من تاريخ الحركة الوطنية في الخمسينيات..حادثة سجن الكوت سنة 1953

Sunday 29th of May 2022 10:31:10 PM ,
5193 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

د. قحطان حميد العنبكي

في أثر استقالة وزارة نور الدين محمود في23 كانون الثاني1953،وقبولها في التاسع والعشرين منه،عهد الوصي عبد الإله إلى جميل المدفعي بتأليف الوزارة، والتي شغل فيها حسام الدين جمعة منصب وزير الداخلية.وأعلنت هذه الوزارة في برنامجها أن هدفها في الداخل هو ((المحافظة على الأمن والقضاء على الفساد حتى يستتب الاستقرار وتطمئن النفوس في البلاد))

وأكدت أيضاً((تحكيم القانون وتوطيد أركان العدل في جميع الأمور))،وهذا يفسر لنا الإجراءات التي اتخذتها وزارة الداخلية ووزيرها حسام الدين جمعة الذي شرع في تنظيم المؤسسة الأمنية لوزارته، ولاسيّما وان الأحكام العرفية مازالت قائمةً في البلاد، واتخذت وزارة الداخلية الاستعدادات لإطلاق الحريات ولاسيّما حرية الصحافة(3)،التي تراجعت إلى الوراء في حكومة نور الدين محمود.

وخلال مدة عمل حسام الدين جمعة على رأس وزارة الداخلية،وقعت حوادث وإضرابات عديدة عمالية وطلابية واسعة،فقد اضرب عمال السكاير في بغداد في 16شباط مطالبين بإعادة العمال الذين فصلوا في أحداث انتفاضة تشرين الثاني1952.كما اضرب طلاب دار المعلمين الابتدائية في بغداد في 12اذار بعد فصل أحد الطلاب لأسباب انضباطية فاستغل الموضوع لطرح موضوعات سياسية تدعو إلى إلغاء الأحكام العرفية، والمطالبة بتنفيذ الحريات الديمقراطية،وإعادة الطلاب الذين فصلوا فــي أعقاب انتفاضة تشرين الثاني1952،وحدثت إضرابات تضامنية شملت معظم كليات ومعاهد بغداد وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط الحكومة((البوليسية الدكتاتورية)) ورفع الأحكام العرفية وتهيئــة الخبز والدعوة للسلام.وتصدت الشرطــة لتلك الأعمــال بالقوة وفرقت المتظاهرين.

كما واجهت وزارة الداخلية انتفاضةً فلاحيةً عارمةً في قرى أربيل في22 نيسان طالب فيها الفلاحون بتوزيع الأراضي عليهم مما جعل الشرطة توقف بعض الفلاحين والمحرضين على الانتفاضة التي استمرت عدة أشهر.

وفي الأول من حزيران أعلم وزير الداخلية رئيس الوزراء بضرورة الإسراع بإنهاء الأحكام العرفية،وأن تسرع المحكمة العسكرية بإنجاز القضايا المهمة التي سبق وان وضعت يدها عليها،لكن حدوث تظاهرات في سجن بغداد بتاريخ18 حزيران والاعتداء على رجال الشرطة في السجن قد أزّم الموقف ولاسيّما بعد مقتل شرطي وجرح آخرين، وذلك عندما سعت الحكومة لنقل السجناء من سجن بغداد إلى سجن بعقوبة الذي أُعد لهم خصيصاً لكون هؤلاء السجناء السياسيين،من حملة الأفكار الشيوعية، وسبق أن كانوا موقوفين في سجن نقرة السلمان،وقد أمرت الحكومة بنقلهم من سجن بغداد المركزي وذلك لإحداثهم أعمال الشغب والتمرد في داخل السجن((مخالفين نظام السجون بصورة مستمرة))على حد تعبير بيان الحكومة.

وقد بُلغوا بأمر النقل قبل موعده بيوم واحد.وفي يوم 18حزيران تمردوا ضد القائمين بتنفيذ أمر النقل،وقاموا بتظاهرات داخل السجن استعملوا فيها عبارات القذف ضد الحكومة،وإزاء تطور الموقف حضر كل من وكيل متصرف لواء بغداد داود سلمان ومدير السجون العام،وابلغوا المتظاهرين بلزوم الانصياع للأمر،ونصحوهم بتجنب إحداث الشغب،والتوقف عن التمرد،إلا أنهم قابلوا ذلك بالعنف،وقاموا برمي رجال الأمن بالحجارة، والقناني،والقضبان الحديدية..،مما أدى إلى جرح(73) شرطياً وسجاناً بضمنهم (16) معاوناً ومفوضاً.وقابلتهم الشرطة بالمثل لردعهم،فأطلقت عليهم العيارات النارية حدث بسببها إصابات أدت إلى وفاة(7)من السجناء،وجرح(23)منهم،وقد نقل السجناء الباقون، والبالغ عددهم(123) سجيناً،إلى سجن بعقوبة.

بعد هذه الحوادث الأليمة،لم يتوان وزير الداخلية من إجراء تحقيق سريع وعادل في ملابساتها،وأمر بتشكيل لجنتين تحقيقيتين،الأولى إدارية برئاسة يوسف ضياء المفتش الإداري بوزارة الداخلية،والثانية قضائية برئاسة حاكم التحقيق نصرة الأورفلي.

وقعت حادثة أخرى مُشابهة لما جرى في سجن بغداد،وتمثلت هذه المرة في سجن الكوت،عندما أضرب السجناء السياسيون عن الطعام وترديدهم شعارات معادية للحكومة، وذلك في الثالث من أيلول 1953،عندما عارض السجناء تسفير خمسة عشر سجيناً من اليهود الشيوعيين،ومانعوا في إخراجهم من بينهم،فأعلنوا عصيانهـم،وهاجموا قوات الشرطة والسجانين بالحجارة والآلات الجارحة المتوافرة لديهم،واستخدم الشرطة الأسلحة النارية وغيرها مما أوقع العديد من الإصابات بين قتلى وجرحى من السجناء.

ويروي محمد علي الصوري رأياً مناقضاً لادعاءات الحكومة إذ يقول ((قدم السجناء

السياسيون في سجن الكوت احتجاجهم.ولقد عملت إدارة السجن على نقل بعض هؤلاء السجناء إلى سجن نقرة السلمان وبدأت تستفز الباقين منهم وتضييق الخناق والحصار عليهم. وبدأ المشرفون على السجن يشدون على السجناء وأشاعوا في مدينة الكوت ان السجناء عصوا سجانيهم وخرجوا على أوامر السجن وأعلنوا العصيان وانهم تمردوا على الحكومة.. كل ذلك لأجل ان يهيئوا أذهان الناس ويعذروهم حين يقومون بهجوم مسلح على السجن.ولكن هذه الحيلة الزائفة كشفتها عوائل المسجونين أنفسهم عندما سمح لبعضهم بزيارة أقاربهم من المسجونين،فأفهموهم الحقيقة..))، وفي ((اليوم الثاني من شهر آب من السنة نفسها..كسرت شرطة السجن خزان المياه الخارجي. وامتنعت إدارة السجن عن تقديم الطعام المخصص لهم.واستمر الحصار شهراً ويومين عاش السجناء خلاله على تقتير شديد في الطعام الذي وصلهم من ذويهم قبل بدء الحصار. وبعد ستة أيام من الحصار أخذوا يصنعون الخبز من النخالة ودقيق العدس والحمص،ثم من قشور الباقلاء،وكان الماء المخزون قليلاً،على الرغم من الحر الشديد،لهذا قرر السجناء حفر بئر في السجن بالأدوات اليسيرة التي عندهم ولكن الشرطة منعتهم عن ذلك وهددتهـم بالقتل إذا قاموا به.. ولم يبالوا بتهديد الشرطة واستمروا على الحفر حتى وصلوا إلى عمق أربعة أمتار حيث بلغوا المـاء..، ولاشك بأن هذا كان نصراً رائعاً للسجناء على شرطة السجن وإدارتـه وجعلهم يقومون بهجوم شامل كاسح..)). ويبدو من ذلك أنَّ شرطة السجن وإدارته هي التي استفزت السجناء وضيقت عليهم في المآكل والمشرب باعتبارهم (مجرمين خطرين)وان البادئ هم شرطة السجن وان السجناء لم يقوموا بالإضراب والتهجم على الشرطة والحكومة إلا بعد المعاملة الخشنة القاسية والإهانات المتكررة لهم،فضلاً عن قسوة السجانين وبُعدهم عن التعامل الإنساني والأخلاقي،ولاسيّما محاصرة سجناء عزل ومنع الماء والأكل عنهم،مما يثير الكثير من الاستفهامات حول السجون في العراق وخرقها لأبسط حقوق الإنسان أبان العهد الملكي.

تعرضت وزارة الداخلية إلى الانتقاد من الأحزاب السياسية ولاسيّما حزب الاستقلال بسبب هذه الحوادث،وسوء تعامل الشرطة معها،لكن لا نجانب الحقيقية إذا قُلنا بان الشرطة كانت تنفذ واجباتها الموكلة إليها وحسب الضوابط والتعليمات التي تنظم عملها من الجهات العليا على الرغم من ان بعض نشاطات وربما تصرفات أفراد الشرطة وبقية مؤسسات وزارة الداخلية قد لا تلقى الرضا والترحيب من الأحزاب والصحف المعارضة، وهذا مؤشر جيد على وجود هامش من الحريات والديمقراطية في العراق الملكي حتى وان قست الحكومة وضيقت في الكثير من الأحيان على الأحزاب والصحافـة والرأي العام، إلا ان ذلك لا يمكن لأي باحث موضوعي ان يتجاهله أو يُغمض عينيه عنه.

ويبدو أنَّ هذه الحوادث قد زعزعت الثقة بوزارة جميل المدفعي السادسة،مما اضطره إلى تقديم استقالته في 17ايلول 1953 إلى الملك فيصل الثاني.

عن رسالة (وزارة الداخلية العراقية 1939 ــ 1958)