مكسيم جوركي .. حياة مترعة بالإبداع والشجون

Wednesday 20th of April 2022 12:25:18 AM ,
5170 (منارات)
منارات ,

عبدالله حبه

تحتفل الأوساط الأدبية في روسيا وخارجها في 28 آذار 2018 بذكرى مرور 150 عاما على مولد الكاتب الروسي الكبير الكسي مكسيموفتش بيشكوف المعروف بإسم مكسيم جوركي(1868 – 1936) .

لقد تعرفت على أعمال هذا الكاتب لأول مرة في الخمسينيات من القرن الماضي حينما أعطاني أحد الزملاء في المدرسة الإعدادية المركزية رواية “ الأم “ مستنسخة في دفتر كان يتداوله زملائي الأخرون محمد كامل عارف ونعمان بابان وهاشم فرمان وبقية تلامذة “الشلة المتمردة” التي كانت تقرأ الكتب “ المحظورة” من قبل الرقابة في وزارة الداخلية العراقية.وكانت الرقابة قد منعت آنذاك “ الأم “ وجميع أعمال جوركي.وفيما بعد قرأت ثلاثية جوركي وقصصه التي نشرتها دار”اليقظة العربية” في دمشق . وكان أبناء جيلي يقبلون على مطالعة أعماله والإعجاب بها حتى أكثر من مؤلفات دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف، لكونه “ كاتب البروليتاريا “ وسند الطبقة العاملة .ولدى قدومي الى موسكو أعجبت كثيراً بمسرحيات جوركي التي كانت تقدم بإستمرار على خشبات المسارح بموسكو والمدن الأخرى. وعندما وصل المخرج الراحل قاسم محمد للدراسة في معهد “ غيتيس”دعوته لمشاهدة مسرحية “ الحضيض” في مسرح موسكو الفني الأكاديمي قبل غيرها بالرغم من أنني شاهدتها أكثر من مرة من قبل.وأعجب قاسم محمد بها أيضا ، وأكد أنه سيخرجها على المسرح في بغداد لدى عودته الى الوطن حتما.

وقد عرف القراء جوركي (ولقبه المستعار هذا يعني “المر”، ولا يعرف أسباب إختياره لهذا اللقب ، ربما لما كابد من مرارة في طفولته ويفاعه) في روسيا منذ أن نشر أول قصة له بعنوان “مكار تشودرا” في جريدة “ القوقاز” الصادرة في تفليس ( تبيليسي حاليا).وجذب إهتمام النقاد لكونه قد تجاوز مرحلة الواقعية التي إتسم بها أدب تورجينيف وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف حين دخل المجتمع في روسيا المرحلة الثورية. ووصف بعد نشره إنشودة” نذير العاصفة “ بأنه المبشر بالثورة وإحتضنته القوى الثورية الصاعدة في البلاد.وبعد قيام ثورة أكتوبر 1917 أعتبر رائد “ الواقعية الإشتراكية “، ووصفه لوناتشارسكي وزير (مفوض الشعب )الثقافة السوفيتي بأنه “الكاتب البروليتاري الأول”. وفي الواقع إن جوركي رحب بالثورة في البداية ، ولكنه خشي في الوقت نفسه من فقدانها السمات الإنسانية لدى تغير واقع النظام في البلاد. لاسيما أنه أصيب بخيبة الأمل بسبب القضاء على طبقة الفلاحين ومحاولات دمجهم قسرا بالطبقة العاملة . وقد نشر آنذاك مقالة حول هذا الموضوع بعنوان “ أفكارفي غير وقتها “ نشرها في صحيفة “نوفايا جيزن” المعارضة التي أغلقها البلاشفة لاحقا . كما خشى على مستقبل بلاده في فترة الحرب الأهلية وما رافقها من سيطرة أفراد يحتقرون الثقافة عندما فقد الحزب البلشفي خيرة رجاله ذوي الثقافة الرفيعة في أثناء الحرب الأهلية. وكما كتب رومان رولان فإن “ الثورة أثارت البلبلة لديه. ولم يتقبلها في الفترة الأولى. فقد ذهل مما رافقها من قسوة لا مفر منها. وتولد إنطباع لمن رآه في تلك الأعوام بأن حياته قد دمرت وأصبح في النزع الأخير، وصار يذرف الدموع “.وقد إضطر جوركي الى مغادرة البلاد الى المانيا وتشيكوسلوفاكيا ومن ثم الى ايطاليا (نابولي) في عام 1921 بناء على نصيحة لينين . وكان قد تعرف على لينين في ايطاليا في عام 1905 وجمعتهما أواصر الصداقة ، ولو أن خلافات نشأت بينهما بعد عام 1917. وكان لينين يحبه ، ويبدي إعجابه بإبداعه ولهذا طلب منه مغادرة البلاد بعد تدهور صحته لإصابته بالسل من جانب ولبروز الخلافات بينهما حول شكل نظام الحكم السوفيتي الجديد من جانب آخر. وهكذا بدأت مرحلة الهجرة الثانية .

والاولى كانت بعد ثورة 1905 حين هاجر جوركي الى الولايات المتحدة ومن ثم الى ايطاليا.. وكتب في هذه الفترة مسرحية “ الآخرون “(1908) ومسرحية “ فاسا جيليزنوفا”(1910)ورواية “مدينة اوكوروف”و” حياة ماتفي كوجيمياكين”(1909-1011 ). وقد أبرز فيها عيوب المجتمع الروسي حيث يتخذ المواطن موقفا سلبيا من الواقع وتتسم نظرته باللا أبالية إزاء الحياة مما أدى الى وقوع المآسي فيها حسب رأيه. وعاد جوركي الى البلاد في عام 1913 بعد صدور العفو القيصري حين بدأ الإستقرار يسود في كافة مناطق روسيا.وكتب عندئذ “ حكايات ايطالية”(1911-1913) و” في أرجاء روسيا”(1912-1916) و” طفولتي “ و”بين الناس”(1913-1916). وآنذاك ذاع صيته في جميع أنحاء العالم وترجمت أعماله الى عشرات اللغات .

وفي ايطاليا كتب تتمة الثلاثية “ جامعاتي” ورواية “ قضية آل ارتومونوف” (1925) ثم بدأ بكتابة روايته الملحمية “ حياة كليم سامجين “ . علما أن جميع أعماله كانت تصور الحياة في روسيا قبل الثورة وليس حياة المهاجرين في الخارج. كما أنه لم يكتب أي شئ يتعلق بالحياة في الإتحاد السوفيتي لدى عودته إليه في عام 1931.وإبداعه يوصف حتى الآن بالواقعية الرومانسية. علماً إن خدماته الى الثقافة الروسية لا يمكن نكرانها البتة لاسيما خلال الفترة السوفيتية . فهو أسس عدة دور نشر كبرى (زنانيه ، باروس ، الأدب العالمي، أكاديميا ) وسلسلات كتب “ مكتبة الشاعر” و”تاريخ الحرب الأهلية “ وتاريخ المعامل والمصانع “ و” حياة مشاهير الرجال “، والصحف والمجلات الأدبية. ونشرت دار” الأدب العالمي “ مئات الكتب المترجمة من عشرات اللغات وأغنت المكتبة الروسية في هذا المشروع الضخم الذي لا يوجد له مثيل في العالم حتى الآن، وترك أثره في تربية عدة أجيال . لقد عمد جوركي بعد أن أصبح قائد العملية الثقافية في الإتحاد السوفيتي ولو تحت رقابة أجهزة الأمن الى تطوير التعليم والثقافة في البلاد. وإستغل علاقته مع السلطات (لاسيما مع ستالين الذي حاول جذبه الى قيادة السلطة وحتى ضمه الى الحزب) في أيصال نور الثقافة الى أكثر فئات المجتمع تخلفا .ومثال ذلك تأسيس دار الشعب في نيجني نوفجورود و”دار الفنون” في بتروغراد وكذلك تأسيس معهد الأدب العالمي(يحمل إسمه حاليا) وأفتتاح دور الثقافة في كافة المدن والقرى المزودة بمكتبات غنية . وقد أكرمته السلطات فيما بعد بإطلاق اسمه على المدن والمكتبات ومحطات المترو وأقيمت النصب له في كل مكان.

وعندما إنهار الإتحاد السوفيتي إعتبره اللبراليون الذين تولوا السلطة أحد رموز السلطة الشمولية في الإتحاد السوفيتي ورفع تمثاله من أمام محطة قطار بيلوروسكي ووضع مع تماثيل القادة السوفيت التي نقلت من الأماكن العامة الى حديقة ميزيون بالقرب من متحف تريتياكوف الجديد. وقد آثار ذلك إستنكار الأوساط الادبية فأعيد في الفترة الأخيرة وبعد رحيل اللبراليين الى مكانه السابق وذلك قبيل حلول ذكرى مرور 150 عاماً على مولد الكاتب.وجاء الجمهور لوضع الزهور عند نصبه في يوم 27 آذار وفي مقدمتهم أعضاء اتحاد كتاب روسيا.

واليوم يتحدث النقاد والباحثون عن جوركي بإعتباره أحد اكبر رموز الثقافة الروسية الى جانب بوشكين وجوجول وتولستوي وغيرهم . ويؤكدون بأنه لولا جوركي لما ظهر كتاب كبار مثل شولوخوف وبولجاكوف وبلاتونوف في العهد السوفيتي. وكان باسترناك قد وصفه بأنه “ الإنسان المحيط “ بمعنى أنه “ كبير بفؤاده وبروحه الوطنية الحقة “. كما يشير النقاد اليوم الى سعة إبداعه الأدبي الذي تضمن النثر والكتابة المسرحية والنقد والإعلام. وتوجد في متحفه قرابة 50 ألف رسالة ، حيث كان يتبادل الرسائل مع مشاهير الكتاب والمفكرين في عصره مثل رومان رولان وهربرت ويلز واناتول فرانس وتولستوي وتشيخوف وبونين. ويتواصل حتى اليوم نشر أعماله بطبعات أنيقة ، وتقدم مسرحياته في مسارح العاصمة والأقاليم.

قال بوشكين عن لومونوسوف بأنه أسس جامعة موسكو ولكنه” يعتبر جامعة بحد ذاته”. وبدوره يقول الكسي فارلاموف مدير معهد جوركي للأدب بموسكو إن جوركي يعتبر أيضا جامعة بحد ذاته لدوره الكبير في الثقافة الروسية.” وقد يحبه المرء أو لا يحبه ويختلف معه في الآراء السياسية والاجتماعيه وفي موقفه من معاصريه ، ويمكن أن يتفق أو لا يتفق مع أقواله ، لكن من المستحيل تجاهله، وعدم الإهتمام به وشطبه من الوجود.وقد حاول البعض عمل ذلك في اعوام التسعينيات لكنهم لم يفلحوا في هذا”.وقال الباحث بافل باسينكي إن إصدار الأحكام على جوركي وإدانته ليس أمرا صعبا ، ولكن من الصعب تفهمه. بينما قال الكاتب ليف دانيلكين إن من الصعب مقارنة جوركي بأي أحد من الكتاب العالميين سواء هوجو او شتاينبك او زولا أو كيبلنج او جولسورثي فهو مدرسة بحد ذاته. وبالرغم من ترشيح جوركي لنيل جائزة نوبل خمس مرات فإن الجائزة لم تمنح له بل الى كاتب روسي آخر هو ايفان بونين. ومعروف ان جائزة نوبل غالبا ما تمنح الى المرشحين إنطلاقا من مواقفهم السياسية. إذ لم تمنح حتى الى ليف تولستوي عملاق الأدب الروسي.

كما يتخذ الباحثون الأدبيون في روسيا موقفا جديدا من جوركي بخلاف الباحثين في العهد السوفيتي . أنهم لا ينظرون اليه بصفته “ كاتب البروليتاريا “ وصاحب” نذير العاصفة “ بل يدرسون إبداعه مثل أعمال أي كاتب آخر.ولم يعد أحد ينكر بأنه نجم أدبي عالمي مثل تولستوي ومارك توين وتشيخوف ورومان رولان . وقد شب كطفل يتيم وكابد حياة التشرد على ضفاف الفولجا ووصفها أروع وصف في أعماله بمواهبه المتعددة . كما أنضم الى الحركة الثورية لإيمانه بوجوب تغيير المجتمع القائم على إستغلال الأقلية للأكثرية ، وأقامة مجتمع العدالة. ويتهم بعض الباحثين ستالين بأنه وراء مصرع مكسيم إبن جوركي وحتى في وفاة الكاتب نفسه ، لكن لا تتوفر في اجهزوة الأمن التي رفعت عنها السرية الآن أية دلائل تشير الى ذلك بإستثناء فرض رقابة عليه وبث الجواسيس حوله لمعرفة ماذا يقول ويعمل لدى لقاء المعارف والاصدقاء.

إن جوركي لا يتمتع اليوم في العالم العربي بالإهتمام ذاته الذي عرفناه في الخمسينيات والستينيات من العام الماضي ، وربما إن الشباب لا يعرفون حتى بوجود كاتب ذاع صيته في زمانه. وهذا شئ مؤسف حقا إذا ما نظرنا الى الكتب “ القمامة” التي تحفل بها المكتبات في العالم العربي.