من الأرشيف الصحفي..بصراحة غير معهودة.. الأمير عبد الإله يدافع عن نفسه

Sunday 24th of April 2022 09:37:39 PM ,
5173 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

إعداد: ذاكرة عراقية

في اليوم الثامن من إقامتي ببغداد سنة 1952، دق جرس التليفون في الفندق، وكان المتكلم احد رجاال البلاط الملكي، وقال لي الموظف الكبير:

- ان سمو “سيدنا” قد حدد لك موعدا لمقابلته في الساعة الواحدة من ظهر غد!

وقلت للموظف الكبير بكثير من الرقة والادب:

- ولكنني لم اتشرف بطلب لمقابلة سموه مع تقديري التام لتفضل سموه بتحديد موعد للمقابلة!

... وفي الموعد المحدد كنت للمرة الثانية في حضرة وصي العراق.

وقال لي الوصي:

- هل قابلت الزعماء؟

قلت: نعم

قال: وهل تحدثوا اليك بصراحة عن الوضع في البلاد؟

قلت: بعضهم فعل ذلك، وبعضهم تردد.

قال: هل استطيع ان اسمع منك رأي الفريق الذي تكلم بصراحة؟

وترددت قبل ان اقول:

- ان اراءهم قد لا تسر سموك، وعليه فسأحتفظ بها.. وقد لا انشرها.

انتفض وصي العراق وقال:

ــ لا ! اريدك ان تنشرها كلها.. واريدك الآن ان تقول لي ما سمعته!

وشعرت برأسي يدور وانا اقول له:

- ان اهل البلاد يريدون ان يشعروا بان سموك موجود دائماً بينهم.

وقاطعني الوصي قائلاً:

- فهمت انهم يلومونني لتغيبي عن البلاد في الخارج..! ثم ماذا ايضاً؟

قلت: وبعضهم يعتقدان تطور الحكم الدستوري في العالم قد حدد سلطات رؤساء الدول في النظم الديمقراطية فاصبح الملك “يملك ولا يحكم” ولعلهم يريدون مثل هذا النظام لبلدهم.

وقال الوصي مقاطعاً:

- وفهمت هذه ايضاً، انهم يأخذون على تدخلي في تصريف بعض امور الدولة.. ثم ماذا عندهم بعد ذلك؟

وحاولت ان اسكت، ولكن صوت الوصي عاد يقول: ماذا بعد ذلك:

قلت: ان دعوات التمرد التي تجتاح هذا البلد من حين الى حين تريد ان تعتقد ان سموك عون لها، وانها واجدة في رحاب قصرك موئلاً وقوة وملاذا، ولا شيء آخر..

وقال الوصي: مفهوم.. مفهوم! وماذا قالوا ايضاً؟

قلت وانا احاول ان اقلل من قيمة ماساقوله له:

- وهناك همسات خافتة عن مساهمة سموك في شركات تجارية معينة سبق لك انشاؤها في ظروف غامضة لاسباب غير مفهومة.!

وعاد الوصي يقول:

- نعم،! انهم يقصدون معمل “الطابوق” اي طوب البناء، وشركة معمل الغزل والنسيج، اليس كذلك؟

قلت: لعله كذلك.

اريد وعدا بعدم النشر

واستند وصي العراق الى كرسيه، ثم اخرج من جيبه المبسم الذهبي حيث وضع فيه سيجارة اشعلها، وراح يقول:

- لا اريد ان اتحدث اليك كصحفي، فالاحاديث الصحفية محرمة علي، ولكن من حقي ان اتحدث اليك كانسان يدافع عن نفسه ويفسر لانسان آخر معه اموراً ربما كانت غامضة عليه وهي في حقيقتها سهلة واضحة، انا اكره الاحاديث الصحفية ولا اجيدها ولا افهمها واريد ان اتاكد قبل ان انطق امامك بكلمة واحدة انك لن تنشر من قولي هذا حرفاً واحداً هل تعد!

- قلت سنرى!

وراح عبد الاله يتكلم:

- ان ما يقولونه عن سفري من وقت لآخر الى خارج العراق قد اجبت عليه عند ما جمعت الزعماء مؤخراً للتشاور معهم في الازمة الاخيرة، لقد وجه لي بعض الزعماء غرائض ضمنوها مثل هذا اللوم وقد قلت لواحد منهم خلال الاجتماع: ان الصديق المخلص هو الذي لا يكتفي بلوم صديقه على خطأ اقدم عليه بل الذي ينصح صديقه بآلا يقدم على ذلك العمل، وقد اعتدت انا ان اغادر البلاد في زيارات الى الخارج من حين الى ىخر فهل تقدم لي احد من رجالات هذا البلد وطلب الى ولو بشكل نصيحة منه الا اسافر، وهل طلب من احد ان اؤجل سفري لسبب ما ولم الب طلبه، وهل كانت رحلاتي الى الخارج سرا حتى لايعلم بها الناس، ان تاريخ سفري يحدد ويذاع قبل موعدة باكثر من شهر وكنت الاحظ دائما ان في هذه الفترة بالذات كان جميع الزعماء يطلبون مقابلتي فيجابون الى طلبهم، واني لا اذكر مطلقا ان واحدا منهم لفت نظري الى عدم السفر، او تأجيله، او البقاء في داخل البلاد، ولم اجبه بدوري الى ملاحظته، ومع هذا فانني اسافر واترك ورائي مجلس وصاية او هيئة وصاية من اولى مهامها تصرف امور الدولة المنوطة بي، وعليه فليس في غيابي عن البلاد ما يعرقل امور الدول او يؤخرها، وبعد هذا كله، فهل يستطيع احد ان يدعي انني في اي رحلة من رحلاتي الى الخارج تخليت عن ابسط مبادئ التصرف لا كأمير ولا كوصي على العرض، بل وكأنسان عادي ايضا! انهم يعرفون اسباب تغيبي.. يعرفونها جيداً، ويعلمون انني لا ابتغي من وراء هذه الرحلات متعة خاصة او اي مآرب خاص.. «

وسكت وصي العراق وكانه يحاول ان يستعيد في ذهنه حلقة اخرى من سلسلة الاتهامات التي وضعتها امامه، فقال بعد اطراق لم يطل:

- ويتهمونني بانني اتدخل في امول الدولة، واذا كان اتهامهم هذا صحيحا فلماذا يقبلون مني هذا التدخل، هل يستطيع احد منهم ان يقول انه استقال من الحكم احتجاجا على تدخلي؟ هل يستطيع احد ان يدعي بانني طيلة حكمي وتولي الوصاية على عرش هذه البلاد فرضت على الوزارة شخصا معينا او فرضت على رئيس الوزارة وزيراً معينا، هل يستطيع احد ان يدعي انني وجهت سياسة هذه البلاد في اتجاه معين، لقد اعتدت ان استمع الى شكاوي كل منهم ضد الاخر، وبالامس اعتقلت الحكومة بعض المتهمين باثارة القلاقل، فجاءوني الى هنا ليطالبوني بالتوسط في الافراج عنهم..!

وقد يكون لبعض الزعماء او لبعض افراد الشعب شعور خاص بالنسبة لهذه الدولة او لتلك ولكن ما شأني انا بهذه الدولة او بتلك؟

ان الشعب هو الذي يعقد المعاهدات بوساطة ممثلية وزعمائه والشعب هو الذي يلقي المعاهدات هذا الشعب هو الذي يجني ثمرة المعاهدات والاتفاقيات الصالحة، والشعب هو الذي يتحمل وزر المعاهدات والاتفاقيات المجحفة بحقوقه، لقد اراد الشعب قانونا جديداً للانتخابات فجاءت حكومة تحقق له ما يريده وجعلت الانتخابات النيابية تجري على اساس مباشر، ولم اتوان انا لحظة واحدة في المصادقة عليه، ثم المصادقة على تخفيض الضرائب.. ثم المصادقة على اعمال التطهير في بعض الدوائر.. ثم تحقيق كل ما تسنه الحكومة من مراسيم وتشريعات، ومع ذلك فما الذي جنيته انا من كل ذلك..؟:

ليس لي اموال في الخارج

وكان الامير عبد الاله قد تذكر ما يقوله البعض عن مساهمته في بعض الشركات التجارية كشر النسيج وشركة “الطوب” فما لبثت عروق الالم ان برزت في جبهته وارتسمت جلية على وجهه المنقبض فراح يقول:

- نعم.. لقد جنيت هذه الاتهامات الرخيصة التي توجه الى من حين الى حين،

الشركات الكبيرة والمزارع الواسعة والاسهم المالية والسندات وغيرها. ولكن شيئاً واحدا استطيع ان اقوله لك، وهو ما سبق لي ان قلته لبعض الزعماء في هذه البلاد وهو التي اذ لا انكر لهذا البلد فضله علي، فانني استطيع ان اؤكد لك ولهذا البلد ولاهله بانه اذاً لا قدر الله وحملتني الظروف الى ترك هذه الديار فان كل قرش جمعته منها وكل شبر من الارض ملكته فيها، سيبقى لها وبداخلها ولاهلها وشعبها.

واحمد الله انه ليس لي في خارج هذه البلاد اي مال قل او كثر، واي اسهم قل عددها او كثر، واي رصيد كبير او صغير، وانني اتحدى اي شخص يستطيع ان يثبت عكس ذلك. اما شركة “النسيج” التي حدثوك عنها، فامامك تاريخها، ورأسمالها ومنهاجها وعرض لوضعها المالي ونسبة ارباحها وقصة تأسيسها وحصة الحكومة فيها وحصة بعض الافراد في اسهمها – وهنا فتح الوصي احد دواليبه واخرج منه كراسا دفع بها امامي وقال: أقرأ.. لقد تأسس هذا المعمل عام 1944 اي منذ ثماني سنوات ومع هذا فان نسبة ارباحه في العام الماضي لم تزد عن “4” ق المائة، واؤكد لك ان نسبة ارباحه من العام القادم ايضا ان تزيد عن هذا الرقم. وللحكومة فيه اربعون في المائة من اسهمه.. ويعد هذا المصنع عند افتتاحه وكم هو الآن وماذا استطاع هذا المصنع ان يؤديه للبلد من خدمات ومبلغ حصتي انا في كل هذا الموضوع!..

في عنقي امانة

وسكت عبد الاله..

وارتفعت احدى يديه الى وجهه المتجهم، تعصر عروقه المنتفخة وتتنقل بعصبية ظاهرة بين اطراف رأسه المثقل بهم كبير..

ثم رفع رأسه ليقول في صمت.

- وماذا بعد ذلك..؟ لقد خفت الحوادث الاخيرة في نفس هذا الشعب الما مريراً. وقد حملت نفسي برفقة جلالة الملك وزلت في معيشه الى شوارع المدينة، نتفقد جروحها التي سببتها عناصر غير مسؤولة، وسأبقى لهذه الامة.. اليوم وصيا وبعد اشهر ولياً للعهد وبعدها.. مواطنا عادياً يؤدي ما عليه من واجبات ويشارك الشعب آلامه وآماله. ان في عنقي أمانة، لن تمنعني مثل هذه الترهات من ادائها، وسيعلم الشعب عن قريب ان هذه الامانة التي حرصت انا عليها بجهودي واخلاصي سيحرص عليهاهو – الشعب – بروحه ودمه.. !

جريدة الاخبار المصرية عام 1952