طالب مكي رحلة مضيئة بين النحت والرسم

Wednesday 15th of June 2022 11:59:30 PM ,
5206 (عراقيون)
عراقيون ,

اعداد: عراقيون

ولد الفنان طالب مكي السيد جاسم في قضاء الشطرة بالناصرية جنوب العراق عام 1936 في بيت علم كما يُقال. فوالده الذي كان يعمل مديرا للمدرسة الوحيدة في ذلك القضاء كان يقيم مجلسا أدبيا يجتمع فيه أدباء ومفكرو وكتاب وشعراء مدينة الناصرية التي وهبت العراق حشودا من الشعراء والمطربين والكتاب والرسامين.

طالب مكي فنان فطري أصيب بالصم والبكم منذ طفولته بسبب مرض ‘الخناق’ الذي منعه من الدخول إلى المدرسة، فهو لا يجيد القراءة ولا يعرف من الكتابة سوى ما يرسمه بالفحم وبالحجر على الجدران ظهرت موهبته في الرسم مبكرا وهو ما استرعى اهتمام الكثيرين، الأمر الذي يسّر له القبول عام 1952 في معهد الفنون الجميلة بإرادة ملكية، ذلك لأنه لا يملك من المؤهلات الدراسية ما يمكّنه أن يكون طالبا رسميا في ذلك المعهد. لم يكن في ذهن الفتى الصامت سوى أن يكون رساما. كان محظوظا حين ضمه الفنان الرائد فائق حسن وهو أحد كبار معلمي الرسم في التاريخ العراقي المعاصر إلى صف طلبته. غير أن صدفة لقائه بجواد سليم، الذي كان يدرس النحت في المعهد المذكور لعبت دورا عظيما في تغيير مسار حياته الفنية. النحت الذي عبر به نهر الصمت إلى ضفة الحكايات وكما يبدو فإن انجذاب مكي إلى شخصية سليم لعب دورا كبيرا في تحول اهتمام الفتى الجمالي من الرسم إلى النحت. من جهته كان جواد سليم قد عثر في شخصية طالبه على كل مقومات النحات الذي ينصت إلى أحلام يديه. من خلال جواد سليم تعرف مكي على جبرا إبراهيم جبرا الذي كان بمثابة عراب للحداثة الفنية. عام 1960 استدعى جبرا طالب مكي للعمل رساما في مجلة “العاملون في النفط” التي كانت تصدر عن شركة النفط البريطانية وقد كانت مجلة فنية أدبية.

عن طريق عمله في تلك المجلة وجد مكي أمامه الطريق مفتوحة للتعرف على الحياة الثقافية في العراق في أرقى صورها.

وكانت تجاربه في الرسم والنحت على حدّ سواء مثار اهتمام الفنانين ونقاد الفن في الوقت الذي كان الوسط الفني يشهد تجاذبا بين تيارين فنيين. الأول كان يدعو إلى البحث عن الأصول البصرية في التراث الفني المحلي، وكان معلمه جواد سليم يتزعمه من خلال جماعة بغداد للفن الحديث التي تأسست في بداية خمسينات القرن العشرين، فيما كان التيار الثاني يدعو إلى الانفتاح على التجارب العالمية المعاصرة في الفن، من غير الالتفات إلى الماضي المحلي. عام 1965 حسم طالب مكي أمره منضما إلى التيار الثاني من خلال انتمائه إلى جماعة المجددين التي ضمت إلى جانبه الفنانين سالم الدباغ وعامر العبيدي ونداء كاظم وصالح الجميعي وفايق حسين وسلمان عباس وإبراهيم زاير وعلي طالب.

ولكي يجد مصدرا للرزق فقد عمل مكي عام 1966 معلما للرسم في مدرسة الصم والبكم، إلى أن انتقل عام 1969 إلى العمل في مجلة “مجلتي”، وهو العمل الذي يعد نقلة كبيرة في حياته.

في تلك المجلة الرائدة في توجّهها إلى الأطفال كان طالب مكي كبير الرسامين. وهو عمل جعله على تماس مباشر مع تجارب نخبة من الرسامين الجدد الذين كانوا يسعون إلى إحداث انقلاب جديد في عالم الرسم.

التنقل براحة بين التشخيص والتجريد

إضافة إلى أنه منحه فرصة اللقاء اليومي بنخبة من أفضل الكتّاب والشعراء العراقيين الذين عملوا في تلك المجلة إيمانا منهم بالمستقبل الذي يمثله القارئ الطفل. لم يقم طالب مكي معرضا شخصيا لرسومه إلا في عام 1993 وكان بعنوان “أشخاص” أما معرضه الشخصي الثاني فقد أقامه عام 2015 وكان بعنوان “نخيل” وما بينهما أقيم له معرض استعادي عام 2006.

في بلد كالعراق فإن استمرار شخص له ظروف صحية خاصة مثل طالب مكي فنانا يُعدّ نوعا من المعجزة. أما أن يسعى ذلك الفنان إلى فرض أسلوبه الجمالي على المشهد الفني فإن ذلك يُعدّ فعلا خارقا لن يكتب له النجاح دائما. ومن المؤكد أن موهبة مكي كانت أكبر من ألاّ يُلتفت إليها وهو ما جعله يحظى بنوع من الرعاية لا من قبل المؤسسات الفنية بل من قبل الفنانين الذين دعّموا وجوده فنيا مثلما فعل من قبل جواد سليم وجبرا إبراهيم جبرا.

كان طالب مكي بما اتصف به من تهذيب وعزيمة وصدق فني محط تقدير من أجيال فنية متلاحقة وجدت فيه معلما فذا. الأمر الذي جعله ينتقل براحة بين التشخيص والتجريد كما لو أن كل واحدة من يديه تمتلك خيالها الخاص الذي يختلف عن خيال اليد الأخرى. كان مكي طوع يديه وهو يسعى إلى إنشاء عالم يذكر به. في معرضه “أشخاص” كان تشخيصيا أما في معرضه “نخيل” فقد كان تجريديا. في الحالين فإن تجربته في الرسم، وقبلها في النحت، إنما تعبر عن رغبته في اختراق كل ذلك الصمت الذي لم تخترقه الأصوات بخيالها.

وفاته

توفي في 10 حزيران 2022 عن عمر ناهز 86 سنة.