منصور البكري فنان يحمل العراق في ألوانه

Thursday 28th of April 2022 12:42:18 AM ,
5176 (عراقيون)
عراقيون ,

إقبال القزويني

العراق حاضر في كل زاوية من مرسم الفنان منصور البكري، وهو حين يطل من شباك مرسمه على شوارع الحي الواقع في وسط برلين في منطقة (كرويتس بيرغ) حيث الأجانب ينافسون الألمان في العدد، يرى بغداد تخرج من الذاكرة وتسبقه إلى شوارع العاصمة الألمانية.

ومنصور فنان أخلص لفنه ومهنته فلم يتركها الى مهنة أخرى، ومن أجل ذلك فعل الكثير. بدايته في الاحتراف الفني تعود إلى عام 1970 حين اكتشف الفنان طالب مكي موهبة الفتى ذي الأربعة عشر عاما وهو يزور مجلة الأطفال «مجلتي» الحديثة الصدور آنذاك وأخذه من يده إلى رئيس التحرير طالبا تعيينه براتب شهري ليكون ضمن فريق عمل المجلة، وكان جلهم من كبار فناني العراق التشكيليين المعروفين.

* هل تتذكر مشاعرك في تلك اللحظة؟

ـ عندما قبلوني فنانا معهم أحسست إنني غادرت الطفولة وأصبحت رجلا. لقد رسمت شخصيات أصبحت جزءاً مني، مثل علاء الدين والمصباح السحري وإحسان، وعندما سافر الرسام فيصل لعيبي إلى خارج العراق في منتصف السبعينات تسلمت مهمة رسم شخصياته، مثل نبهان الحارس.

* من الذي ابتدع تلك الشخصيات للمجلة؟

ـ الذي خلق الشخصيات هو الكاتب والمخرج المسرحي صالح كاظم الذي يعيش الآن في الدنمارك وكان هو الأب الروحي لها. فيما بعد وحين صدرت جريدة «المزمار» التي ما لبثت ان تحولت إلى مجلة هي الأخرى تكونت «دار ثقافة الأطفال» التي أصبحت هي الجهة المسؤولة عن اصدار المجلتين إضافة إلى كتب للأطفال جميلة الطباعة والتصميم. وبعد فترة وجيزة انتقلت للعمل في «المزمار» حيث توليت تصميم غلافها. تلك الدار كانت الأم الأولى والمدرسة التي رعتني فنيا وثقافيا اذ كان يسود الانسجام بين العاملين فيها بغض النظر عن الانتماءات السياسية المختلفة لأفرادها. ولكن لم يكن يراد لتلك الروح أن تستمر في العطاء الحر وأخذت الخوذة العسكرية طريقها الى الفن، حينها شعرت بالاختناق بعدما فقد العمل بريقه وزادت المضايقات والتدخل في العمل الفني تحت شعار «الفن سلاح المعركة».

* معروف أن تلك الفترة أوجدت فرزا في الموقف الثقافي، وتنوع الموقف بين الانتماء لحزب السلطة قناعة أو شكلا وبين الرفض ونتائجه التي تصل حتى التصفية، وبين الهروب.. كيف تعاملت أنت مع واقع الحرب؟

ـ عندما شعرت بأن الموت يطحن أبناء جيلي غادرت بغداد في عام 1981، محطتي الأولى كانت ايطاليا التي لبثت فيها عاما، ورغم مرارة تجربة الغربة الأولى وشظف العيش ولكني تنفست الحرية واطلعت على روائع الفن الإيطالي. وحين حل الليل في اليوم الأول لدخولي روما رأيت أنوار المدينة التي تدخل الفرح والجمال على أهلها فبكيت حزنا على بغداد التي خلفتها مظلمة تخوض حربا طاحنة تجلب الموت لأبنائها. لقد اضطرتني طبول الحرب التي كانت تقرع بشدة لترك مدينتي وأصدقائي وأساتذتي الذين لم اكف عن التفكير فيهم.

* ولماذا غادرت إيطاليا وانتقلت إلى برلين؟

ـ رغم انني استفدت استفادة كبيرة من وجودي في ايطاليا لتطوير نفسي كفنان بعدما التحقت بالجامعة هناك وانهيت فصلا دراسيا الا انني واصلت الجهود للحصول على قبول للدراسة في ألمانيا وقد تسنى لي الدخول اليها عام 1982 وأنا أعيش هنا منذ ذلك الحين. وهنا أيضا درست في الكلية العليا للفنون حيث انهيت دراستي الاكاديمية الثانية عام 1989 والأولى كانت في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد التي تخرجت فيها عام 1978.

* هل يستطيع الفنان أن يحقق ذاته في الغربة في عملية الخلق التي ترتبط جدلا بالوطن؟

ـ عندما غادرت الوطن في تلك الفترة فإنني غادرت مجتمعا شموليا يعمل الفنان فيه براتب شهري في القطاع العام تماما كما في الدول الاشتراكية السابقة ولهذا الجانب ايجابيات ايضا فالفنان يكون مطمئنا على رزقه حيث للرسام مهنة يعترف بها المجتمع ويعمل على اساسها كموظف. نعم كان لدينا الخبز، ولكن مقابل الحرية المسلوبة. والسفر كان حلمي الخاص منذ البداية من اجل أن أتطور وارى الإبداع بلا قيود. وحين سافرت وجئت إلى هنا وجدت انه لا توجد وظيفة اسمها الرسام وكان علي الدخول في معترك صراع لأثبت وجودي في ساحة تعج بالتخمة الفنية والاكتفاء حيث لا جديد. ومن المعروف أن الفنانين الألمان هم اصحاب التجربة التجريدية وقد وصلوا الى مرحلة من الضياع الفني ودفعت البطالة عن العمل الكثير من الهواة ليعلنوا انفسهم رسامي تجريد وهكذا تركت هذه التجربة أثرها على عملي مباشرة. هنا أصبحت اللوحة شيئاً ثانوياً فهناك وفرة في كل شيء ولا يجد الفنان مكانه إلا اذا كان خارقا للعادة، باختصار حياة الفنان في اوروبا حياة صراع دائم. ورغم كل شيء، استطيع اليوم بعد مشواري الطويل في الغربة أن اقول اني استطعت تقديم شيئ فقد نجحت في اقامة 30 معرضا شخصيا وساهمت في تأسيس مركز ثقافي باسم شهر زاد يعنى بالنشاط الثقافي المتعدد الجنسيات في برلين وأصبحت مديرا فنيا له. كما أقوم بين الحين والآخر بتقديم محاضرات عن الفن العراقي القديم في الجامعات والمعاهد الألمانية. المحطة المهمة التي أغنت تجربتي الفنية ووسعت مداركي وزادت اطلاعي على المدارس الفنية عززت ايماني بضرورة تقديم خلاصة التجربة في بلدي العراق. للفن والرسم على وجه الخصوص طعم آخر، وربما من المفيد أن أشيد بدور جامعتنا الفنية في الوطن والعلاقة الحميمة التي كانت تربط الأستاذ بتلميذه، أما هنا فالطالب رقم مجهول والاستقلالية الذاتية تقود في أحيان كثيرة إلى الخواء رغم تطور التقنية الفنية وتوفر المصادر الفنية، وتبقى الحرية هي الربح الوحيد والحقيقي هنا.

* في العراق تجربة المعاهد الفنية، معهد الفنون وأكاديمية الفنون، ما مدى تأثير وأهمية هذه المعاهد في تاريخ الحركة الفنية.. وكيف ستكون الآن؟

ـ المعاهد العراقية هي ثروة وطنية أساسية لا يجوز التفريط بها وقد لا يدرك الفنان العراقي قيمتها إلا اذا فقدها أو اضطر للابتعاد عنها. الوطن هو الذي يعطي الزخم الثقافي والمعنى للوحة، ورغم كل ما مر به الوطن من مآس وتجارب مريرة تبقى المدرسة العراقية هي الرائدة والفنان التشكيلي العراقي هو المبدع الحقيقي، ورغم بعدي عن بغداد فإني أعرف أن هناك العشرات من المعارض وأتابع نتاج الفنانين العراقيين وأتمنى أن تزداد المعارض والورش الفنية التي من شأنها أن ترفع مستوى الابداع. أحب اسلوب الرسامين العراقيين لأنهم يمتلكون دراسة كلاسيكية جادة، واللوحة العراقية فيها خصوصية وروح حتى الفنانون التجريديون في العراق الذين تأثروا بالفن الأوروبي يضفون بعدا عراقيا بتفاصيل تكسبه خصوصية وتميزا. المدرسة العراقية أكثر خصوبة وتفردا تلك التي بدأها الواسطي وصولا الى جواد سليم.

* لقد سقط تمثال الدكتاتور.. والفن الآن في حالة صراع كانعكاس لواقع يتصارع.. ما هو موقفك؟ الكثيرون متأنون في العودة؟ البعض ركض ليرى الوطن.. أين أنت من كل هذا؟

ـ أنا أخطط للعودة إلى العراق في بداية العام الجديد لإقامة معارض فنية في مختلف مدن ومحافظات العراق، واحلم بان يتسنى لي سوية مع زملائي الفنانين في الوطن اعادة اصدار مجلة (مجلتي) بشكل جديد، كما أتمنى أن اعمل ايضا على أن أجد صيغة لتكوين منتدى للفنانين الشباب في العراق يجمعنا معا لتبادل الخبرة وتطوير أساليب عمل جديدة ولهذا الغرض أعددت خطة عمل لمشروع أراه يستحق الدراسة والدعم من المعنيين وأدعو العراقيين لأن يعودوا ليساهموا ـ كل في ميدانه ـ في بناء العراق الجديد.

وحين هوى تمثال الطاغية شعرت أن العراق قد خرج من أبشع كابوس وودع الى الأبد دولة عبادة الفرد، واليوم أتوق الى دولة ديمقراطية تضمن حرية الفكر والإبداع وتصبح الحرية فيها هي أغلى قيمة يذود الجميع في سبيل الحفاظ عليها. أنا متفائل بمستقبل العراق رغم كل الفوضى التي نراها اليوم ويجب أن نتعلم من تاريخ البلدان التي سبقتنا وتعلمت من أخطائها وتخلصت من سلبيات الماضي التي كبلت طاقات شعوبها. أنا مشتاق لبغداد وأهلها، وبغداد بل العراق كله كان معي في ترحالي وأنا سعيد لأن اللقاء قريب.

عن الشرق الاوسط