مقهى الشابندر في بغداد

Monday 18th of April 2022 12:45:50 AM ,
5168 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

محمد ابراهيم محمد

تعد مقهى الشابندر في شارع المتنبي ببغداد من اشهر المقاهي القديمة في بغداد وأصبحت من الأندية الاجتماعية التي تكمل دورة الحياة اليومية في الوقت الحاضر لذوي الميول المتقاربة والمهن المتشابهة ويتردد عليها التجار والموظفون والادباء،والعمال يلجأون اليها طلباً للراحة ويجلسون بها ويدخنون الاراكيل والسكائر ويشربون بعض اكواب الشاي والقهوة، وهذه المقهى من المقاهي التي تجلب الزوار الأجانب ايضاً وهي في الوقت نفسه مقهى شعبي يشعر فيه المرء عند الجلوس بالبساطة والانزواء بعيداً عن هموم ومتاعب العصر واللهو البريء.

يروي الحاج محمد كاظم الخشالي صاحب المقهى ان هذه المقهى قد أنشئت عام 1917 في بداية الاحتلال البريطاني لمدينة بغداد. وان انشاء بنايتها يعود الى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وهذه البناية كانت مخصصة سابقاً الى مطبعة الزوراء ابان الحكم العثماني المتأخر في العراق..

تمتاز هذه المقهى بالطراز المعماري البغدادي الاصيل وهي مشيدة بالطابوق والجص، ونظراً لفخامة هذا البناء وانفراده من حيث التصميم والهندسة التي برع فيها المعمار العراقي فانه يعتبر من اهم المواقع الاثرية الشاخصة الى اليوم في بغداد مما جعل السواح والمراسلين الاجانب والمحطات الفضائية يتوافدون اليها للتمتع بالمقهى والافادة من المثقفين والادباء ويعقدون المقابلات الشخصية مع الجمهور البغدادي داخل المقهى..

من الجدير بالذكر ان اسم هذا المقهى سمي بأسم اصحابه من اسرة الشابندر العائلة البغدادية القديمة التي عُرفت بالغنى والجاه،وانجبت رجالا عرفوا في مجال التجارة والسياسة، وعميد هذا البيت هو الحاج محمد سعيد بن الحاج احمد اغا الشابندر الذي كان والده رئيس التجار في بغداد وعيناً من اعيانها وكرمائها واخذ الاسم من هذه المهنة (رئيس التجار أي شابندر التجار) وهو من سكان محلة (جديد حسن باشا) وكان له قصران مطلان على نهر دجلة في الاعظمية في محلة السفينة الان، وقد اوصى ولده محمود ببناء مسجد له على جزء من ارض حديقة القصرين المتجاورين وبعد وفاته بنى له مسجدا سمي مسجد الشابندر عام (1322 هـ /1904 م) ودفن الحاج محمد سعيد في هذا المسجد وقد اشتهر عدد من احفاد هذا الرجل منهم السيد موسى الشابندر والذي شغل عدة مناصب دبلوماسية ومعمر خالد (طبيب معروف) والدكتور خليل وجميل. وترتبط عائلة الشابندر كما يذكر ابراهيم عبد الغني الدروبي بروابط وثيقة مع عائلة فتاح باشا والالوسي والسنوي، وان الحاج محمود جلبي الشابندر هو الذي اسس هذه المقهى..

تقع (مقهى الشابندر) حالياً في محلة جديد حسن باشا في نهاية شارع المتنبي مقابل سوق السراي. ومن المعالم التي تحيط بهذا المقهى هو (الاكمك خانة) وهي كانت دار الطعام للجند العثماني وقد ازيلت وبني عليها مصرف الرشيد. كما تحيط بها كذلك (القشلة العسكرية) وهي سراي الحكم والمؤسسات الرسمية التي ضمتها القشلة وبنايات اخرى تعود الى اواخر عهد الدولة العثمانية والمدرسة الرشيدية العسكرية التي شغلت في عهد الدولة العراقية (المحاكم المدنية) واخليت هذه الابنية من قبل الدولة في الثمانينات من القرن العشرين الماضي لتصبح ابنية تراثية..

ان لهذه المقهى القديمة تاريخا عميقاً فمن داخلها انبثق اغلب الانتفاضات الوطنية والحركات السياسية والنهضات الأدبية والفكرية فكان روادها من إعلام الفكر والأدب والعلم والوطنية من كتاب وشعراء وفقهاء وعلماء وصحفيين احرار تركوا بصمات مضيئة في تاريخ العراق الحديث..

تعتبر (مقهى الشابندر) مركزاً للتفاعل الاجتماعي يرتاده الناس من وجوه شتى وإنحاء مختلفة لقضاء وقتهم بالأحاديث الشيقة والفكاهات الممتعة والنكات المسلية والالتقاء بالمعارف والأصدقاء لمعرفة إخبار بعضهم البعض ويتبادلون وجهات النظر في أمورهم الخاصة والعامة حيث يجلسون لشرب القهوة ويدخنون السكائر والاركيلة فقط.

كما إن صاحب المقهى الحاج الخشالي قد منع اللعب المسلية في هذا المقهى مثل (الدومينو والطاولي) لاعتبارات أساسية للمحافظة على سمعة هذه المقهى العريقة وعلى حد تعبيره الخاص.

كما إن هذه المقهى يجتمع فيها التجار وأصحاب الحرف ولالتقاء ذوي الحاجة من الناس وتناقش فيها أمور التجارة والبيع والشراء والعقود التجارية وغيرها من امور اقتصادية.

شهد هذا المقهى في عشرينيات القرن العشرين الماضي ولأول مرة دخول جهاز الحاكي (الفونوغراف) في بغداد حيث سارع اصحاب المقاهي الآخرون لاقتنائه فانتشرت عادة سماع الأغاني والتراتيل الدينية داخل المقاهي، ثم دخل بعد ذلك جهاز آخر متطور هو (الغرامافون) وقد بلغ التنافس بين المقاهي انذآك لجذب الرواد...

تميز هذا المقهى باسلوبه الرائع في معاملة الزبائن وتقديم الشراب والشاي، كما تميز المقهى كذلك بترتيب مقاعده الخشبية القديمة وباستطاعة رواده قراءة الجرائد الأجنبية والعربية لما تميز به من هدوء نسبي، ويعتبر هذا المقهى في الوقت نفسه منتدى أدبيا أكثر منه مقهى حيث تجري فيه المناظرات الشعرية والأدبية كما يرتاده الكثير من الشعراء والأدباء والعلماء.

أن هذا المقهى في الوقت الحاضر تظهرعليه مظاهر الفخامة والجمال والتراث القديم وقد زينت جدرانه الداخلية بالطابق الأول الأرضي بالتصاوير الفوتوغرافية القديمة التي تعود الى بغداد في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ويعتبر وكأنه متحف بغدادي قديم. كما وضعت في داخل المقهى وعلى مكان مرتفع السماورات والاراكيل القديمة التي تدل دلالة عامة على قدسية الأشياء القديمة التي عرفها البغداديون عبر تاريخهم الطويل. ويرتاد المقهى مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية فنجد فيها مشاهد حية يومية مثل إعلانات الشركات والبضائع واسعار السوق ونماذج من طبع الكتب الثقافية الحديثة واما الطابق العلوي من المبنى فكانت تقع فيه مكاتب جريدتي (الكرخ) و(حبزبوز) في الثلاثينيات من القرن العشرين الماضي وكان المغني رشيد القندرجي يقرأ المقام العراقي ومايزال هذا المقهى التراثي قائماً الى الان بالرغم من المحاولات اليائسة لتحويله الى محال تجارية..

ختاماً وأخيرا لابد من القول ان (مقهى الشابندر) يعتبر مأوى متكاملآ بحيث تعوض روادها عن بيوتهم واماكن عملهم وهي تشكل للناس نسيج حياتهم اليومي، واتخذت في تسميتها سمة عائلة بيت الشابندر البغدادية العريقة ونالت شهرة واسعة في بغداد،وهي أشبه بالمركز التجاري والثقافي ويلتقي فيها الناس وأصحاب الكفاءات العقلية، ويتبادلون وجهات النظر في أمورهم الخاصة والعامة، ويعقد فيها التجار والإشراف والأغنياء صفقاتهم التجارية الأولية ويتبادل الآخرون الأحاديث ومختلف النوادر والحكايات والإشعار والأفكار والآراء وقراءة الصحف المحلية كل يوم، ويرتادها السواح والأجانب الذين يأتون الى العراق للترويح عن النفس وليتمتعوا بتراثها القديم..