الفنان التشكيلي منصور البكري : لا أستطيع أن أرسم لوحات لا تقول شيئاً

Thursday 28th of April 2022 12:38:33 AM ,
5176 (عراقيون)
عراقيون ,

عدنان حسين أحمد

تعود البدايات الحقيقية للفنان منصور البكري إلى أوائل السبعينات حينما عمل في دار ثقافة الأطفال العراقية مذ كان عمرة أربع عشرة سنة، إذ انغمس في رسومات الأطفال (COMICS) أول الأمر، ثم توجه إلى رسم الكاريكاتير والـ (ILLUSTRATIONS) في عدد من الصحف والمجلات العراقية.

وحينما واصل دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد ترسخت موهبتة، وصار بإمكاننا القول إنه فنان تشخيصي تبرز في لوحته الصرامة الكلاسيكية التي عززها لاحقاً عندما درس في الأكاديمية العليا للفنون التشكيلية في برلين. لقد مرّ الفنان منصور البكري في مراحل فنية متعددة تبنى فيها أساليب متنوعة تدلل على ثرائه وعمقه الفني. إذ بدأ بالأسلوب الكلاسيكي، ثم انتقل إلى التشخيص، وتوقف قليلاً عند الواقعية الفوتوغرافية، ثم استقر على التجريد الذي ينطوي على ثيمة ما. وعلى هامش معرضه الأخير في مركز شهرزاد الثقافي إلتقاه موقع (الحوار المتمدن) في برلين، وكان لنا معه هذا الحوار.

• تبنّيتَ خلال مراحل تطورك الفني ثلاث أساليب وهي الكلاسيكية والتشخيصية والتجريدية، هل لك أن تت وقف عند هذه المراحل لتؤشر لنا أبعاد تجربتك الفنية؟

- بعد سنة من صدور مجلة (مجلتي) التي كنت أقرأها بنهم وُجهت لي الدعوة لزيارة المجلة، وكنت آنذاك شاباً صغيراً في سن الرابعة عشرة. وبعد أن أجروا لي المقابلة باعتباري صبياً موهوباً وقفوا مدهوشين أمام اللوحة التي رسمتها، وكان بينهم الفنان طالب مكي الذي لم يُخفِ هو الآخر استغرابه. ولكي يختبروا قابليتي الفنية جلبوا لي ورقة وقلماً وقالوا لي ارسم لنا أي شيء، فازدادت دهشتهم. وفي اليوم الثاني دخل الفنان طالب مكي إلى غرفة رئيس التحرير وطلب منه أن يعينني رساماً في المجلة. فبدأت أرسم (COMICS) والكاريكاتير وسيناريوهات للأطفال في أثناء عملي في دار ثقافة الأطفال، وفي البيت كنت أرسم بورتريهات. ثم انتقلت بعد ذلك للعمل في عدد من الصحف والمجلات العراقية بين الأعوام 1970-1980، حيث بدأت أرسم (ILLUSTRATIOS)للقصائد والقصص التي تنشر في الصحف والدوريات. في هذه الفترة يمكنني القول إنني كنت رساماً تشخيصياً أرسم الفيكرات بإتقان كبير. وعندما دخلت في أكاديمية الفنون الجميلة أفدت كثيراً من أساتذتي الفنانين أمثال فائق حسن، كاظم حيدر، شمس الدين فارس وغيرهم. وهكذا توزعت بين الرسم الأكاديمي الممنهج وبين رسوماتي لمجلة (مجلتي) التي لماّ أزل أحن إليها، لأن كل الفنانين والكتاب الذين كانوا يعملون فيها لم يتعرضوا إلى ضغوطات سياسية، على اعتبار أننا نشتغل للأطفال، فلقد كنا أحراراً في عملنا، ولم نكن مضطرين لأن نتملق لأحد، كما يحصل في المؤسسات الثقافية الأخرى. كما عملت أيضاً كمصمم ومنفذ ديكور مسرح، إذ أفدت كثيراً من زملائي الذين يعملون في المسرح، مثلما أفدت من القصاصين والشعراء الذين وفروا لي مساحة هائلة للولوج إلى العمل التشكيلي. وعندما سافرت إلى ألمانيا ودرست في الجامعة العليا للفنون التشكيلية – قسم التصميم والكرافيك لمدة سبع سنوات تعلمت من خلالها أسس الرسم وقواعده المنهجية الصحيحة. لقد أتقنت اختصاصي، وتعلمت التكنيك، والعمل على مكائن الطبع، واستخدام الكومبيوتر في الطباعة. وحتى التشخيصية تعلمتها بدقة في الجامعة الألمانية.

• في معرضك الأخير الذي أقمته في مركز شهرزاد الثقافي في برلين تتجلى فيه الواقعية الفوتوغرافية، هل لك أن تتحدث لنا عن هذا الأسلوب الفني الذي شاع في النمسا وأمريكا؟

- أنا أستخدم الفوتوغراف أحياناً، ولكنني أعزز هذا الفوتوغراف بإيحاءات معينة تمنح اللوحة بعداً آخر. وقبل أن أرسم نماذجي، أتعرف عليهم، وأفهم طريقة تفكيرهم، وأعرف تفاصيل دقيقة عنهم قد تعينني في الغوص إلى أعماقهم. أما الأعمال الكاريكاتيرية و ال ILLUSTRATIONS اللذين تخصصت بهما أيضاً، فقد كنت أزاولهما في دار نشر باتموس في مدينة دوسلدورف. ثم صدر لي كتاب مصور بعنوان (العمالقة الأغبياء) وهو عبارة عن ثلاثين قصة لكاتب ألماني يتحدث فيها عن الميثولوجيا الألمانية، لكنه عالجها بطريقة جديدة. ومغزى هذه القصص أن العمالقة الكبار أغبياء وعقولهم صغيرة، بينما الأقزام أذكياء وعقولهم كبيرة. أما البشر فيقفون على الحافة أو على الهامش. في هذه المرحلة تركت رسوم الكاريكاتير، فالفنان يتطور، ويمر بمراحل متعددة، وإذا أردت أن أرسم كاريكاتيراً، فأنا أرسم كاريكاتير فني للوجوه فقط. أي أغيّر هذا النموذج من شكل أكاديمي إلى شكل كاريكاتيري لا يثير الضحك. وفي أوربا هناك العديد من رسامي هذا النوع من الكاريكاتير وخصوصاً العاملين في النيوزويك ودير شبيغل وشتيرن. أنا أحياناً أراسل مثل هذه المجلات. أما الآن فقد انتقلت إلى التجريد، غير أن أسلوبي التجريدي ينبغي أن يحتوي على (ELEMENT) مثل استخدام الحرف العربي أو اللاتيني، وأحياناً أستخدم حروفاً سومرية، أو حروفاً مأخوذة من حضارات أخرى كالحضارة الهندية مثلاً. في معرضي الأخير الذي أسميته (لحن الشاعر) فيه الكثير من هذه الرموز، وفيه موسيقى لونية، وهذه التجربة تقترب من التجربة التي يشتغل عليها فنانون عراقيون مثل ضياء العزاوي. أنا عندما أنجزت لوحات بدر شاكر السياب الخمس وضعت في الحسبان إمكانية قراءة الشعر في هذه اللوحات التي أعجبت أناساً كثيرين. أظن أن الفنان ينبغي أن يمر بالمرحلة الكلاسيكية أولاً، ثم يصل إلى التجريد رويداً رويداً. وهذا الأمر ينطبق على الأنواع الأدبية أيضاً.

• ما هي الدوافع الحقيقية لإدخال الحروف العربية في لوحتك، وهل يستطيع المتلقي الألماني أن يفك رموز هذه الحروف، أم أنه ينظر إليها كخطاب بصري لا غير؟

- في أوربا ينظرون إلى العمل الفني كشكل لا علاقة له بالنص، أما نحن الشرقيين فننظر إلى العمل الفني كنص لأننا نحب النص كثيراً. على أية حال روح الشرق تختلف كثيراً عن روح الغرب. في مجمل الأعمال العراقية هناك خصوصية تظهر في المحتوى أو الشكل. وأنا لا أستطيع أن أرسم لوحة لا تقول شيئاً. الألمان أحبوا لوحاتي التي تحتوي على حروف عربية، وقال لي بعض الأصدقاء من الفنانين الألمان أنهم أحبوا اللوحات التي فيها حرف عربي، وفضلوها على اللوحات التي تحتوي على حرف لاتيني.

• بنية اللوحة لديك هي بنية واقعية، ما حدود المخيلة في لوحتك؟

- حدود المخيلة بالنسبة لي هي الإيحاءات. ولأنني (فيكريتيف)، وهذا يعني أنني لا أستطيع أن أرسم مجردة من كل شيء، لأنني كما قلت متعلق بالنص. وسبب تعلقي بالنص يعود إلى عملي في الصحافة لمدة عشرين سنة كنت أرسم فيها تخطيطات للقصص والقصائد التي تنشر في الصحف. إن المخيلة ضرورية في أي عمل فني، في السينما والمسرح واللوحة الفنية لكي ننقل المتلقي إلى عالم آخر. خذ مثلاً لوحات الفنانين الكلاسيكيين فسوف تجد حتى البورتريت فيه شيء من المخيلة مثل لوحات رمبرانت وفان خوخ. في لوحة (الكابوس الأمريكي) ثمة خطاب مضموني واضح لا يضيّع المشاهد. هذه اللوحة فهمها المثقفون والناس البسطاء على حد سواء. واللوحة تحكي قصة عدد من الجنود الأمريكان، المرتزقة، والمساكين في وقت واحد، قُذف بهم إلى هذه الصحراء القاتلة التي سوف تأكلهم مثلما أكلت الثلوج الجيش الألماني. هذه الخوذة متهرئة، وساقطة في الرمل، وترمز إلى الإنسان المقتول في الصحراء، وهي تشبه الخباء الذي يخيّم عليهم لأنهم لا يطيقون حرارة الشمس. والخوذة نفسها مثقوبة، وهذا الثقب يعني أكثر من شيء، فالثقب قد يعني الأمل، وقد يكون خرقاً لرصاصة. اللوحة كلها تحمل ألواناً حارة مثل الأوكر والبرتقالي وألوان الصحراء الأخرى. اللوحة تثير تساؤلات عديدة، من بينها: ماذا يفعل الأمريكان في هذه الصحراء الموحشة؟ وما الذي أتى بهم إلى هنا؟ لقد حولت الواقع إلى رموز وتساؤلات أخرى، وهذا هو سر نجاح العمل الفني.

• لوحاتك ليس فيها تشخيص فقط، وإنما تعبير أيضاً، هل نستطيع القول إنك فنان تعبيري قريب إلى حد ما من المدرسة التعبيرية الألمانية؟

- نعم، أستطيع القول إنني فنان تعبيري، لكنني أرى أيضاً أن عصر المدارس الفنية قد تضاءل، بمعنى لم تعد هناك لوحة واقعية وأخرى انطباعية وثالثة سريالية وهكذا. وأعتقد أن هذه الحواجز قد أُلغيت من تلقاء نفسها. وحتى عصر التجمعات الفنية قد انتهى، ولم تعد هناك حركات وتجمعات مثل الدادائية والسريالية وكوبرا وغيرها. في ألمانيا قال الفنان جوزيف بويز: (إن كل إنسان هو فنان) وتحدث عن الفن التجريدي. ففي برلين كل عاطل عن العمل يقول إنني فنان تجريدي، يأتي بقطعة قماش ويلطخها بالأحمر والأزرق، ويضع في إحدى زواياها بقعة سوداء، ويقول في النهاية إنني فنان، ولهذا اختلطت الأمور على المتلقي حتى ما عاد يعرف اللوحة الجيدة من الرديئة. أما في التشخيص فبإمكانك أن تميز في الحال بين العمل الفني الرديء والجيد.

• منذ أكثر من عشرين عاماً وأنت تتلمذ على أيدي أساتذة وفنانين عراقيين وألمان، ولابد أن هناك فنانين أُعجبت بهم وبنتاجاتهم وأساليبهم. هل بقيت من لمسات هؤلاء أشياء ما تزال واضحة في أعمالك الفنية المنتجة حالياً؟

- هذا سؤال مهم جداً في تصوري. في البداية تأثرت بأساتذتي مثل فائق حسن وكاظم حيدر، بل أنني تأثرت حتى بأصدقائي الأكبر مني سناً، وأعني بهم فناني مجلة (مجلتي). تأثرت أيضاً بالفنانين العالميين أمثال تولوز لوتريك،مانيه، فان خوخ، ديلا كروا. وهذا الأخير أعتبره معلم الأول لأنه أذهلني حقيقة، ولم أتخلص من تأثيراته لحد الآن. غير أن هذا التأثر لا يعني النقل أو الاستنساخ الحرفي. بل يمكن لي أن أصفه أن ضربة من ضربات الفرشاة قد توحي لي بضربة فرشاة لديلاكروا أو لوتريك. هناك أيضاً فنانوا ال (ILLUSTRATIONS) وبالذات الرسامين الإنكليز والتشيك قد أثروا عليّ بشكل كبير. الفنانون التشيك الذين يرسمون للأطفال قد غادروا براغ إلى مختلف دول العالم، وبصراحة أن لوحاتهم أجمل بكثير من لوحات شاغال. أكرر أن تأثري ليس نقلاً أو استنساخاً، وإنما هو تمثل وإعجاب بالثيمة والأسلوب والرؤية.