الفنان طالب مكي... لوحات تستوحي الأساطير لتخاطب الإنسان المعاصر

Thursday 16th of June 2022 12:00:34 AM ,
5206 (عراقيون)
عراقيون ,

ماجد السامرائي

اذا كانت الحياة الشخصية للفنان طالب مكي قد وضعته موضع الصمت، نطقاً وكلاماً، فإن موهبته الفنية المبكرة قد فتحت له من «آفاق اللغة» ما لا حدود له، وذلك من خلال العمل الفني، رسماً ونحتاً، حيث وجد «ضالته الكلامية» في الإفصاح عما بداخله في الممارسة الفنية التي حقق فيها ومن خلالها،

اشد أشكال التعبير وضوحاً عن حياته الداخلية، وأكثرها قرباً، واقتراباً، من الخارج (المحيط) الذي يتحرك فيه: متأملاً، ومستوعباً ما يرى، ومعيداً تشكيل ما يراه بحسب ما يشكل عنده من رؤيا بما يجد في هذه «الرؤيا» من قدرة على المواجهة الفعلية، والواقعية، وهي تفصح عن بعض من رموزها.

وان كانت تتخفى وراء هذه الرموز أحياناً، وربما جاءت، في كثير من تحققاتها، أوسع واعمق من تلك الرؤية، التي تصلنا، بدورها، بجوانب أخرى من الحقيقة التي لا نبلغها الا من طريق الفن. وطالب مكي فنان ينتمي، عمراً وفناً، الى جيل الستينات في الفن العراقي، هذا الجيل الذي أرسى دعائم رؤية جديدة في الفن، وانفردت أعمال معظم فنانيه - ومن بينهم طالب - بخصائص، فنية وموضوعية، جعلت لكل منهم شخصيته الفنية المميزة، وأعماله الدالة على هذه الشخصية. ويأتي المعرض الاستعادي لهذا الفنان (الذي أقيم على قاعة مدارات في بغداد - القاعة المفتوحة من بين قاعات كثيرة أغلقت أبوابها) ليمثل، بالأعمال التي عرضت فيه، المسارين الفني والتاريخي لهذا الفنان... فهي أعمال يعود بعضها الى ثلاثة عقود، واكثر، مضت من الفن ظل فيها عمله محافظاً على طابعه الشخصي، على رغم ان التطور الفني المتحقق فيها يرسم معالمه واضحة في أعماله الأخيرة.

تقدم أعمال هذا المعرض نفسها لمشاهدها في واحدة من حالتين: المتعة البصرية التي يحققها الشكل واللون... والتفكير الذي تبعث عليه أعمال أخرى لعلها الأعمال الأكثر إثارة للأسئلة، وهي أسئلة تتوجه الى العالم الذي يقرأه الفنان بصرياً: ما طبيعته الداخلية؟ وهو يقدمه، من الخارج، في أشكال ووجوه تجمع ما هو بشري في شكل من أشكال الحضور الإنساني، و الحيوانية في ما تعكس من ملامح تتمثل في الوجوه، من حيث قسماتها، وفي العيون، بما لها من استدارة، وهي تتطلع برعب وفزع، وكأنها تفصح عما يحيط بها من غموض يواجهنا به العالم (وهو ما قد يواجه الفنان...). و محمول المعنى هذا الذي تأتي به اللوحة (اكثر من العمل النحتي) يثير سؤالاً آخر عن الحقيقة التي تتفتح أمام الفنان، والتي كما يتبدى من عمله، اصبح يدركها جيداً، فهل هي الحقيقة كما هي قائمة، ام هي تشويش لرؤيتنا الايجابية للإنسان قصد التحول بنا الى ما ينقض هذه الرؤية؟. واذا كنا نحيل هذا النوع من الأعمال الى الفكر و ما هو فكري. فهل يعني هذا ان ما تتضمنه لوحته من قيم يقع خارج جمالية الشكل ام هي قيم تكشف عما للفكر من تعقيدات او ضغوط على العقل الإنساني والرؤية الإنسانية؟ وهل ان هذا الوجه المجسد لهذا كله - كما يراه - يخفي من الغموض وتعدد الإشارات ما يجعل بنية المعنى في اللوحة اكثر غنى، وفي الوقت نفسه اشد تعقيداً مما تعكسه الرؤية المباشرة لها؟ وربما يكون السؤال المهم الآخر هو ما اذا كان الفنان أراد في أعماله هذه ان يحرك فينا، كمشاهدين، حافزين للتلقي، وهما: العين في ما تستجمع من خيوط الرؤية... والعقل الذي يقوم بتفكيك الأشكال ومن ثم إعادة تركيبها وفاقاً لما يجد لها (او يرى فيها) من معان جوهرية؟. غير ان ما تنبغي الإشارة اليه هنا هو: ان انفعاله بالشكل واللون غير مستقل عما يكتنزان من معنى، ولقد جاءت تكوينات أشكاله اقرب الى التكوينات الأسطورية، لذلك فهي بقدر ما تحتفظ بمعانيها الخاصة (التي يضفيها عليها الرسام) فإنها تجعل المشاهد (المتلقي) لها في وضع المكتشف لتداعيات تلك المعاني، التي تكنزها تلك الأشكال، عليه. فهي ليست اشكالاً مجردة، وانما أشكال بمضامين و معان فضلاً عن كونه فناناً منشغلاً بالمعنى، دون ان يؤثر هذا الانشغال على الشكل المجسد لهذا المعنى.

واذ نقول انه فنان قريب من الأسطورة والفكر الأسطوري، في تكوين لوحته (ومنحوتاته ايضاً)، انما نعني ما لهذا البعد من معان (ومضمونات) يتخذها سبيلاً الى الإنسان وهو يعاينه في واقع مشكلاته الوجودية، فإذا كان العقل كما هو في نظر فيلسوف مثل كانت - مرآة سلبية تعيد العالم الينا كما هو منعكس فيها... فإن عقل فناننا ليس بعيداً من هذا التمثيل في ما يعيد الينا، كمشاهدين - متلقين، على سطح اللوحة، وبتكوين فني، من قوة فاعلة للعقل يجعلها (الفنان) عونه في ما يدرك، من اشكال و معان على حد سواء.

وهو اذ يشتق أشكاله مما نجد فيه تمثلاً لحال أسطورية انما يأتي ليجعل للوحته سماتها الخاصة في مستويين: الأول هو مستوى الأسطورة بما لها من خصائص حركية تنتقل الى الداخل مؤثرة في ذات الفنان. والثاني هو الانتقال بالأسطورة الى مجال الحقيقة، في ما يتصل بحالي التمثيل و المواجهة، وبالذات في ما نجده لها من قوة مؤثرة في الأشكال التي تتخذها الوجوه كما يتمثلها، وفي قسماتها التعبيرية... وهي تمثلات لها أهميتها بما يكون لها من اثر في اسلوب الفنان. فهو اذ يشتق هذه الوجوه مما يختزن، ذهناً ورؤيا، من تمثيلات أسطورية يجعل لها سماتها الخاصة بالفن والعمل الفني، دون تفريط بالصفة الديناميكية (الحركية) للاسطورة. يترافق هذا المنظور، والرؤية الداخلية، مع ما يتوافر عليه الفنان من مهارة فنية، ويأتي اللون في اللوحة ليكون عاملاً أساسياً في الكشف عن هذه المهارة وفي تأكيدها، وخصوصاً في ما يكون له من حضور تعبيري يغني عمله الفني.