رودان وتأثير «البارثينون»

Wednesday 11th of May 2022 12:08:39 AM ,
5180 (منارات)
منارات ,

فوزي كريم

شاعر وكاتب راحل

لم يكن المعرض مختارات من أعمال النحات الفرنسي أوكستْ رودان، بل شاء “المتحف البريطاني” أن يكون معرضه أكثر جاذبية ونفعاً: “رودان والفن اليوناني القديم”. إنه درس، على عادة الكثير من معارض لندن، حول تأثر رائد النحت الطليعي الحديث بموروث ناءٍ عنه في الزمان والمكان.

كان رودان (1840 - 1917) خطوة بالغة الجرأة والمقدرة الفنية، في مرحلة التحول إلى القرن العشرين، باتجاه نحت لا يعتمد “المحاكاة”، بل التعبير عن الانفعال في روح الكائن وفكره. حتى لو استدعى هذا، وكثيراً ما يستدعي، تحريفاً في النِسب والمقاييس الواقعية.

كان رودان عرضة لتأثير فن النحت الإيطالي بالتأكيد. فصدى منحوتة مايكلنجلو “موت عبد” واضحة في منحوتة “عصر البرونز”، رغم أن رودان منحها ضروباً من التعبير غامضة أشكلت على النقاد حتى اليوم. ولكن سفرته إلى لندن عام 1881، واطلاعه على أعمال النحت اليوناني في المتحف البريطاني، كانت مصدر إلهام من طراز خاص، أوضحه هذا المعرض لنا بصورة لا لبس فيها.

لم يزر رودان اليونان، ولم يطلع على معبد “البارثينون” المهيب في أثينا، الذي اكتمل بناؤه عام 432 قبل الميلاد، واعتبر معبداً للإلهة “أثينا”. كان المعبد يضم أعمالاً نحتية تعرضت للتدمير بفعل الحرب على العثمانيين، الذين احتلوا اليونان في القرن الخامس عشر. ثري إنكليزي يُدعى توماس بروس اتفق مع العثمانيين، عام 1800، على نقل ما يستطيعه من هذه التماثيل إلى لندن، ثم باعها فيما بعد إلى المتحف البريطاني.

منحوتات المعرض الضخم وُضعت في قاعة مستطيلة كبيرة، يشرع فيها المشاهد من اليمين، ثم يستدير في نهايتها إلى اليسار، ليخرج من حيث دخل. المنحوتات جاءت من مصادر ثلاثة: متحف رودان في باريس، ومن ممتلكاته الشخصية، ومن المتحف البريطاني. ولقد رُتبت منحوتات “البارثينون” إلى جوار منحوتات رودان، واحدة إثر أخرى، لكي تتيح للمشاهد فرصة أن يتأمل مقدار وطبيعة التأثير اللذين تحققا في فن هذا الفرنسي الرائد، دون أن يغفل الاستعانة بالشروح الوافية الملحقة بكل عمل.

إن أبرز ما يلفت النظر هو الاستجابة الصريحة لدى رودان لفكرة “البتر” الذي ألمّ بالأعمال اليونانية بفعل التاريخ والزمن؛ بتر الرؤوس والأطراف والهيئات. وكأن النقصان في هذا البتر التعسفي للزمن والتاريخ (الذاكرة) إضافة في مدى (المخيلة). ولذلك تجده وقد جاراها بالبتر في أعماله. إنه لا يشبه مسعى “مايكلنجلو” في أعماله النحتية التي تركها ناقصة، وكأنها عاجزة عن أن تنتشل نفسها من الحجر الصلب. إن عدم اكتمالها ليس بتراً أو نقصاناً بفعل عامل خارجي، بل مسعى داخلي للخلاص أو للاكتمال. كلا رودان ومايكلنجلو معني بالجسد الإنساني، بكل ما ينطوي عليه هذا الجسد من فورة أفكار وفورة مشاعر. وإذا كانت الأفكار ذات سيادة في حداثة الأول، وقد تجرد قليلاً من هيمنة الدين والأسطورة، فإن المشاعر أكثر سيادة في “عصر نهضة” الثاني، وهو في عمق احتضانه للدين والأسطورة.

منحوتة “القبلة” الشهيرة تنتصب إلى جوار منحوتة إلهتين يونانيتين مبتورتين، تحتضنان بعضاً. شيء من الغموض يكتنف العملين: بين ما هو جسدي وما هو أثيري. ولقد وضعها رودان في عمله “بوابة الجحيم”، مستوحاة من حكاية العاشقين “فرانشيسكا وباولو” الواردة في “الكوميديا الإلهية” لدانتي. ومنحوتة “المفكر”، التي كانت في الأصل جزءاً من عمله الكبير الذي لم يكتمل “بوابة الجحيم”، تكاد تذكّر بمنحوتة بالعنوان ذاته، وضعها مايكلنجلو لأمير فلورنسا لورينزو دي ميديتشي. كلاهما يسعيان لتشخيص فكرة، تبدو لدى رودان أكثر تعقيداً، لأنها تشمل الشاعر والفيلسوف.

منحوتة “بوابة الجحيم” لم تكتمل، ولكن العديد من أجزائها أسهم في المعرض. وحدها منحوتة “مواطنو كاليه” لا تنتسب إلى بوابة الجحيم ولا إلى أعمال “البارثينون”. وضعها رودان في ذكرى الأشخاص الذين ضحوا بأنفسهم أملاً في إنهاء الحرب (حرب المئة عام بين فرنسا وإنكلترا 1337 - 1453).

المقال نشر في جريدة المدى عام 2015