاطئ، تسبق الباخرة بحوالي ميل الى الامام. حالما أقتربت الباخرة منهم بدء القبطان والطاقم بالرمي بالبنادق نحوهم، ولم تكن المسافة تتجاوز الخمسين ياردة، أصاب هنري زفوبودا الأسد الأخير عندما وثب يحاول ان ينقض نحو الباخرة، فقتله. وتم أنزال مركب مع مجموعة من الرجال لحمله الى الباخرة. وبينما كانت الباخرة تمضي قدماً، أصبح الأسدان الأخران في مرمى النيران، وبعد عدة أطلاقات، تمكن الكابتن كاولي أصابة أحدهم مقتلاً، وأما الثاني الذي كان قد أصيب في رجله، فكان قد أستدار نحو الباخرة بزئير يصم الآذان، فعالجه جوزيف زفوبودا بأطلاقة وأسقطه. أقتربت الباخرة نحو الساحل وتم حمل الصيد الى سطح الباخرة، وتبين عندها ان الأسود الثلاثة هن لبوات، وكانت الأخيرة وهي الأكبر حامل بأربعة أشبال.

بعد مسير الباخرة في النهر لعشرة دقائق، لاحظ جوزيف على بعد نحو ألف ياردة أمام الباخرة، وعلى عمق حوالي مائتي ياردة من ساحل النهر، في بقعة أرض تحيطها المياه، يجلس أسد آخر. في البدء ظن أنه كلب، حيث هناك أكواخ للعرب على الضفة المقابلة للنهر. أخرج جوزيف المنظار للتأكد، فأندهش بوجود أسد ذكر كبير وله لبدة كثيفة. وعندما أقتربت منه الباخرة أطلق جوزيف النار عليه. مرت الطلقة من فوق رأسه، فنهض الأسد غاضباً وزئر مدوياً، وأنتصب شعر لبدته وهو يتقدم نحو الباخرة، فوقف على جرف الجزيرة. منح هذا لجوزيف فرصة ثمينة للتصويب، فأصاب أرجله الأمامية، وحين أستدار عائداً، أصابته طلقة ثانية في الخلف، فتقدم نحو الباخرة مرة أخرى بمنظر غاضب مخيف للغاية،فنال طلقة ثالثة في كتفه، وبعد أن أنتصب لبضع ثوان سقط على الارض ميتاً.

تم حمله الى الباخرة، فوجد أن طوله من الرأس حتى نهاية الذيل، 9 أقدام و 6 بوصات ؛ وطول الجسم 6 أقدام و 7 بوصات ؛ وأرتفاعه 3 أقدام و 9 بوصات ونصف ؛ أما الوزن فكان 420 رطلاً (190 كيلوغرام).

عندما توقفت الباخرة في العزير تجمع العرب على سطح المركب لمشاهدة الأسود، وذكروا أنهم شاهدوا هذه الأسود منذ أيام وكانت قد جاءت من أهوار الحويزة بسبب أرتفاع مستوى المياه.

في يومياته ذكر زفوبودا بأنه تم سلخ الأسود الأربعة وحافظ عليها بوضعها في الملح حتى وصولهم بغداد في يوم 24 آذار. حيث أرسلت الجلود للدباغة ومن ثم قام بمساعدة خادمه بملئ جلد الأسد الذكر بالقش. تأسف لعدم ظهور الأسد بشكله الأصلي، فالجسم والأطراف كانت نحيفة بسبب أنكماش الجلد في الدباغة، لكنه كان سعيداً بمظهر الرأس وشكله الوجه الحقيقي.

صادف وصول جوزيف زفوبودا مع الأسود الى بغداد وجود القس الأمريكي جون نيومان وزوجته عند سياحتهم في العراق. سرد نيومان في كتاب رحلته الذي صدر في نيويورك سنة 1876، قصة صيد الأسود كما سمعها من زفوبودا ووضع اللوحة الجميلة المرفقة للأسد في أحد صفحات الكتاب.