عبد الحليم حافظ.. الغرام الدائم

Tuesday 5th of April 2022 10:31:46 PM ,
5160 (منارات)
منارات ,

د. سيّار الجَميل

لا اعتقد ان فنانا عربيا قد احبه الشباب وعشقوا اغنياته قدر الفنان المصري الشهير عبد الحليم حافظ الذي اهاج الدنيا العربية باغنياته ذات الالحان الخفيفة والنقلات السريعة والصوت الصافي.. ويعتبر عبد الحليم حافظ نقلة نوعية مؤثرة في فن الغناء المصري اذ نقل الاداء من حالة الطرب الصعب والالحان الثقيلة والاهات والليالي الطويلة الى حالة جديدة غير مألوفة على الاذن الموسيقية العربية.

وقد نجح في أدائه نجاحا باهرا فاستقطب الشباب بشكل خاص فضلا عن خصائص اخرى تميز به منها جاذبيته في شبابه البكر وخصوصا في أفلامه السينمائية او حركاته بكامل جسمه وتمايله مع حركة الموسيقى وهو يتأوه او يغني على المسرح! ان عبد الحليم حافظ قد انتصر في حداثة الاغنية المصرية وساهم في جذب الملايين العربية اليها وكان ولم يزل يعد ظاهرة فنية لا تبارى وخصوصا وانه يعد ابو الاغنية الوطنية المصرية التي عدّ فيها ممثلا رسميا لمصر عبد الناصر اذ اشتهر باغنياته الدعائية للمشروع الناصري مستقطبا كل التوهجات والالوان التي كانت تنتشر في دنيا العرب قاطبة!

حصل على بكالوريوس المعهد العالي للموسيقى العربية في قسم التلحين العام 1948، وقد عمل أربعة سنوات مدرسا للموسيقى في طنطا ثم في الزقازيق وأخيرا في القاهرة وقدم استقالته من التدريس في العام 1959 ثم التحق بفرقة الإذاعة الموسيقية عازفا لآلة الابوا في العام 1950 والتي كانت البداية الحقيقية له عندما تحرر من قيد الوظيفة وتيسرت له سبل الالتقاء بأهم الرموز الفنية التي كانت تتحكم في عالم الموسيقى والألحان في ذلك الوقت أمثال: كمال الطويل وحافظ عبد الوهاب مدير البرامج الإذاعية الذي كان أول من اقتنع بصوته وقدمه لمحمد الموجى الذي أعطاه اسم حافظ بدلا من شبانة للتفرقة بينه وبين أخيه الفنان إسماعيل شبانه الذي كان وقتها مطربا معتمدا من الإذاعة ومن يوم ذاك أصبح عبد الحليم حافظ هو العندليب الأسمر. ويعتبر عقد الستينيات ازهى مرحلة من مراحل عطائه وشهرته خصوصا عندما غنى اغنياته الوطنية التي مثّلت دعاية واسعة لمنجزات النظام الحاكم واحلامه وقت ذاك واعتبرته مصر واحدا من المع فنانيها، بل واعتبر صوت مصر العربي وقت ذاك علما بأن عبد الحليم لم يكن سياسيا في يوم من الايام. وابان السبعينات، مال عبد الحليم الى غناء بعض القصائد واشتهر باغنياته الطويلة التي كسبت هي الاخرى شهرة واسعة في الافاق العربية، وخصوصا بعض قصائد نزار قباني ومنها قارئة الفنجان.

وفى بداياته الاولى رفض عبد الحليم الغناء لكبار المغنيين مثلما يفعل معظم المغنيين الجدد وأصر أن يغنى الاغانى الخاصة به أول، فكانت أغنية غناها للإذاعة هي أغنية”لقاء”وأول فيلم قام بتمثيله هو”لحن الوفاء”في العام 1955، وكان بطل أول فيلم سكوب ألوان وهو فيلم”دليلة”في العام 1956 كما قام عبد الحليم بالإنتاج السينمائي وكون مع الموسيقار محمد عبد الوهاب ووحيد فريد شركة”صوت الفن”ولقد غنى عبد الحليم في الوطن العربي وبعض البلدان الأوربية برصيد حوالي 300 أغنية تنوعت ما بين الموال والأغنية الخفيفة والقصيدة والأغنية الوطنية. وتميز باغنيات افلامه على غرار عبد الوهاب وفريد، ولكن عبد الحليم لم يكن مغنى يسحر القلوب فقط بل أيضا ممثل لعدد من الأفلام الرومانسية الرقيقة والتي بلغت 17 فيلما أشهرها”أيامنا الحلوة”(1955) و”الوسادة الخالية”(1956) و”يوم من عمري” (1961) و“الخطايا”(1962) و”أبى فوق الشجرة”(1969) و”معبودة الجماهير” (1967) وكان آخرها فيلمه”أغنية الوداع” (1980).

ومن بين الأفلام الـ 17 التي قدمها الفنان عبد الحليم شاركه فيها الفنان أحمد رمزي في أربعة منهم هي”أيامنا الحلوة”وأيام وليالي و”بنات اليوم”و”الوسادة الخالية”وقام بالتمثيل كذلك مع الفنان أحمد رمزي وعبد السلام النابلسى عمر الشريف ويوسف شعبان وكان يمثل دور والده دوما الفنان عماد حمدي والذي صفعة مرتين في فيلم”الخطايا”وفيلم”أبى فوق الشجرة”. وقد شاركته البطولة كل من: فاتن حمامة وشاديه وصباح وسعاد حسنى ونادية لطفي ومديحة يسرى وإيمان وزينات صدقي وزهرة العلا ولبنى عبد العزيز ومريم فخر الدين وزبيدة ثروت. وفى النهاية يعتبر عبد الحليم أو العندليب الأسمر هو أرق صوت رجالي شهدته الساحة الغنائية منذ بدأ الغناء العربي حتى الآن وفقا لمقولة محمد عبد الوهاب.

لا اذكر متى غرمت باغنيات عبد الحليم حافظ، ولكنني بالتأكيد كنا من اولئك الذين ذهبوا لمشاهدة فلم”الخطايا”بينه وبين ناديه لطفي فاعجبنا به اعجابا يفوق التصور.. وكان الصغار والكبار يرددون اغنيات ذلك الفيلم، ومنها:”وحياة قلبي وافراحه”..”ايه حاجه”. اذكر اننا كنا نتدافع امام سينما غرناطه بالموصل التي كانت جديدة وقد كنا نجلس في الامام ننتظر اطلالة عبد الحليم على المسرح وكان الصخب والهرج والمرج قد بلغ عنان السماء.. والفرقة تلاعب اوتارها من دون فائدة وفجأة يطّل عبد الحليم بابتسامته الشهيرة ويحي جمهوره ويلتفت ليعالج بحركات يديه الالحان.. لقد غّرد عبد الحليم واجاد التغريد بتقديم العديد من اغنياته الجميلة التي كنا نرددها معه وكان التصفيق يلازمه من حين الى آخر، بل وغنى الناس الموجودون فرادى وعوائل كلهم اغانيه التي غّناها..

بدا هزيلا على عكس ما رسمته من صورة في بالي عنه.. احب ما فيه انه كان يغمض عيونه عندما يغني فوق المسرح امامنا لنزعة خجولة مزروعة فيه وكان يعّوضها بالتمايل مع الانغام التي يؤديها، بل ويجعل من نفسه مايسترو بين الفصلات او الكوبليهات ليقوم بدور القائد الاوركسترالي والامر لا يحتاج الى ذلك كله، واعتقد انه يزاول ذلك دوما على المسرح خلاصا من مواجهة جمهوره العريض الذي كان يتدفق معه عاطفة ويمتزج معه لحنا وغناء.. كان عبد الحليم فوق المسرح كما انطبعت عنه الذكرى ولمرة واحدة عندما كنت شابا في مقتبل العمر يؤدي دور الحالم ويوّزع ابتساماته العريضة هنا وهناك.. وعندما انتقل الى اداء بعض اغنياته الوطنية انفعل بها انفعالا شديدا وكأنه يقود العالم كله والجماهير كلها الى بنيان السد العالي، ولم يزل ذلك في طور التشييد.. ومن الامور التي عرفتها منذ زمن طويل انه احب الرئيس جمال عبد الناصر حبا جما وصحيح ان الريس كان يبادله الحب ولكن عبد الناصر كان يعشق صوت فريد، وخصوصا في”اول همسه”وهذا ما كان يغيض عبد الحليم جدا!

في الحفل الذي جمع كل محبي عبد الحليم.. كان ينظر الينا بعيونه الزائغة ونحن نطلب اغنية تلو الاخرى.. غنّى: على قد الشوق وغني واجاد اغنيته الرائعة”ظلموه.. القلب الخالي ظلموه”واجاد فيها.. ثم غنى لنا”توبه..”وبقى يغرد حتى ساعة متأخرة ليختتم وصلاته باغنيته”بحلم بيك انا بحلم بيك..”.. ولقد رسمت تلك اللحظات في ذاكرتي خطوطا لم تنمحي ابدا.. ولا اعتقد ان جيلا قد تعّلق بفنان كما كان جيلنا قد تعّلق بعبد الحليم حافظ وباغنياته التي استطيع اليوم ان افسّر تلك”الظاهرة”تفسيرا ربما يشاركني فيه كل الذين تعلقّوا بفنون تلك المرحلة الزمنية، اذ ان عبد الحليم قد نجح نجاحا باهرا في ان يبز على اقرانه باللحن الجديد الذي استخدمه وخصوصا تلك الالحان التي منحها اليه كل من محمد الموجي وكمال الطويل..

ونجح في اختيار كلمات وافكار جديدة لم يألفها الناس، ولكنها شغلت هوى الجيل الجديد.. والامر الاخر الذي مّيز هذا الفنان غيره انه خرج من باب التطريب الى عالم الفن الجديد وكأنه يشارك العصر ذاك افكاره الثورية التي انتشرت في الواقع والخطاب.. واعتقد ان عبد الحليم حافظ عندما غادر الدنيا مبكرا في العام 1977، كان نهاية مرحلة قصيرة لم تكتمل ابدا، اذ لم بدأ الفن العربي يدخل في عالم من الجمود لم يخرج منه حتى اليوم برغم ظهور المئات من الاسماء.. وبالاخص في مصر التي لم تنجب حتى الان منذ اختفاء عبد الحليم من يملأ الفراغ الكبير الذي تركه.

من خلال شغفي الشديد وولعي سماع اغنيات الرواد: عبد الوهاب وعبد المطلب وعبد الغني السيد وعبد العزيز محمود وكارم محمود ومحمد فوزي وغيرهم ممن سبقوا عبد الحليم او حتى الذين عاصروه امثال محرم فؤاد ومحمد رشدي ومحمد العزبي.. فلقد عرفت ان هؤلاء جميعا ذهلوا للصعود السريع للفنان الشاب عبد الحليم الذي كان يعشق صوت عبد العزيز محمود وليس عبد الوهاب ولم يكن مخطئا في ذلك ابدا ولكن الفرق بين عبد العزيز وبين عبد الحليم ان الاخير نقل الكلمة العادية من الابتذال الى المعنى والسمو! ولقد تعلم عبد الحليم كثيرا من اول تجربة خاضها في حفل الاسكندرية عندما رشقه الحاضرون بالطماطم ورجع يندب حظه ويبكي بكاء الاطفال، ولكن سر نجاحه انه كان مليئا بالحزن والاحاسيس والعواطف ولم يكن صاحب صوت مطرب، بل كانت عذوبة صوته في هدوئه وحسن مخارج حروفه التي ينهيها بلفتة شجن وكأنه يعبر عن اشياء دفينة يريد ان يعرفها الناس. ولعل من اعز اصدقائه الاستاذ الصحفي الراحل كمال النجمي الذي سافرد عنه مقالا من (نسوة ورجال) في قابل.

وجاءت مرحلة السبعينيات ولم اعد التفت كثيرا لما ينتجه عبد الحليم لأنه غّير كل مساره باداء اغنيات طوال وكنت اعشق واردد قصاره، ولكن بعد رحيله رجعت اتشبع باحاسيس هذا الفنان في اداء بعض القصائد المخملية لنزار او قل عنها مرحلة العشر سنوات بين الهزيمة في 1967 وبين رحيله المبكر في العام 1977.

كنت قادما من اخر محاضرة لي وانا طالب دكتوراه في بريطانيا، فاذا بواحدة من الزميلات العربيات من السودان تبكي وتولول وقد اشترت شموعا وهي راجعة الى القسم الداخلي قالت بصوت مبحوح: لقد مات عبد الحليم حافظ!! فصعقت لهذا الخبر وخصوصا اننا لم نكن نعلم بأن الرجل كان في لندن للعلاج وبدأت استرجع شريط الذكريات كواحد من ابناء جيل نشأ وهو يسمع اغنيات عبد الحليم حافظ وقلت منذ تلك اللحظة بأن عبد الحليم سيبقى ذكره واثره الى زمن طويل نظرا لقوة تأثيره المباشر في اعماق المتلقي خصوصا اذا كان المتلقي من الذين لهم مشاعر واحاسيس وعواطف متوقدة، وقد صدقت الرؤية فصوت عبد الحليم لم يزل يصدح بالرغم من مرور اكثر من ربع قرن على رحيله.

عن:كتاب نسوة ورجال: ذكريات شاهد الرؤية لمؤلفه سيّار الجميل