عرّاب أغاني الهدل والمكيّر وأبو زركه

Thursday 26th of May 2022 12:50:07 AM ,
5191 (عراقيون)
عراقيون ,

رياض المحمداوي

ولد الفنان الملحن العراقي الكبير كمال بن طالب بن عليوي الحسيني،والملقب بكمال السيد في مدينة الناصرية عام 1944. تخرج في معهد الفنون الجميلة ببغداد، قسم الموسيقى للعام 1964-1965 وكان من الأوائل على دفعته. تخصص بآلة العود بعد أن درس الموسيقى على يد كبار الموسيقيين العراقيين مثل الموسيقار جميل سليم وروحي الخماش.

عمل بعد تخرجه، معلماً في مدارس مديرية تربية الناصرية لسنوات قليلة ليتحول فيما بعد إلى الإشراف التربوي على المدارس الابتدائية في مديرية تربية محافظة السماوة ثم بغداد. توفيت والدته وهوفي عامه الأول، وبعد ذلك بفترة قصيرة تركه والده تحت رعاية جدته وسافر إلى البصرة للعمل في المقاولات الإنشائية، ليتزوج ويستقر هناك، فتولت جدته تربيته، وصارت بمثابة أم له. المكيَّر وأغان أخرى عندما وضع كمال السيد جمله اللحنية على مقاطع قصيدة “ المكيَّر “ للشاعر الراحل زامل سعيد فتاح، وقف الكثير من أصدقائه وبعض أساتذته ومن بينهم الموسيقار جميل سليم موقف عدم الرضا، كان ذلك قبل تسجيلها، وعلى الأخص عندما عرفوا بأن المطرب ياس خضر ذا الصوت والأداء الريفيين هوالذي سوف يغنيها، ولكن كمال السيد أصر على تسجيل الأغنية وتقديمها للجمهور العراقي، فخرجت عام 1969 بصوت الفنان ياس خضر الذي كان في بداياته الغنائية كمطرب ريفي، كان يغني أغانيه البسيطة مثل “ أبوزركة “ و” الهدل “، ولكن “ المكيَّر “ فتحت له أفقاً جديداً، حيث وجد الناس أن الأغنية الحديثة تتسع له، كما فتحت آفاقاً لشهرة هذا المطرب الواعد، حيث اكتشف الملحن كمال السيد أجمل ما في صوته من إمكانيات صوتيه وغنائية، مما دفع بقية الملحنين العراقيين إلى الإقبال بألحانهم إلى هذا المطرب بعد أن تعرفوا على ثراء وعمق صوته. فقد قدم له الملحن الكبير طالب القره غولي أغنية « إعزاز « وبعد ذلك أغنية « البنفسج «. حصل الملحن كمال السيد على مبلغ أربعة دنانير وعلى مثلها حصل الشاعر زامل سعيد فتاح كأجور فنية عن أغنية « المكيَّر « التي أصبحت لا تقدر بثمن. وإذا كان لأغنية « المكيَّر « حلاوتها وتأثيرها الخاص على الأذن العراقية، فهناك أغان اخرى خرجت من جعبة الملحن كمال السيد لا تقل حلاوة وأهمية في تاريخ الأغنية العراقية، مثل أغنية « كون السلف ينشال « التي سمعناها مطلع السبعينيات بصوت المطرب حسين نعمة. مثل أغنية» هي ولك يا بلام « وتعتبر هذه الأغنية من أهم الأغاني العراقية، لأنها تكشف لنا العبقرية والموهبة الفذة لدى هذا الفنان في التركيبة اللحنية للأغنية من حيث الانتقالات النغمية والايقاعية.

المكير اغنية لاتتكرر..

فقد عرفه الجمهور العراقي بصاحب اوملحن أغنية “ المكير “، على الرغم من أن له أغاني لا تقل جمالاً وحلاوة عنها وربما تفوقها جمالاً. كمال السيد، الذي غنى له أغلب المطربين العراقيين، فما من مطرب عراقي سمعه الجمهور باحترام، إلا ولكمال السيد حصة في بصوته، وما من مطرب أدى لحناً له إلا وزادت شعبيته، فأغاني السيد لها ميزة لم يعرفها المستمع العراقي من قبل، تكمن في طبيعة القصائد المختارة، فأغنية “ ياريحان “ للشاعر مظفر النواب وأداء المطرب فاضل عواد، هي ببساطة أغنية صورة شعرية لم تألفها أذن المستمع العراقي: “ شكَد ندى نكَط ع الضلع.. ونسيت أكَلك يمتى.. شكَد راسقي ونيمته «.

هذه الصورة الشعرية وغيرها كأغنية “ بين جرفين العيون “ التي عرفناها بصوت المطرب سامي كمال: “ بين جرفين العيون.. غركَت والروجة رمش.. تيهيتني وردت أكَلك.. هاك أخذ كَلبي وإمش “. هذه الصور دخلت أذهان العراقيين في الوقت الذي كانت معتادة على أغاني مثل “ طالعه من بيت أبوها “ و” يا طبيب صواب دلالي كلف “ وغيرها، فلقد سجلت فترة نهاية الستينيات هذا التحول الكبير بصورة الأغنية العراقية الجديدة، من خلال ألحان كمال السيد وزميله الفنان كوكب حمزة، اللذان عرفتهما ساحة الأغنية العراقية منذ عام 1968 ليشكلا نواة أهم مرحلة غنائية عرفتها ساحة الغناء العراقي إلى الآن. هذه الموجة للصورة الجديدة أثارت ردود أفعال لدى المستمع والمعني بالغناء على حد سواء. فهناك من رحب بها باعتبارها موجة تجديد تمنح حياة جديدة للأغنية التي قاربت على الاستهلاك، وهناك آخر اعتبرها انتهاكاً للروح الشعبية في الأغنية، التي تتميز بالبساطة والتلقائية وحتى السذاجة أحيانآ. بالإضافة إلى أن أرشيف الأغنية العراقية يحتفظ بالكثير من الأغاني لهذا الملحن الكبير مثل “ كصيت المودة “ للمطربة أنوار عبد الوهاب و” حبنه حبيبي لولاه “ لعارف محسن وأديبة وأغنية “ يا غريب الدار “ و” سلمت وإنت ما رديت السلام “ للمطرب قحطان العطار، وللمطرب الراحل صباح السهل أغنية “ العشك موبالشكل “، وللمطربة غادة سالم أغنية “ هنيالك “، أما أغنية “ تُمُرْ بيه “ فلقد غناها المطربان سالم رمضان ومرتضى العراقي الذي غنى بعد ذلك أغنية “ ألف مرحب “ وأغنية “ ليش حبينة “ التي عرفها الجمهور العراقي في فترة السبعينيات بصوت المطرب فتاح حمدان، أما المطرب حميد منصور فقد غنى للملحن كمال السيد العديد من الأغاني نذكر منها أغنية “ نجمة حبيبي “ وهي أغنية مبنية على تركيبة شعر الأبوذية في مقاطعها الغنائية، وأغنية “ مثل الحدايق “ و” قالت لي الشموع “، أما سعدون جابر فقد غنى أغنية “ يا أهيف الطول “ التي وضع كمال السيد ألحانها منتصف السبعينيات. في عام 1974 قدم الملحن كمال السيد صوتاً غنائياً جديداً إلى المستمع العراقي من خلال أغنية “ مدللين “ من كلمات الشاعر إسماعيل محمد إسماعيل، وغناها المطرب سامي مناتي، الذي غير اسمه الفني إلى سامي كمال حباً وولاءً لأستاذه الملحن. توالت ألحان كمال السيد لصوت هذا المطرب، حيث غنى سامي العديد من ألحان السيد مثل أغنية “ أحبه وأريده “ للشاعر كاظم إسماعيل الكاطع و” الحب ضاع “ كلمات كريم العراقي، وأغنية “ بين جرفين العيون “ من كلمات الشاعر مهدي عبود السوداني، هذه الأغنية بصورتها الشعرية الدافئة وبالأخص الكوبيليه الأول منها الذي يقول: (يا البريسم شرد أعاتب.. شرد أعاتب يا البريسم.. وإنت تسبكني بعتابك يا البريسم.. وأنسى كل ما أرد أقلك يا البريسم.. من كثر هم الليالي.. ذوبت حتى الليالي) أثرت هذه الاغنية انذاك بشكل ملحوظ على المطرب الشاب. (حسن غضيب) ليغيراسمه إلى حسن بريسم ليكون هذا الاسم أشهر الأسماء الغنائية العراقية الشبابية.التي لها نجاز رائع.

مغادرته العراق..

منذ ذلك الحين حتى السنوات الأخيرة من حياة الفنان الراحل كمال السيد، لم يفترق المطرب سامي كمال عن أستاذه الملحن،حيث قررا مغادرة العراق في نهاية سبعينيات القرن المنصرم لاسباب سياسية لكونهما ينتميان للحزب الشوعي العراقي والذي كان محظورآ في الدولة العراقية وحزب البعث الحاكم حيث شعرا في الخطر المقبل عندما انهارت الوحدة بين الحزبين فغادرا العراق خوفآ على حياتهما والكثيرين ممن على شاكلتهم من مثقفي ومبدعي العراق.وتلك المرحلة اشبه بمرحلة اليوم بعد تعرض العراق الى الاحتلال الامريكي وحكم الاحزاب. فكانت اليمن محطة المنفى الأولى لهذا الفنان وآخرين غيره، حيث عمل كمال السيد في مجال التعليم كأستاذ للموسيقى في معهد الفنون الجميلة هناك، وهناك شارك زميله الملحن حميد البصري في تأسيس “ فرقة الطريق الغنائية “ التي ضمت بالإضافة إلى السيد والبصري، المطرب سامي كمال وجعفر حسن وعازف الإيقاع حمودي عزيز والمطربة شوقية، فقدعملت هذه الفرقة لعدة سنوات في اليمن بطابعها الحيوي المعروف، حيث أغناها كمال السيد بألحانه الرائعة. غادر كمال السيد اليمن بعد أن قضى عدة سنوات فيها إلى سوريا، وهناك أسس كمال السيد مع زميل منفاه الفنان كوكب حمزة “ فرقة بابل الغنائية “ عام 1983 وبالاشتراك مع المطربين فلاح صبار، سامي كمال وسالم البهادلي، وعازف الإيقاع حمودي عزيز، ثم انضم إليهم صوتان نسائيان وهما حنان وشقيقتها جنان سامي كمال. لقد كانتا “ فرقة الطريق “ وفرقة “ بابل “ الصوت الحقيقي للإنسان العراقي في منفاه، حيث كانت الأغنية الوطنية والتراثية تشكل المصدر الروحي الملهم لهاتين الفرقتين. قدم كمال السيد عشرات الألحان لهاتين الفرقتين نذكر منها أغنية “ مضايف هيل “ للشاعر مظفر النواب، وأغنية “ هلاهل “ بصوت المطرب فلاح صار، والأغنية الشهيرة “ ويها يا أهلنا “ والتي تقول في مستهلها: ويها يا أهلنا واحنه منها وبيها.. بغداد شمعة ولا هوه ايطفيها.

غزير الالحان

كان كمال السيد قليل الكلام غزير الألحان سريع البديهة محب للنكتة، وكان كثير الدموع حين يستعيد تعاسة حياته الخاصة، كان لفقدانه المبكر لوالدته الأثر الكبير في حياته، حيث ضل يبحث عنها في وجوه النساء وأحضانهن، وربما يكون هذا هوالسبب المباشر في تعدد زيجاته. فقد كان مولعآ بحب الأطفال، وشغفه بعالمهم، لكونه لم يعش طفولته كما ينبغي أوكما عاشها غيره، فقد كانت طفولته عبارة عن مأساة حقيقية، ولذا أخذ على نفسه عهداً وهوفي مرحلة الشباب، بأن لا يحرم أي من أطفاله حنين والديه، ولكنه كان يشعر انه نكث بهذا العهد مجبراً تحت وطأة المنفى بعيدا عن وطنه واهله وناسه والظلم السياسي وعنجهية النساء “. من هنا نستطيع أن نخمن السبب الحقيقي الذي حذا بالفنان كمال السيد إلى أن يلحن عشرات الأغاني للأطفال، والتي تعد من أجمل ما لحن للطفل، ولكن وللأسف لم يتم تسجيلها أوإذاعتها من قبل وسائل الإعلام،

وبعد مرحلة سوريا انتقل الفنان وبعض من اصدقائه الى اوربا وتحديدآ الى الدانمارك، حيث ضل كمال السيد يدرس الأطفال على الموسيقى والغناء سنوات عديدة. من أغانيه الجميلة التي لحنها للأطفال ومنها اغنية “ أجمل وطن “ ويا بلبل الصباح ويا بنيات المحلة وما أبسط الحياة “ ويمه يا يمة وقلم التلوين والأغنية الرائعة محروس يا عراقنا وغيرها الكثير. أغاني بطعم حبه لبلده العراق.

فقد تعمق إحساس الملحن كمال السيد في غربته التي نحتت في ذاكرته صورة العراق وهوبعيداً عنه في منفاه فأبدع بألحانه التيً تعد صوراً حقيقيةً لغربة عن العراق.

فسمعنا منه أغنية “ كل سنة وإنت طيب يا وطني الحزين “ و” يا غريب الدار “ بصوت المطرب قحطان العطار، وأغنية “ أبوالمواني “ بصوت المجموعة، وهي أغنية جميلة جداً تمتزج فيها روح التراث العراقي وحلاوة الأغنية الحديثة، وأغنية “ ترافة وليل “ من كلمات الشاعر مظفر النواب، والكثير من الأغاني التي كان يؤديها كمال السيد بصوته في الحفلات العراقية التي كانت تقام في بلدان المنافي. في الثاني عشر من تشرين الأول عام 2001 نُقل كمال السيد من داره التي كان يقيم فيها مع آخر زوجاته السيدة إيمان عبد الجبار الجزائري وولده “ كيم الحسين “ إلى إحد مستشفيات كوبنهاغن، على أثر مرض عضال لم يمهله كثيراً، ففاضت روحه العاشقة للعراق في يوم الرابع والعشرين من شهر تشرين الاول عام 2001 ودفن في المقبرة الإسلامية التابعة للعاصمة، حيث تجمع أصدقاؤه ومحبوه من العراقيين والعرب والدانماركيين.

وكانت مراسيم دفنه تليق برجل خدم الفن العراقي قرابة الاربعين عامآ اضاف للاغنية العراقية مئات الاغاني الجميلة. كان الفضل الكبير على مسيرة الاغنية العراقية بتاريخها الحديث كما له الفضل الاكبر على مرحلة التجديد في عمق الذائقة الروحية للاغنية العراقية كونه يمتلك خصوصية في تكوين اللحن فاثبت ان الحانه لون جديد اضيف لمسار الاغنية العراقية الحديثة التي تاثر به الكثير من الملحنين العراقيين.