من تاريخنا الأدبي المنسي..مجلس صبيحة الشيخ داود، ذكريات طريفة

Monday 16th of May 2022 12:40:19 AM ,
5183 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

جعفر الخليلي

يضم صالون صبيحة الشيخ داود مختلف الاجناس من الناس رجالا ونساء فان الاحاديث التي تجري في صالونها تتناول مختلف المواضيع من احاديث سياسية وتعليقات على الاخبار، ومناقشات ادبية، وطرائف عامة وخاصة،

كما ان هذا المجلس لا يخلو احيانا من التوافه والزبد الذي يذهب جفاء وكثيرا ما ينتقل المفيد مما يجري في هذا الصالون الى الصحف وعلى الاخص صحيفة (الحارس) التي انتدبت خصيصا لنقل الاخبار الادبية والمناقشات التي تجري في كل يوم خميس، كذلك كانت جريدة (الزمان) كثيرا ما تعكس اخبار هذا الصالون وما يجري فيه.

وذات مرة بلغ البلاط الملكي ان بعض حضار صالون صبيحة الشيخ داود قد تناول الوصي عبد الاله بشيء من النقد. وكان ان ابلغ شاكر الوادي وكان حينذاك وزيرا للشؤون الاجتماعية صبيحة الشيخ داود استنكار البلاد وسخطه لما جرى او يجري في صالونها وطلب منها تنزيه ما يدور في هذا الصالون في مثل هذه التقولات، الامر الذي دعا صبيحة ان تتصل بالاميرة شقيقة عبد الاله مستنكرة ومستغربة مثل هذا الحجر على الحريات الخاصة، وكم كان غريبا حين وجدت الاميرة نفسها تؤيد صبيحة فيما ترتئي وتلوم اخاها على مثل هذا التدخل بشؤون الناس الداخلية.

وجاء في جريدة الحارس في سنة 1953 ان جعفر الخليلي قد اثار في احدى جلسات ندوة صبيحة وبعض الحقوقيين موضوع الادب ووجوب افرازه عن المواضيع الاخرى التي تدور في هذا الصالون وذلك بتعيين يوم خاص بالادباء يقتصر عليهم دون غيرهم وقد رحبت صبيحة بهذا الاقتراح، واقترح منير القاضي ان يكون الخميس من كل اسبوع هو اليوم المعين للادب والادباء كما اقترح ان تكون جريدة (الحارس) منبرا لاخبار هذا اليوم فتنشر خلاصة ما يدور فيه.

وبالفعل طالت الايام الادبية في بيت صبيحة وكثرت الاقوال والاراء التي نقلتها جريدة الحارس عنه وربام تناقلتها صحف اخرى عن (الحارس).

وكان لعبد المجيد لطفي الذي لازم هذا اليوم الادبي مقال طريف عن هذا اليوم في (الحارس) وكانت صبيحة قد اهدت حسين علي الاعظمي مسبحة جميلة جاءت بها معها من لبنان وقد اعجبت الحاضرين مداعبة الاعظمي لخرزات هذه السبحة وطقطقاتها الموسيقية، فتناول عبد المجيد لطفي هذه المسبحة في احدى مقالاته وقال ان لطقطقة هذه الخرزات رنة ونغمة تقوم مقالم التفاعيل في موازين الشعر، ولعلها هي السبب في جعل هذه الموسيقى الخلابة الساحرة تفيض من شعر الاعظمي اكثر من التفاعيل التي تعلمها من علم العروض، وقد هاج هذا المقال قريحة الشاعر حسين علي الاعظمي فجاءنا في الندوة التالية من الخميس بقصيدته الرائعة عن هذه المسبحة وضنعتها وقدسيتها وكل هذا كان قد نوقش في الجلسة التي كتب عنها عبد المجيد لمقال، وقد قرئت القصيدة ونشرها (الحارس) وتناقلتها بعض الصحف عن الحارس وهي التي اوردها هنا:

جاءت اليّ بسبحة من ادمع

او سبحة من اكبد وقلوب

من جيد راهبة تسبح بزحلة

وخلعت في بغداد ثوب ذنوبي

وعكفت في محراب قلبي خاشعا

لانال في محرابه مطلوبي

متعلقا بالله جل جلاله

متشفعا بحبيبه وحبيبي

متوسلا، متأملا، متضرعا

متطلعا في لوحه المكتوب

لتدور بي شمس بدون غروب

وتسير في بحر الوجود سفينتي

بشراع روحي او بخار لهيبي

وتطوف حول حبيبها هيمانة

بجماله من غير عين رقيب

فهو القريب لهائم في قربه

ولمن جفا ونأى فغير قريب

وهو المجيب لعاشقيه سؤالهم

ولمن طغى في الارض غير مجيب

اني لاهواه واخوى قربه

مستعذبا في حبه تعذيبي

لآرى بنور جلاله ما لا ترى

عين امرئ من سره المحجوب

واحل من ملكوته في موطن

فيه غريب الدار غير غريب

يا نفس هذا منزلي فاستبشري

يا نفس في وطن الخلود وطيبي

انه والله من العقوق المر ان ننسى حسين علي الاعظمي الذي طالما اسدى لوطنه المعروف وهو وكيل ومعاون لعميد كلية الحقوق، وقد تخرجت على يديه المئات من الحقوقيين الذين لا يزال الكثير منهم اليوم قضاء، وحكاما ومحامين، ومن العقوق ان نتناسى شاعرا كان المجلي في الكثير من المناسبات التاريخية والوطنية والغريب اننا لم نعد نذكره حتى اسطتردا وعرضا حين يمر ذكر الذين اسمهموا في خدمة كلية الحقوق او الذين يمر ذكرهم كشعراء في هذه الفترة من الزمن.

ومما ذكر في يوم الخميس الذي خصته صبيحة باهل الادب والشعر والحقوق ان مناقشة جرت بيني وبين الاستاذ منبر القاضي. والاستاذ منبر القاضي عالم معروف وفقيه شهير وقع في اشتباه او سهو ولكن ذلك الاشتباه والسهو لن يقلل من قيمته كعالم جليل، فقد روى ذات ليلة فيما روى بيتا من الشعر رواه على هذا النحو مستشهدا به:

واني رأيت الناس فيما رأيتهم

ظواهرهم ليست كالبواطن.

وكان قد روى لي في مجلس ىخر من مجالس صبيحة الشيخ داود بيتا آخر من الشعر كان هو الاخر خارجا على الوزن وكانت لي معه وقفة، فقلت له ان هذا البيت غير موزون، ولابد ان يكون العجز مثلا (ظواهرهم ليست كما في البواطن)، او يكون مثلا (واهرهم غير التي في البواطن) او يكون غير هذا فقال انا متاكد ان البيت قد ورد على هذه الصورة فقلت من الجائز ان يكون الخطأ من الطبع اذا كان النص مطبوعا، ومن الناسخ اذا كان النص مخطوطا او ان يكون البيت من محفوظات الصغر، اذ كثيرا ما يعلق الشيء بذهن المرء من صغره وهو خطأ فيظل مرتسما في الذهن حتى ولو بعد ان يتمكن المرء من اللغة والنحو والصرف والعروض.

وبدا لي ان (القاضي) لم يرتض بقولي، ولم يجر بنا النقاش الى اكثر من هذا فالرجل كبير الشأن، ومحترم، وعالم بحق، وكفاني اني كتبت البيت في مذكرتي، ثم نسيته، وقد بحثت عن اليوم في عدد من المذكرات الجيبية حين جاء ذكر الصالون حتى وجدته، وصار عندي من اليقين ان العلم وحده او علم العروض وحده لا يكفي لضبط الوزن عند العلماء ما لم تكن السليقة الفنية سليمة عند هؤلاء العلماء.

وجرى مرة في هذه الندوة من يوم الخميس ذكر الطلاق وما اذا كان يجوز للمراة ان تمنح حق الطلاق، وكانت المناقشة عنيفة، وكانت صبيحة ترى وجوب تعديل (الاحوال الشخصية) ومنح المرأة هذا الحق، وكان منير القاضي يخالف هذا الرأي ويرى فيه خروجا على الشريعة الاسلامية.

فقلت ان الذي اعرفه عن المذهب الجعفري ولا ادري ما اذا كانت المذاهب الاسلامية هي الاخرى ترى مثل هذا الرأي ام لا، هو ان بامكان المرأة ان تطلق زوجها اذا جرى مثل هذا الشرط في عقد الزواج، كان يتنازل الزوج عن حقه هذا لها ويعهد به اليها. لا اذكر ما كان رد من حضر من الفقهاء على هذا الرأي، ولكني اذكر ان منير القاضي اراد يمزح فقال: لو اردنا ان نجعل الطلاق بيد المرأة لما غبن احد غيري في عالم الرجال لانني ساكون اول من تطلقه زوجه وذلك لانعدام المزايا التي تتطلبها الزوجة في زوجها في شخصي، فضحك الجميع، واستغفر بعضهم لما يعرفون للشيخ القاضي من المزايا الفائقة من حيث دمائه الخلق والانسانية فضلا عن علمه وادبه.

عن كتاب (هكذا عرفتهم) الجزء الخامس