28 آذار 1954 كارثة الفيضان الشهيرة..ما أذكره من أيام الفيضان

Sunday 3rd of April 2022 09:59:00 PM ,
5158 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

نصير الجادرجي

لم تكن قد مضت مدة وجيزة على وجودي في الوظيفة حتى داهم العراق أخطر فيضان في تاريخه. كان ذلك في ربيع عام 1954. وكانت الأحوال الجوية شديدة البرودة مع كثرة الامطار التي هطلت في اواخر عام 1953 واوائل 1954 وقد أكدت ان فيضاناً خطيراً سيداهم العراق وهو ماحصل بالفعل.

فكانت مناسيب المياه في نهر دجلة قد بدأت بالارتفاع في أواسط شهر آذار/مارس من عام 1954، لتصل ذروتها في اليوم الخامس والعشرين منه، وقد اعلنت البلاغات الرسمية حينها بأن الزيادة لم يسبق لها مثيل منذ 48 عاماً، فتولى الجيش والشرطة والاهالي حراسة السدود، ووزعت الدوائر المختصة المواد اللازمة لمجابهة الفيضان.

كانت ليلة 29 اذار/مارس من أسوأ الليالي التي شهدتها بغداد في حينه، وصارت مياه الفيضان التي تجمعت خلف السدود المحيطة بها من الشرق تهدد العاصمة بغداد بالغرق ولا يحول بينها وبين الكارثة سوى (سدة ناظم باشا التي كان مكانها طريق المرور السريع حاليا) حيث كانت تحيط ببغداد من الناحية الشرقية وكان الهزال قد أصابها واخذت الرياح الشرقية تضغط عليها.

في تلك الليلة اجتمع رؤساء الوزراء السابقون والوزراء والمسؤولون وبعض النواب والاعيان، واتخذ مجلس الوزراء بعد مناقشة دقيقة للموقف قراراً يقضي باخلاء بغداد اخلاءً جزئياً، وجاء في البيان المزمع إصداره “أنه من المستحسن ان ينقل الشيوخ والاطفال الصغار والمرضى من المناطق المجاورة للسداد الشرقية إلى جانب الكرخ..” كان أغلب سكان بغداد آنذاك يقطنون في جانب الرصافة المُعرّض للغرق.

حينذاك سأل وزير الداخلية السيد (سعيد قزاز) مهندس الري عن درجة الخطر المحدق بالعاصمة، فلما اجابه المهندس ان درجة الخطر قد تصل الى مايقارب 80‌%، اعلن القزاز انه يخالف هذا القرار ويتحمل مسؤوليته لما يولد تنفيذه من إرباك قد يؤدي إلى التهلكة.

ذكرني ذلك الموقف بتعليق والدي (كامل الچادرچي) في أثناء محاكمة (سعيد قزاز) أمام المحكمة العسكرية الخاصة (محكمة الشعب) بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 حين حكمت عليه بالاعدام، فعلّق والدي قائلاً: كان يجب ألايُحكم بالاعدام، بسبب موقفه من فيضان 1954.

كان الرأي قد استقر على ان تتضاعف جهود العناية بالسدود، وان تتخذ كافة التدابير الضرورية لمجابهة الاحداث المتوقعة في كل لحظة. وأصدر وزير الداخلية بياناً إلى الشعب العراقي بنبرات حزينة، كذب فيه الاخبار التي تحدثت عن بعض الكسرات في سدود مدينة بغداد.

كان فيضان دجلة في ربيع عام 1954 أخطر التحديات التي واجهت الشعب العراقي وجابهت حكومته حينذاك، وقد سخّرت الحكومة كل قدراتها لدرء الفيضان وإنقاذ العاصمة من الغرق.

شخصياً مررت كما مر أهالي بغداد بمواجهة ذلك الفيضان، لكني سأبدأ حديثي الشخصي عنه بذكر حادثة أبين من خلالها الجانب السلبي والايجابي لتصرف الموظفين الكبار والموظفين الأدنى منهم والاعتزاز بشخصيتهم واحترام وظيفتهم واتخاذهم القرار.

رحلة «تحت ضوء القمر»!

كنت في تلك الأيام موظفاً في ديوان وزارة المواصلات، وكانت عدة مديريات تابعة لهذه الوزارة، منها الري والميناء والسكك الحديدية والبرق والبريد والاشغال العامة وغيرها.

وكان مقر الوزارة يطل مباشرة على نهر دجلة – مكانها فندق ميليا المنصور حالياً-.

وفي أحد أيام الفيضان وصلت صباحاً الى الوزارة ليخبرني زميلي الموظف (حمدي قدوري) الذي كان خفراً – تم استحداث نظام «الخفارة» للوزارة جراء الفيضان-، فقال لي:

يوم أمس حضر وزير المواصلات (السيد عبد المجيد عباس) مصطحباً زوجته وكذلك رئيس الوزراء (د. فاضل الجمالي) الذي اصطحب زوجته أيضاً، وبعد وصولهم خرجوا بجولة نهرية (متفقدين فيها) حالة الفيضان!، مضيفاً بأن الجولة قد استغرقت أكثر من ساعتين، إستقلوا خلالها زورق الطوارىء المُرسل الى الوزارة من ادارة موانىء البصرة.

دهشت لما سمعت منه لكن دون أن أبدي رأيي تجاهه، وفي عصر ذلك اليوم وكالعادة كنا نلتقي مع مجموعة من السياسيين في مقر الحزب الوطني الديمقراطي، وكان الاستاذ فائق السامرائي، وهو من قياديي حزب استقلال، يأتي يومياً مع مجموعة أخرى من السياسيين للاجتماع في مقر الحزب.

وكان الجميع منشغلا حينها بتداول أخبار الفيضان وخطورته المحدقة بالعاصمة بغداد متحدثين عن مصير أهاليها، فتداخلت بحديثهم راوياً لهم موضوع الجولة النهرية.

وبعد أن أنهيت الحديث خاطبني الاستاذ فائق السامرائي صاحب امتياز جريدة (الجريدة) المسائية بنبرة غاضبة كرد فعل على ما سمع، فقال:

لولا خوفي عليك لكنت قد كتبت في جريدتي هذا الموضوع!!..

أجبته قائلا: لا يهمك.. اكتب ما تشاء واعتبرني مستعداً لتلقي العواقب!.

قال فائق للحاضرين: إن كانت جولتهم تلك بمهمة رسمية وتفقدية وبزورق حكومي، فلماذا يصطحبون زوجاتهم معهم؟!.

وفي اليوم الثاني مباشرة خرج مقال في الجريدة المذكورة بعنوان: «رحلة تحت ضوء القمر»!.

في صباح اليوم الثاني وحال دخولي الى مقر العمل، ارسل بطلبي السيد مدير الذاتية «الان تسمى شعبة الافراد» حيث كنت أعمل فيها.

قال لي المدير وهو السيد (حنا فتوحي) حسبما اتذكر (ابو باسل)، ان السيد الوزير غاضب جداً على تسرب أخبار رحلته النهرية مع رئيس الوزراء، وأمر بتشكيل لجنة تحقيقية برئاسته (أي مدير الذاتية)، مضيفاً بأنه ابلغ الوزير بإعتقاده أن الذي سرب الخبر للصحيفة هو نصير الچادرچي، معربا عن اعتذاره قائلاً بأنه كان قد استعجل بإبلاغه للوزير بإسم من سرب الخبر.

قاطعته قائلا: خير ما فعلت، فأنا من أخبر السيد (فائق السامرائي) بالحادثة، ومستعد كل الاستعداد لأبين رأيي في هذا الموضوع، مضيفاً له بأن الصحف الاخرى ستثيره من كل جوانبه. وحينها (سنلعب طوبة) بالوزير ومن معه جراء جولتهم النهرية تلك!.

دهش المدير لما أبديت من عدم مبالاة بالحدث، وبعد ساعة أرسل بطلبي فقال:

لقد قدمت الأمر الأداري المطلوب لتوقيعه من قبل معالي الوزير، لكن أثناء تقديمي قلت له انك أعلم مني بهذه الأمور، وان نصير هو ابن (كامل الچادرچي)، قد اعترف لي صراحة بأنه هو من سرب الخبر للجريدة، لكنه لم يبال بما سمع، وسيكون (فائق السامرائي) ونصير وغيره مسرورين فيما لو عوقب نصير، وسيجعلون منها قضية رأي عام يتداولونها في صحفهم وقد تستفز الناس في ظروف عصيبة كهذه... والأمر يعود لمعاليكم.

فقال له الوزير: انتظر قليلاً كي أخبرك بالعمل المطلوب. وبعد اقل من ساعة استدعاه الوزير وقال له: أترك الموضوع، وإنصافاً للحقيقة لم يبعث الوزير بطلبي ولم يعاتبني على ذلك.

كانت بغداد تعيش أزمة حقيقية في تلك الأيام من عام 1954، جرّاء هجوم مياه دجلة عليها، وقد أدرك الناس حينها بالخطر المحدق الذي يهدد حياتهم وحياة أسرهم فيما لو اجتاحت المياه العاصمة.. كان الجيش والشعب قد شمّروا عن سواعدهم، لإنقاذ مدينتهم من خطر الفيضان، اضافة الى المساعدات الدولية التي انهالت على العراق آنذاك.

كنت قد جعلت من بيتنا (خلية أزمة)، لتصبح غرفتي مقرا لشباب المنطقة، كان من جملتهم الشاعر بلند الحيدري واياد سعيد ثابت والكثير من شباب منطقتنا والأصغر منا سناً وفي طليعتهم (طالب البغدادي) وغيرهم.

كنا في بداية كل اجتماع نستمع لآخر أخبار الفيضان التي كانت تبث من على موجات الأثير عبر الاذاعة، ثم نخرج بعدها متجمعين ليلا الى السدة، وفي طريق ذهابنا اليها، كنا نحث الناس على العمل معنا لانقاذ عاصمتهم من الغرق، لينضم الينا هذا وذاك حتى نصل الى هدفنا بمجموعة أكبر من التي خرجت معنا جراء انضمام العديد من الشبان إلينا في الطريق، حيث كنا كمواطنين نشعر بمسؤولية الدفاع عن مدينتنا العزيزة.

كنَا نشاهد ايضا المئات من شباب الكليات يعملون بجد وسط هتافات حماسية وأغانٍ بحب الوطن وبعث روح الهمة لاجتياز المحنة. كنا نعمل بجد ومثابرة عبر وضع التراب على السدة لاحتواء الماء وعدم عبوره الى العاصمة، وقد كان كل منا يحمل بيده (الكرك) وينهال بالتراب بكل طاقته على السدة، حتى تخور قوانا لنعود الى (مقر خلية الأزمة) قرابة الواحدة فجراً، لنكمل عملنا في صبيحة اليوم الثاني، لكن بتنسيق مع افراد الجيش الذين كانوا يعملون بجد لانقاذ العاصمة، وقد كان ذلك العمل مستمراً طيلة أيام الفيضان المرعبة.

كانت كلية دار المعلمين العالية (كلية التربية حالياً) مقراً لتجمع الطلاب في الوزيرية لقربها من السدة الشرقية المهددة بالانهيار للعمل في تقويتها.. وذلك لوجود قسم داخلي كبير فيها تقدم لنا من خلاله الاطعمة البسيطة من مطعمه.

كما أتذكر في إحدى الأيام مجيء الوصي وبصحبته رئيس الوزراء (فاضل الجمالي) في سيارتيهما الخاصة دون أية حراسة، فأسمعناهما الهتافات الوطنية وطالبناهما بإنجاز مشاريع السدود لحماية بغداد من الفيضان الذي كان يتكرر في كل عام.

بعد انقاذ بغداد من الفيضان وانحسار المياه عنها صدر قرار من مجلس الوزراء بمنح بعض الاسماء (نوط انقاذ الفيضان) نتيجة لعملهم الجاد بإنقاذ العاصمة منه، وقد كان اسمي من ضمن الممنوحين، ولازلت أحتفظ بذلك النوط، اعتزازاً مني بالدور الذي قمت به مع أقراني لحماية مدينتنا الحبيبة من الغرق.

عن: مذكرات نصير الجادرجي، دار المدى