((سرور)) دون كيشوت المصري

Wednesday 13th of April 2022 12:46:22 AM ,
5165 (منارات)
منارات ,

عباس بيضون

نجيب سرور اسم قد لا يعني شيئاً لأحد الآن لكنه في يوم كان مدوياً كمؤلف مسرحي وكمخرج بل وحتى كممثل مصري. طلال فيصل يتتبع تاريخه وحياته ويلتقي بمن عرفوه ويتنصّت لكل ما يرده عنه والنتيجة رواية وثائقية بعنوان سرور.

نجيب سرور مدمن الكحول صاحب الهلاوس الذي لا يبالي بأن يقدم على صنع وزير وبأن يزعق في وجه نجيب محفوظ الذي جاءه زائراً في مصحّ الأمراض العقلية في العباسية لكنه أيضاً المثقف المتضلع في التراث، حفاظة ابي العلاء المعري بل وباني أسطوره حوله، فهو عضو في كتيبته الخرساء مثله في ذلك مثل هاملت ودون كيخوته. سرور هو أيضاً المناضل ضد حكم الطغمة العسكرية والمنذر بالهزيمة وبقتل عبد الناصر قبل هزيمة حزيران ووفاة عبد الناصر. مجنون الارتياب الذي يتصور دائماً ان ثمة مؤامرة عليه وأن هناك مؤامرة يهودية ماسونية تحرك كل شيء في الواقع والتاريخ. إنه طريد المخابرات والأدباء والنافذين، وهو من بين هؤلاء لا يجل أحداً فقد رأيناه يزعق في وجه نجيب محفوظ، لكنه يزدري رجاء النقاش الذي طالب بعودته إلى مصر وكان وراء هذه العودة. فنجيب سرور الذي استغل احتفالاً في موسكو ليلقي خطاباً ضد النظام المصري لم يسمح له، إلا بعد حملة مطالبة، بالعودة إلى بلده. طلال فيصل قابل زوجتيه فشاعر بهية وياسين الذي تزوج ساشا الروسية تزوج في مصر الممثلة مشيرة التي اتهمها في سويدائه بأنها خانته، هذه الخيانة، صحّت أم لم تصحّ، أوجعته للغاية ففي ثلاثة نصوص مسرحية مجتزأة نشرها طلال فيصل لا يدور سوى موضوع الشرف والخيانة. وهكذا نجيب سرور بكل تناقضاته ومعارضته للسلطة القائمة يبقى عقله السياسي أسير المؤامرة الماسونية اليهودية، وهو الثائر لكنه أيضاً الفلاح الذي يعاني من عقدة الشرف، وهو الذي يهلوس لمؤامرة عليه، لكنه يصرّح لجلال الساعي أنه لا يعني بالمؤامرة اجتماع الأدباء وقرارهم المنظّم ضده. لا يعني اجتماع رجال المخابرات بقيادة صلاح نصر لتقصّده. المؤامرة هكذا أمر انطولوجي في كيان الأوضاع، إنها جرثومة في أصل الأشياء، وقدر يترصد في لعبة المصائر. كلام كهذا فصيح يصدر عن عقل سوي، لكن الرجل نفسه لا يلبث ان يثور ويتهم، والرجل نفسه ينزل إلى الشارع بثياب بالية وبيده مقشّة كالمتسولين، ربما ليفضح هكذا بصورته الرزية النظام وأهله.

نجيب سرور، اذن رجل اشكالي، بل هو نموذج تدهور يتعداه ليمثل تهافت طبقة وتهافت نخبة وتهافت نظام. انه كما يقدمه طلال فيصل ضحية كل ذلك، لكن طلال فيصل الذي يتخذ سمت الموثّق والمؤرّخ لا يسمح لنفسه بأن ينحاز علانية لنجيب سرور. يسميه الشاعر العظيم ولا يخفي اعجابه بموهبته، ويعتذر له عن قصيده الأخير الفاحش «اميات» الذي هو كل ما تبقى على الألسنة من صنيع نجيب سرور. مع ذلك لا يتخذ طلال فيصل من نجيب سرور موقف المبشّر. إنه يقدمه بصوته وبقلمه حتى لنحار إذا كانت هذه الصفحات المنسوبة إلى نجيب سرور والمذيّلة بحاشية تقول انها بخطه. نحار بين ان تكون هذه حيله روائية وبين أن تكون حقاً من صنع نجيب سرور. والحق ان الرواية التي هي بألسنة أطباء نجيب سرور وزوجتيه وآخرين معهم، يبدو ان طلال فيصل أحدهم فحسب، هذه الرواية متعددة الأصوات تبدو هكذا نوعاً من مسرحية، فالروائي هنا يتقمّص نجيب سرور في الغالب، يتقمّص أسلوبه ويتقمّص فنّه فيكتب عنه ما يشبه ان يكون مسرحية بقلم نجيب نفسه

يحاول طلال فيصل أن يجد في نجيب سرور، الذي لم يكن يشرب حين ذهب إلى روسيا ليصبح بعد ذلك مدمن كحول، وليقتله الإدمان بعد ان دهوره وحطَّ منه. يحاول ان يجد فيه مصير جيل كامل هو جيل الثورة التي سرعان ما تحولت إلى معتقل كبير. هذا ما نقرأه على الغلاف الأخير للكتاب، لكننا نلحظ اثناء قراءة الرواية ومن قراءتها ان الروائي يحاذر أن يصدر احكاماً. إنه يقدم نجيب سرور لا بألسنة عدة فحسب ولكن من وجهات عدة أيضاً. هو أيضاً لا يخفي تعاطفه مع المسرحي العظيم كما يسميه. رواية طلال فيصل عن نجيب سرور هي أيضاً ردّ اعتبار للكاتب الموهوب الذي عاش متشرداً في الشوارع. كان كما في الرواية فرداً ضد الجميع. لا يمكننا ان نفصل أزمة نجيب سرور عن تهويماته السياسية، بل عن جرأته السياسية. نجيب سرور هو هكذا وحيد ضد النظام المتغلغل في كل أوجه الحياة المصرية. لقد أفسدت هذه الحياة وقتل ضميرها ووجدانها. البيروقراطية تجابه الإبداع وتحطمه، تفسد الروح المصرية وتشوه أنبل أبنائها. هكذا تبدو حكاية نجيب سرور بالدرجة الأولى ادانة للنخبة المثقفة. ادانة ليبروقراطية غزت حتى الثقافة، واستبدت بها وحوّلت أصحابها إلى مسوخ.

عن الاخبار