مفكر رودان في غراميات عبد الرحمن بدوي

Wednesday 11th of May 2022 12:28:19 AM ,
5180 (منارات)
منارات ,

علي حسين

كنت قد بدأت بقراءة بعض كتب الفلسفة في سن مبكرة، ولا أستطيع الأدعاء بأنني استطعت حل ألغازها، والبعض منها لم أستطع إنهاءها آنذاك، وإذا سألتني إن كنت أحب مثل هذه الكتب، فسأرد بالإيجاب، واكثر من هذا، لطالما اعتبرت هذه الكتب بوابتي لأن أكون قارئاً جيداً، ومن بين كتب الفلسفة التي شغفت بها كانت مؤلفات عبد الرحمن بدوي تتصدر القائمة دائما،

ولا زالت هذه المؤلفات تشعرني بنشوة خاصة عندما اعود اليها، ولأن عبد الرحمن بدوي كان مكثرا في التأليف والنشر، فمنذ ان اصدر كتابه الاول نيتشه عام 1939، ظل يصدر كتابين او ثلاثة كل عام، ونراه يكتب في الفلسفة اليونانية القديمة ويؤرخ لفلسفة العصور الوسطى ويترجم مختلف النصوص الخاصة بالفلسفة الالمانية المعاصرة والفلسفة الوجودية، ويؤلف في المنطق ومناهج العلوم الفلسفية فضلا عن مؤلفاته في الزمان والوجود، وفي كل مرة يثار السؤال هل عبد الرحمن بدوي فيلسوفا ؟، وهل تحققت نبوءة طه حسين وهو يستمع الى دفاع تلميذه عن رسالته للماجستير عام 1941 المعنونة “ فلسفة الموت “ حين قال:” الآن نستطيع ان نقول ان لدينا فيلسوف مصري “؟ .

عاش عبد الرحمن بدوي حياة اشكالية، فالكاتب الموسوعي، كان موضع خلاف القراء ولا يزال، فالبعض يضعه في الاعالي، والبعض الآخر يجده مجرد ناقل للفلسفة، وكان من جانبه قد خاض معارك مع الجميع لم يسلم منه احد، هاجم فلاسفة الوجودية ووجد نفسه الاحق من سارتر بوراثة هذه الفلسفة، تعلق بنيتشه حتى أن تلميذه محمود امين العالم يقول:” طوال دراستي في قسم الفلسفة، كان عبد الرحمن بدوي هو التجسيد المثالي النيتشوي الحي “، كتابه نيتشه الذي اصدره عام 1939 وهو اول كتبه، هو الذي ادخلني الى عالم بدوي بعد ان جربت قراءة الكتاب، ففشلت في المرة الاولى وعدت اليه ثانية فوجدت نفسي داخل غابة فسيحة من المعرفة والحياة الضاجة بالمواقف والصراعات، وقصص الحب التي ما ان تولد حتى تموت، وتوالت قراءة كتب عبد الرحمن بدوي وسأعثر ذات يوم على كتاب بعنوان “ الحور والنور “ صدرت طبعته الاولى عام 1951، وهو كتاب اشبه برحلة مع الذات، من خلال رسائل يبعثها بدوي الى محبوبته “ سلوى “ يصف فيها رحلاته بين المدن، يكتب في رسالته الاولى :” انا غريب، وفي غربتي تتلاقى مواكب الايام فتسمر كياني في لحظة خاطفة من لحظات الابديية المتحركة.. انا وحيد وفي وحدتي طعم العدم الاصيل تنشر ظلاله الزرقاء في طوايا نفسي الكابية “.

من خلال كتاب “ الحور والنور “ الذي ربما لاينتبه اليه القراء الآن تعرفت على اسماء لكتيبة من الشعراء والفنانيين حيث يأخذنا بدوي في جولة ممتعة داخل قصور ومقابر وحدائق ومتاحف ومنازل لشاعر المانيا الكبير ريلكه وفاجنر ونيتشه ولامارتين والرسام الغريكو والنحات الشهير رودان، ويجد القارئ نفسه يتجول في متحف تُعرض فيه لوحات لكبار الفنانيين وينصت للموسيقى ويستمع الى الشعر الاوربي، وفي الصفحات الاخيرة من الكتاب يضع بدوي للقراء البوما من الصور للأماكن التي زارها ونشاهد قبر جبران خليل جبران وبيت نيتشه وقد كتبت على واجهته “ هنا فكر نيتشه والف من سنة 1881 الى سنة 1888”، ولعل ما أثار اهتمامي آنذاك صورة لتمثال “ المفكر “ الذي كنت اشاهدها على اغلفة كتب الفلسفة، لكنني لم اكن اعرف من هو صاحبها، حيث سيدلني عليه عبد الرحمن بدوي في فصل من فصول الكتاب بعنوان “ في هيكل رودان “ يحدثنا فيه عن القصر الذي سكنه النحات الشهير “ أوغوست رودان” ، وكيف شجعه على السكن فيه الشاعر “ راينر ماريا ريلكه “ عندما كتب له عام 1908 رسالة يقول فيها:” عليك ايها الصديق العزيز أن ترى هذا البناء الجميل “. كان ريلكه يكتب رسالته على طاولة من خشب الزان كان قد صنعها له رودان خصيصا ليكتب عليها اشعاره، وسينتقل رودان الى هذا القصر في ايلول من عام 1908، وقد ارتبط بهذا القصر الذي تحول فيما بعد الى متحف “ رودان “ ، بعدها يزور بدوي مرسم رودان في ضاحية “ ميدون “ ليرى كيف كان يرسم تماثيله التي سيحولها فيما بعد الى طين، وهي الاعمال التي قال عنها ريلكه:” حينما يبدع صوره فكأنه ينشد الخلود في الوجه المقصود بتمثيله “.وسياخذنا بدوي معه لنتفرج على تمثال بلزاك الذي وضعه “ رودان “ واثار في حينها ضجة كبيرة، حيث نرى صورة الروائي الخالق لعوالم انسانية كلها تفيض بالحياة، وقد اصر رودان ان ينحت تمثال بلزاك من قطعة واحدة من الصخر الصلد، مؤكدا ان عبقرية بلزاك مثل صخرة صلدة تحملت كل الأعباء.. كانت فكرة تمثال بلزاك قد تولدت بعد رحيل الكاتب الفرنسي الشهير في مساء الثامن عشر من آب عام 1850 بعد ان اصيب بأزمة قلبية، ولأهمية بلزاك قررت جمعية الادباء ان تقيم نصبا تذكاريا يليق بمكانته الادبية، غير ان الفكرة ظلت مجرد نقاشات وحوارات حتى عام 1891 عندما اتخذ القرار النهائي باقامة النصب وقد عهد بالمهمة الى النحات “ أوغوست رودان “ الذي كان يبلغ الـ “ 51 “ عاما “ وكان آنذاك يحظى بشهرة كبيرة، ودعا الكاتب الروائي الاسكندر دوما الكبير الى اكتتاب عام لاقامة التمثال في باريس، إلا ان زوجة بلزاك اعترضت، فكتب لها دوما رسالة قال فيها:” من شأن الاسرة ان تعني بالقبور أما التماثيل فهي من اهتمامات الاجيال القادمة “.

رحب رودان بالفكرة لكنه اخبر الجمعية انه سينفذ تمثالا يعبر من خلاله عن روح بلزاك وجوهر أدبه ورسالته في الحياة دون أن يتوخى الوصول إلى أي مطابقة مع ملامح الكاتب. وقد تفرغ سنوات لقراءة معظم اعمال بلزاك، والتعرف على كل ما كتب عنه، فأعد عشرات التخطيطات لرأس بلزاك وجسمه وتخطيطات لثيابه، وانقضت سنوات دون أن يفي بوعده، لأنه كان مترددا في الوقفة التي سيختارها للاديب الكبير، وفي النهاية يختار له وقفة توميء الى انتصار ارادة هذا الاديب وقدرته على خلق عوالم انسانية لن تغيب عن الذاكرة. عرض التمثال عام 1898 في معرض اقامه رودان لاعماله لكنه سيثير سخطا كبيرا، حتى ان احد النقاد وصفه بانه:” بلزاك في زي مرضى المستشفيات “ الأمر الذي ادى الى ان ترفض جمعية الادباء التمثال وراحت تطالب بسحب النموذج من المعرض وعدم الموافقة على تحويل هذا النموذج الى نصب كبير واصدرت الجمعية بيانا اكدت فيه ان:” من واجب الجمعية وبكل أسف أن تحتج على مسودة المشروع التي عرضها السيد رودان في الصالون معلنة أنها لم تتعرف في النصب الجصي على أي ملمح من ملامح الأديب الكبير الذي تحتفل به”. لكن رودان كان سعيدا بتمثاله واعلن للصحفيين انه حقق حلمه الخاص بتكريم بلزاك. وارسل إلى جمعية الادباء يعلن فيها انه سينفذ التمثال من ماله الخاص. في المقابل كانت هناك دعوات للتضامن مع النحات الشهير حيث قرر اميل زولا ومعه الفنانين تولوز لوتريك وكلود مونيه ورينوار وسيزان وأندريه جيد وبول فاليري القيام باكتتاب لجمع مبلغ النصب إلا ان رودان كان مصرا على أن يكون هو وحده صاحب المشروع، وقد فضل ان يحتفظ بالنصب في بيته يواصل العمل عليه خلال السنوات الاخيرة من حياته، حيث توفي عام 1917 دون ان يحول مشروعه الى تمثال بررونزي، وسيقوم من بعده تلامذته بالاشراف على تنفيذ النصب الذي تم الانتهاء منه عام 1938 ووضع في واحدة من ساحات باريس ليبدو بلزاك من خلاله وكأنه يتجول في إحدى نزهاته الليلية متدثرا بثوبه الفضفاض.

كان رودان يزدري مفهوم “ اللمسة الاخيرة “ في العمل الفني، ويفضل ان يترك لخيال المشاهد “ جزءا ناتئا من الحجر حتى يوحي ان الشخص ينبعث ويتشكل في تلك اللحظة “ – ارنست غومبرتش قصة الفن ترجمة عارف حديفة – وقد بدأ هذا الامر لبعض الناس شذوذا، فالكمال الفني يعني لهم ان كل شيء ينبغي ان يكون مرتبا ومصقولاً، في حين اهمل رودان هذه التقاليد التي وصفها بغير المهمة ابتغاء التعبير عن رؤياه لفعل الخلق الفني

بدأت حكايتي مع رودان الذي كنت اشاهد تمثاله للرجل المفكر على اغلفة الكتب، بعد ان قرأت ما كتبه عبد الرحمن بدوي عنه، ومثل اي مراهق يستعجل الحصول على المعارف رحت ابحث عنه في الكتب ولم اجد ضالتي إلا بعد اشهر حين عثرت على موضوع كتبه “ زكريا ابراهيم “ صاحب المؤلفات الفلسفية الممتعة، في كتاب بعنوان “ الفنان والانسان “ يكتب زكريا ابراهيم في مقاله عن المشاكل التي تعرض لها رودان في حياته بسبب آراءه الفنية حيث كان يهتم بالصدق اكثر مما يهتم بالتزيين والتجميل، وقد قال رودان عن نفسه:” لقد بذلت كل ما في وسعي، لم اكذب ولم اغرر بمعاصري قط، لم ترق تماثيلي بأعين الناس، لأنها على جانب كبير من الاخلاص، ولكن مما لا ريب فيه أن بها حسنة واحدة هي الصدق «.

ولد “ فرانسوا أوغست رينيه رودان” في الثاني عشر من تشرين الثاني عام 1840 لاسرة من الطبقة المتوسطة، الاب يعمل كاتبا عند احد التجار، اراد لابنه ان يدرس اللاهوت، لكن الصبي الصغير كان يهتم بالرسم، ويحمل معه دفترا صغيرا يرسم فيه المناظر التي تصادفه عند الذهاب الى المدرسة، الامر الذي دفع الاب ان يغير رأيه ويوافق ان يدخل ابنه الى مدرسة فنية اهلية ليدرس الرسم لمدة ثلاث سنوات، بعدها ستحدث الانتقالة المهمة في حياته عندما التقى النحات الفرنسي “ ماندرون “ الذي نصحه بان يدرس النحت في معهد الفنون الجميلة في باريس، غير ان المعهد رفضه قبول رودان ثلاث مرات متتالية. مما اضطره الى العمل في احد ورش الديكور.

عام 1960 ينجز اول عمل نحتي له وهو تمثال لوالده، وقد تحدث عن تجربته مع الطين قائلاً:” لقد رأيت الطين لأول مرة، وشعرت بانني اصعد الى الجنة “.. في تلك السنوات ادرك انه بحاجة الى ان يثقف نفسه، فوضع برنامجا للقراءات الروائية والشعرية، وكان دانتي شاعره المفضل، التحق بالجامعة ليدرس الادب والتاريخ.. تعرض لصدمة عنيفة بعد وفاة شقيقته عام 1862 فقرر ان يترك النحت ويتجه الى الكنيسة فالتحق بسلك الرهبنة، لكن احد نصحة بالعودة الى حياته الطبيعية والى فنه. كان لقاء حبيبته روز بوريه نقطة تحول في حياته، عاش معها قصة حب كبيرة ولم يتزوجا إلا قبل موتها بأيام قليلة.

اختلطت حياته بالخلافات والمعارك وبالانجازات الفنية، اثار ضجة عندما نحت تمثال لفكتور هيغو عاريا، ارتبط بعلاقة غرامية مع كامي كلوديل، التي كانت تلميذته وهي شقيقة الشاعر بول كلوديل والذي اتهم رودان بانه السبب وراء حالة الجنون التي اصابت شقيقته، - تم تصوير حكاية رودان وكاميل في فيلم سينمائي انتج عام 1988 بعنوان “ كاميل كلوديل” من بطولة إيزابيل أدجاني وجيرار ديبارديو -. في سنوات علاقته مع كاميل انجز منحوتته الشهيرة “ القبلة “ التي صورت عاشقين عاريين وقد أثارت موجة من الاستنكار واتهامات لرودان بالانحطاط ونشر الاباحية.

في آب سنة 1880، تم تكليف رودان بتصميم باب لمتحف الفنون الزخرفية كانت الدولة الفرنسية تخطط لإنشائه. عاد رودان لقراءة كاتبه المفضل دانتي، فقدم منحوتة مستمدة من جحيم الكوميديا الالهية، وضع فيه تمثاله “ المفكر “ وكان القطعة الأبرز في منحوتة باب الجحيم التي صورها من خلال تعمقه في قراءة كوميديا دانتي، وقد ظل رودان يعمل اكثر من ثلاثين عاما على منحوتته هذه. وقد اعتبر النقاد منحوتة ابواب الجحيم اشبه بوصيته الفنية التي اراد ان يقول من خلالها ان الجحيم ليس مكانا يتعذب به الاموات فقط، وانما هو يشكل حيرة للاحياء ايضا، فالجحيم هو الآمال الخائبة التي تفلت منا، والاحلام التي لم نستطع ان نحققها، ويمثل خيبة الانسان في هذه الحياة.

وقد شغلت منحوته “ المفكر “ معظم نقاد الفن، فمن هو؟ حيث اعتقد البعض انه رودان نفسه، إذ صوّر الفنان عبر شخصيته، قدرة الإنسان على مجابهة جحيمه بفعل استخدامه عقله وملكة الإبداع لديه بصفتهما آخر سلاح يمكنه أن يقاوم ليحتفظ بإنسانيته وسط عالم - وجحيم - لا يكف عن انتزاع إنسانيته منه.

في سنواته الاخيرة بلغت شهرة رودان أوروبا وأميركا، فوهبته جامعة اكسفورد البريطانية دكتوراه فخرية، وزاره الملك ادوارد السابع في مشغله الفرنسي. تزوج من من روز بيوريه في 29 كانون الثاني عام 1917، لكنها ستتوفى بعد ثمانية عشر يوما من الزواج بعد اصابتها بالتهاب رئوي، وقف رودان امام جثمان حبيبته يتأمل وجهها ويفكر في عمل تمثال يخلدها وهو يقول لاحد مقربيه:” انها لرائعة الجمال.. هي قطعة من النحت في كماله وتمامه «

في 16 شباط عام 1917 عانى رودان من المرض، اصيب بانفلونزا حادة ادت الى احتقان الرئتين، عانى في شهوره الاخيرة من ضعف شديد، في السابع عشر من تشرين الثاني عام 1917 يعلن عن وفاته، وسيجدون في وصيته طلبا بأن يوضع مجسم صغير من تمثال المفكر بمثابة شاهد على قبره.

تأثر رودان باعمال مايكل انجلو لكنه لم يقلده، بل اصر ان يقدم وجهة نظر جديدة في النحت، يرتبط فيها الفن بالحياة المعاصرة له، ويقدم من خلاله الفنان رؤيته لمصير الانسان يكتب في احدى رسائله الى ريلكه:” ان الفن هو التأمل. انه متعة العقل الذي ينفذ الى اغوار الطبيعة، لكي يستكشف ما تنطوي عليه من عقل يبعث فيها الحياة “. وهو يرى ان الفنان حين يعالج ما في الطبيعة من قبح، فأنه يتحول على يديه الى جمال رائع.

في رسالته الى سلوى يكتب عبد الرحمن بدوي وهو يتمعن في اعمال رودان:” ويشهد الله ما تمنيت شيئا في هذه اللحظة التي كنت فيها قبالة هذه التماثيل، إلا ان تكوني الى جواري ياسلوى، فتتذوقين معي جمال هذه الاثار التي لا يقدرها حق قدرها إلا من كانت نفسه عامرة بالاحساس والعواطف الملتهبة «.