ظاهرة عبد الحليم حافظ… 45 عاماً من الشدو والحضور

Tuesday 5th of April 2022 10:28:42 PM ,
5160 (منارات)
منارات ,

كمال القاضي

حين توفي المطرب عبد الحليم حافظ في 30 مارس/آذار عام 1977 كانت وفاته حدثاً فنياً وثقافياً كبيراً، فقد تناقلت الصحف العربية ووكالات الأنباء الخبر على نطاق واسع، وعندما وصل جثمانه من العاصمة البريطانية لندن، حيث كان المطرب الكبير يُعالج هناك كانت الجماهير التي جاءت من كل حدب وصوب في استقباله في مطار القاهرة قبل أن تخرج عن بكرة أبيها لوداعة في موكب جنائزي مهيب.

ومنذ ذلك الحين والاحتفالات بذكرى حليم لم تنقطع عاماً واحداً، فقد أصبحت عادة سنوية يحرص عليها جمهوره بلا تفريط، كأنه يتنسم، في عبير الربيع الذي كان يحييه بأغنية جديدة في كل موسم، رائحته، وهو نوع نادر من الوفاء لم يحظ به مطرب غيره، سواء من سبقوه أو من لحقوه، الأمر الذي يدعو للدهشة والتساؤل عن سر هذا الحب الجارف من قبل أجيال مُختلفة من الجمهور، تجاه الرجل الذي رحل من أربعة عقود ونصف العقد، وما زال تأثيره باقياً إلى الآن، رغم أن معظم من يرتبطون به لم يروه ولم يعاصروه.

لقد صدق عبد الحليم في أدائه وإحساسه فصدّقته الجماهير وارتبط بهم فارتبطوا به، تلك هي مُعطيات بقائه الفني والإبداعي، غير أنه سبق عصره في تطوير الأغنية العربية والشرقية، وأخرجها من قوالبها القديمة المُتمثلة في الأدوار والموشحات والطقاطيق، لتُصبح أكثر عصرية وملاءمة لمراحل التنوع والابتكار، من غير انفصال عن الأصالة والتراث اللذين مثلهما عصر سيد درويش ومحمد عبد الوهاب، فقد بدأ عبد الحليم حياته الفنية بأغاني عبد الوهاب، ثم ما لبث بعد أن رسخ أقدامه في الساحة الغنائية أن غنى لنفسه مُعتمداً على ألحان جديدة، وكلمات جديدة وصياغة أخرى تناسب خامة صوته الرقيق ورهافة إحساسه الفريد.

وكما هو معلوم كانت أغنية «صافيني مرة» التي لحنها له رفيق دربه محمد الموجي بداية انطلاقة في عالم الشهرة لتتوإلى بعدها أغنياته واحدة تلو الأخرى، وفي حياة العندليب الأسمر الشخصية مواطن كثيرة للتأمل والشجن، فهو الابن اليتيم الذي قست عليه الأيام وأودع ملجأ الأيتام ليكون في كفالة ذوي الرحمة، بعد أن انشغل عنه الأهل والأقارب، وربما تلك الفترة بالتحديد من حياة الطفل عبد الحليم علي إسماعيل شبانة، هي التي صبغت صوته بالحزن فصار مؤثراً إلى حد البكاء، إذ كان غناؤه محض اجترار لسيرته وذكرياته المؤلمة الحزينة، ولعله السر الذي جعل منه أسطورة غنائية إبداعية في ما بعد.

لقد غنى شقيق عبد الحليم الأكبر الذي التحق قبله بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، والمعروف باسم إسماعيل شبانه كثيرا من الأغنيات في الإذاعة، لكن لم يجد صوته الصدى الذي وجده صوت شقيقه الأصغر، رغم سلامة الأداء واكتمال عناصر النجاح، وهو الأمر الذي كان يتجنب عبد الحليم الحديث عنه تماماً، فهو لم يقف بالضبط على الأسباب التي أبعدت إسماعيل عن بؤرة الضوء، فاعتبر في نظر الكثيرين مجرد مؤد مجتهد وحسب، وهو الشيء المحير أيضاً للموسيقيين والملحنين الذين عاصروه ورأوا في صوته كل مقومات التميز والنجاح.

لقد عرف حليم من أي الأبواب يدخل قلوب مُستمعيه، فحرص على تجنب المواويل الشعبية التي كانت مُنتشرة وقت ظهورة وانتبه إلى أهمية الجُمل اللحنية القصيرة ذات الإيقاع السلس كأغانيه الأولى «يا حلو يا سمر وشغلوني ويا سيدي أمرك وتخونوه والحلوة حياتي» إلى آخر الأغاني والألحان التي غناها في إطار درامي في بعض أفلامه وكانت سبباً في شهرته المُبكرة وذيوع صيته. كما أن ذكاء عبد الحليم الاجتماعي كان عاملاً قوياً في اتساع دائرة علاقاته واقترابه من كبار الشخصيات الأدبية والثقافية والسياسية والصحافية، فلا شك أنه كان يُحيط نفسه بشبكة قوية من ذوي التأثير والسُلطة، هذا بالإضافة إلى اعتنائه بنفسه كموهبة صاعدة يستدعي نجاحها واستمرارها القراءة والاطلاع والدأب والبحث عن الجديد والمُختلف من الأغاني والألحان، وحتى في عالم السينما اقترن أول ظهور له بمواهب كبرى في التمثيل كفاتن حمامة وشادية وماجدة وآمال فريد وإيمان ومريم فخر الدين وزبيدة ثروت ولبنى عبد العزيز وعمر الشريف وأحمد رمزي، وأيضاً عمل مع كبار المخرجين كحلمي حليم وحلمي رفلة.

واستعان نجم الأغنية العربية بنخبة مهمة من شعراء الأغنية، حسين السيد وفتحي قورة ومرسي جميل عزيز وكامل الشناوي، ومن الملحنين الموجي وكمال الطويل، ثم بعد ذلك تعاون مع صلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي ومحمد حمزة وعبد الفتاح مصطفى كأهم كُتاب الأغنية في مرحلة الستينيات وما بعدها، وربطته علاقة وثيقة بأحمد فؤاد حسن والفرقة الماسية والموسيقار الكبير علي إسماعيل، الذي وزع له الغالبية العظمى من الأغاني الوطنية وهي النقلة النوعية الأهم في حياته الفنية.

لم يعتمد المطرب الراحل على تمكنه من أداء الأغنية العاطفية وشعبيته الكاسحة فيها، لكنه عمد إلى التنويع ودخول مضمار الأداء الحماسي للأغنية الوطنية، فقدم نشيد «وطني الأكبر» مع المجموعة المُختارة من الأصوات، صباح وشادية ونجاة وغيرهم فنجحوا معاً واكتسبوا ثقة الجمهور المصري والعربي على السواء، وفي إبداعاته الفردية قدم ملاحم القتال والانتصار في «يا أهلاً بالمعارك وبستان الاشتراكية وخلي السلاح صاحي وعدى النهار واحلف بسماها وفدائي وصورة وبالأحضان» وأغنيات كثيرة أخرى كان لها تأثير بالغ في مراحل الوطن المُختلفة وبالقطع ضاعفت من جماهيريته في مصر والعالم العربي كله.

وظل المطرب الراحل مُتمسكاً بالقيمة الجوهرية في كل أعماله فلم يستجيب لإغراءات المقاولين والتجار من صُناع السعادة على حد الوصف الدارج لهم فلم يغن في علب الليل والكباريهات، بل ارتبط فنه بالذوق الراقي دليلاً على إحساسه بالمسؤولية تجاه نفسه وفنه ومُجتمعة، فبقي هو المطرب الفارق شكلاً ومضموناً ورمزاً لجيل كامل من عشاق الأغنية الرومانسية والوطنية.