حكاية وزير الصحة..العراقي الأول

Thursday 19th of May 2022 12:26:47 AM ,
5186 (عراقيون)
عراقيون ,

د. ذنون الطائي

عندما تأسس الحكم الوطني في العراق منذ سنة 1921، كانت للكفاءة الموصلية مكانتها ومساهمتها في البناء المؤسساتي وفي مجال التشريع وسن القوانين، وذلك عبر نخب من الشخصيات التي أدت أدوارها بكل كفاءة واقتدار، ففي المجال الصحي مثلاً يبرز لنا د.حنا خياط بوصفه الوزير الأول للصحة في العراق وله برنامجه الصحي المهم.

ومن الأهمية التعريف به وبأدواره في المجال الطبي والمهني وسعيه لنشر الثقافة والوعي الصحي في العراق. ولد حنا خياط في الموصل 1884، وبعد تلقيه العلوم المدرسية، تطلع نحو تحصيل العلوم في الخارج، حيث حصل على درجة البكالوريوس في العلوم والآداب من الجامعة الفرنسية في بيروت سنة 1903م، كما حصل على درجة الدبلوم في الطب من جامعتي باريس واسطنبول سنة 1908م وانتخب عضواً في الجمعية الطبية والجراحية في بروكسل.

وحينما عاد إلى الموصل انتخب أثناء الحرب العالمية الأولى نائب رئيس “جمعية الهلال الأحمر” في المدينة، وشغل منصب رئيس المستشفيات الملكية فيها خلال الفترة 1914-1919. وبين سنتي (1918-1920م) عين طبيباً في مدينة الموصل. وانتمى إلى “النادي العلمي” فيها، وشارك بنشاطات فعالة، وبخاصة في محاضراته التي ألقاها على الأعضاء.

وبعد تأسيس الحكم الوطني شغل منصب وزير الصحة سنة 1922م ويعد الوزير الأول للصحة في العراق، كما تولى رئاسة مديرية الصحة العامة للفترة (1922-1931)، فضلاً عن ممارسته منذ سنة 1926م تدريس الطب العربي في كليتي الحقوق والطب في بغداد وفي سنة 1931 م عين مديراً عاماً للخارجية ثم مفتشاً عاماً للصحة سنة 1933م. ومديراً للمستشفى الملكي وعميداً للكلية الطبية الملكية سنة 1934م. وهو طبيب ماهر وكاتب مجيد له آثار طبية وكتابات في علم الاجتماع، وهو مؤرخ باحث، وله معرفة واسعة في اللغات الأجنبية.

ويعد حنا خياط واحداً من المثقفين المستنيرين الذين امتلكوا فكراً اصلاحياً للحياة والمجتمع، وقد كان لتخصصه في الطب وثقافته الواسعة في أحوال المجتمع الدور البالغ في تطور الأمور الطبية بمدينة الموصل أثناء توليه منصب رئاسة المستشفيات الملكية، ويتضح ذلك فيما أعده من خطط إصلاحية لرفع كفاءة الجهاز الطبي فيها.

كذلك من خلال أوامره حينما نصب وزيراً للصحة في العراق. فضلاً عن مساهماته في حملات التوعية الصحية بما نشره في الصحف من مقالات صحفية رصينة تهدف إلى النهوض بالواقع الصحي للبلد. ففي تقرير إجمالي عن الأحوال الصحية في الموصل منذ الاحتلال البريطاني لها حتى شهر سبتمبر 1919م، تحدث حنا خياط عن الإهمال في مرافق المدينة أثناء فترة السيطرة العثمانية وعزا أسباب التخلف الصحي إلى إهمال السلطة في الوقت الذي كانت السلطة تعزو القصور في هذا الشأن إلى الأهالي ناكرين عليهم استعدادهم للترقي الصحي، وأردف خياط قائلاً:”إن الأسباب كلها عن الرجال الذين كانت بيدهم أزمة الإدارة وقد رجحوا منفعتهم على مصلحة الرعية، فان التثبت الذي كان يقع من دائرة الصحة إلى البلدية بشأن التنظيفات كان يتخذ وسيلة لقضاء منافع شخصية.وكان يصرف المبلغ المخصص للتنظيفات وقدره (600) روبية لكل شهر في وجوه مجهولة «.

وبغية الاطلاع ميدانياً على الأوضاع الصحية في البلد واصلاحها قام الرجل بالذهاب مع المأمورين الى دائرة البلدية وساهم في عملية التعجيل بتنظيف البلدة خلال مدة قصيرة،وقد نجح في دفع البلدية لاجراء التنظيفات بواسطة المختارين وشكلت مزابل صغيرة في كل زقاق. ومن الإجراءات المتخذة هي قيام الإدارة الصحية مباشرة بشؤون التنظيفات وإنشاء المزابل وسد الخرابات وتعيين نقاط في أحياء البلد مع مأموريها ومراقبة الاعمال والاشراف على بعض الحرف ثم إصلاح “المسلخ” ونقل اللحوم الى البلد وانتظام الكنس يومياً ورفع الأوساخ إلى خارج البلد.

وقد تناول حنا خياط بالتحليل دراسة الاوضاع الاجتماعية للاهالي محاولاً الوقوف على اسباب التقهقر الاقتصادي والاضمحلال الاجتماعي. إذ قام بتوضيح وسائل ترقية الأمم، ثم تعرض الى تشخيص اسباب الانحلال في العراق وعزاها الى سببين اثنين: الأول (اجتماعي) بسبب ندرة المدارس المنتظمة والتي عملت على “اندثار الجنسية والعنصر واللسان فان هذا الخلل كان كجرثومة الوباء غرسها الدور السابق كيداً وعمداً فلم ينج منها سوى من كان معمماً.. وفقدان المحافل الأدبية لتقاضي الشبيبة بها عن المجتمعات اللاهية “. أما السبب الآخر: فهو (سياسي) إذ أشار حنا خياط إلى أن “العراق منذ حدوثه لم يكن له كما كان لسائر الأمصار، حكومة خاصة به قائمة بذاتها”.. ودعا حنا خياط إلى شحذ همم الرجال الذين إليهم تعول في المعضلات ومنهم تستنجد الآراء السليمة إزاء هذا البحر السياسي المتموج، وختم حنا خياط آراءه بالقول: “إن أهل الرقي كما يعلم في اجتماع الكلمة والسعي وراء الضرورة قبل الكمال واجتماع الكلمة قائم في (نخبة الأمة) ونخبة الأمة في من ضحى غايته لوطنه، وأما العدل فلا يقوم إلا إذا اهتدى المرء بكمال حريته صراطاً مستقيماً فعرف نفسه وعرف حق أخيه وأصاغ السمع لواجبه الوطني واعترف بحق دولته».

وفي خطاب ألقاه حنا خياط بمناسبة افتتاح أعمال المستشفى الملكي في الموصل، تناول موضوعات اجتماعية وصحية عديدة، إذ أشار إلى أهمية الإنسان في الوجود وأكد أن البقاء من لوازم الوجود فالإنسان من حيث انه موجود ترشده البداهة إلى معرفة نواميس الطبيعة الضامنة لحفظه فتحفظ كيانه ومن حيث انه كائن مدني مكلف بحفظ نوعه تهديه القوة العاقلة إلى الأحكام الأدبية الكاملة فتحفظ نوعه، وأشار ايضاً إلى أن هذين الواجبين والمبدأين معاً أي الذاتي والنوعي اللذين هما أساس كل العائلات فالملل والشعوب.

كما تعرض حنا خياط الى اسباب كثرة الوفيات بين الاطفال وانتشار امراض التدرن وانتشار الحشرات المتنوعة في الدور والازقة وقلة النمو في سكان البلد نتيجة سوء الادارة. وعدم الاهتمام في الاصلاحات الطبية،وبين الرجل بان الامراض الزهرية قبل الحرب العالمية الاولى كانت في البلاد قليلة جداً ولكن اتسع نطاقها اثناء الحرب،اما الاحوال المرضية العارضة كالجروح المتنوعة والتسمم والقتل فيشير الى انه سنة 1915م بلغت (الالف) شخص في حين انخفض هذا العدد كثيراً سنة 1919م حيث بلغ عدد المقتولين (9) والجرحى (60) ولم يذكر أي حالة تسمم.

ودأب حنا خياط على نشر المقالات الإرشادية في المواضيع الصحية التي تتناول طرق الوقاية من بعض الامراض السارية والتنبيه إلى كيفية معالجتها ومكافحتها، ففي تناوله لموضوع مرض الحمى التيفوئيدية، تطرق الى كيفية الاصابة بها وطرق علاجها،وأشار إلى أن “الانتبيرين هو احسن واسطة لمقاومة الصداع اثناء الحمى التيفوئيدية ويقتضى اقتضاء اً تاماً ان تعطي “ الكينين” واملاحها بالمقاييس المشروطة اثناء الحمى التيفوئيدية.»

وفي موضوع “بثرة العراق ومصير تداويها” اوضح حنا خياط، ان بثرة العراق هي آفة أهلية معروفة عند العامة (بالاخت) وفي اصطلاح الاطباء (بالسنمنيوز) وأشار إلى أن هذه الآفة تظهر على سطح الجلد وعلى القسم المكشوف منه وهي ذات طبيعة التهابية بطيئة السير مع الميل لاجراء تخريبات كلية او جزئية عمقاً ومساحة في الانسجة الجلدية المستوية عليها، ويعزو حنا خياط سبب البثرة الى عدم الاعتناء في النظافة الجلدية، وقسم ادوار نموها الى (4) اقسام واوضح اطوار كل دور. اما طريقة علاجها وتداويها فتحدث عن المألوف منها قائلاً:”ان نغسل البثرة غسلاً محكماً (بالالكتول) بحقن تحت البشرة وعلى قدر الامكان بين البثرة والجلد..وبمقدار من محلول (الايمسيتين) وحسب سعة البشرة ثم يكرر الاحتقان مرتين او ثلاثة في مدة اسبوعين.»

وحينما تسلم حنا خياط وزارة الصحة، اجتمع مع أطباء العاصمة وتباحث معهم في السبل الإصلاحية الكفيلة بتحقيق النهوض الصحي العام في القطر، وأكد بان أساس العمران والدليل القاطع على المدنية الحقيقية هو المحافظة على الصحة والقضاء على الشوائب والأعراض المرضية، وفي صدد حديثه عن منهاج الوزارة قال:”فمنهاجنا ايها السادة هو الاقدام على كل ما يؤول إلى تحسين الصحة العمومية وإكثار النفوس واستئصال الأمراض السارية والاجتماعية.. فالبناء نعرفه وهو ترميم صحة العراقي ومحافظة الجنس في القوم العراقي ذلك القوم العريق في العنصر والشريف في المباديء والقريب في التطور..فعلينا أن نصلح ما فسد.. ونستنفذ الوسع في إصلاح سوء تركيبه ونحاول تخفيف وطأة الأمراض الاجتماعية.

كما تطرق حنا خياط إلى ضرورة مشاركة الحكومة في الجهود الصحية المبذولة عن طريق، تأسيس المستشفيات والمستوصفات والمخافر الصحية في سائر أنحاء البلاد، والحث إلى استمالة الأهالي للتطبيق عن طريق المحاضرات والصحف وإنشاء مجلة صحية، وختم كلامه بالمطالبة بتأسيس جمعية للأطباء للرفق بالمعلولين والفقراء.

وقد ذكره هاري سندرسن عدة مرات في مذكراته ووصفه بقوله:

«كان الدكتور حنا خياط المدير العام للصحة، وهو مسيحي من اشهر الاطباء العراقيين في ذلك الوقت، فلقد امضى في الخدمة لدى الحكومة التركية عشرين سنة قبل ذلك الوقت، وكانت معلوماته عن المشاكل الصحية التي تواجه الحكومة فريدة في بابها،وحين احيل على التقاعد بعد عدة سنوات، عين عضوا في مجلس الاعيان «.

لقد اجتمع حنا خياط مع الملك فيصل الاول في 22 تشرين الأول سنة 1922وتباحثا في الأمور الصحية والاجتماعية، وكان خياط قد اعد مشروعاً اصلاحياً لمدة 10 سنوات، قدمه إلى الملك فيصل وشرع بتنفيذه منذ اول تشرين الثاني من العام نفسه حتى عام 1932