هولدرلين.. الغريب في عصره

Tuesday 21st of June 2022 11:55:07 PM ,
5210 (منارات)
منارات ,

هاشم صالح

متى اكتشف الفرنسيون هولدرلين؟، سؤال مطروح بشكل سيئ، كان ينبغي أن نتساءل أولا: متى اكتشف الألمان هولدرلين؟، ففي أرضه وموطنه ظل هولدرلين مجهولا حتى بدايات القرن العشرين، أي بعد قرن على كتابته لقصائده الأساسية.

فعندما اكتشف الشعراء الألمان ستيفان جورج، وريلكه، وتراكل، أعماله، جنّ جنونهم! وتساءلوا: كيف يمكن لشاعر ضخم في مثل هذا الحجم والمستوى أن يجهله معاصروه؟ كيف يمكن أن يبقى منسيا وهو الشاعر الأهم الذي أنتجته اللغة الألمانية في تاريخها كله؟، عندئذ أصبح مرجعيتهم الشعرية، وراحوا يتحدثون عنه في كل مناسبة ويستلهمونه ويذيعون اسمه في الأمصار. وعندئذ سمع به جيرانهم الفرنسيون، فراحوا يبحثون عنه أيضا ويترجمون أشعاره. والواقع أنهم وجدوا بعض أوجه الشبه بينه وبين شاعرهم رامبو. فكلاهما لم يحظ بالشهرة في حياته، وكلاهما لم يُفهم من قِبل معاصريه.

لم ينتظر رامبو قرنا كاملا لكي يعترف به الفرنسيون، ولكي يبحثوا عن مخطوطات قصائده في كل مكان وينشروها. رامبو انتظر فقط ثلاثين سنة لكي يصبح الشاعر الأساسي في فرنسا. لكن التشابه الأساسي بينه وبين هولدرلين، هو أن كلا منهما يجسد جوهر الشعر وراديكاليته الحيوية في قصائده، كلاهما يجسد البراءة المطلقة للشعر إذا جاز التعبير. إذا كان هناك شاعر لا يغشّ في شعره، فهو هولدرلين أو رامبو (وكذلك بودلير بالطبع وبعض القلة من الآخرين). وقد عاش هولدرلين الشعر كتساؤل مفتوح وكملاذ يلجأ إليه إذا ادلهمَّت الدنيا في وجهه. وقد ادلهمّت كثيراً حتى فقد وعيه وعقله في نهاية المطاف.. كان أول شاعر فرنسي اهتم بهولدرلين هو: بيير جان جوف (1887 ـ 1976). ففي عام 1930، نشر كتابا بعنوان: «قصائد الجنون لهولدرلين»، وكانت جرأة ما بعدها جرأة، أن يهتم شاعر كـ«جوف» بقصائد محتقرة من قِبل النقاد الألمان أنفسهم، لأنها موصومة بلعنة الجنون.. لكنها قصائد من أجمل ما تكون، وتستحق أكثر من الاهتمام. لنستمع إلى هذه القصيدة التي يُقال بأنها آخر ما كتبه هولدرلين قبل أن يفقد عقله نهائيا:

ما الباحثة جنفييف بيانكي، فقد كانت استاذة في جامعة ديجون ومشهورة بدراساتها وترجماتها عن الأدب الألماني. وقد نشرت عام 1943، ترجمة كاملة لأشعار هولدرلين وقالت في مقدمتها: هولدرلين، أو الشاعر. لم يجسد أحد جوهر الشعر، وبراءته، وفجيعته، مثلما جسدها هولدرلين. ولد في عائلة شريفة ومتواضعة. وعاش طفولة متقشفة وصارمة في ظل الأديرة والكنائس لمنطقة «السواب» الألمانية. فقد أباه صغيراً، ودخل إلى المدارس الدينية لكي يرضي أمه وجدته اللتين كانتا تحلمان له بمستقبل رجل دين في الأرياف.. أما هو فكان يحلم بمستقبل آخر مختلف تماما. كان يريد أن يصبح شاعراً، وشاعراً فقط. وفي جامعة توبنجن، راح يكتشف الشعر الإغريقي، والفن الإغريقي، والأسطورة الإغريقية. ولا يمكن فهم الكثير من نصوصه إلا إذا اطلعنا على كل ذلك. وهناك تعرف على شباب من جيله، وبعضهم سوف يصبحون في ما بعد أهم فلاسفة ألمانيا: هيغل وشيلنغ. هؤلاء رفاقه على مقاعد الدرس، هو سوف يصل إلى قمة الشعر، وهم سيصلون إلى قمة الفكر. وفي الجامعة اكتشف أيضا لأول مرة الفكر التحريري والتنويري: أي فكر لايبنتز، وكانط، وجان جاك روسو. فكيف يمكنه بعد كل ذلك أن يصبح كاهنا؟. وعلى الرغم من أنه كان يصعب عليه تخييب أمل أمه فيه، إلا أنه قرر الهرب من هذه المهنة التي ترعبه. يضاف إلى ذلك أنه كان يكره الاستقرار أو الثبات في مكان واحد. وكالشعراء الذين يشبهون الفراشات الجميلة، كان يحب أن يتنقل من مكان إلى آخر. كان يحب الرحيل والتغيير خوفاً من الضجر.. وهكذا راح يعيش كمدرس فقير لأبناء العائلات الغنية أو الأرستقراطية.. وراح يتنقل بين مدن ألمانيا، وسويسرا، وفرنسا، على هوى الظروف والمناسبات. لم تبق مدينة إلا ومرّ بها هولدرلين، وتعرف على نهرها وشوارعها، على وديانها وجبالها..

ثم تقول جنفييف بيانكي: إن شعر هولدرلين مرتبط بالطبيعة بشكل عام، أيا كانت وحيثما كانت، وليس فقط بطبيعة قريته ومسقط رأسه، وإن كان قد ابتدأ بالطبع بالتغني بطبيعة بلاده التي كانت ساحرة. فقصائده تتحدث عن الفصول والسنين، عن مواسم الحصاد والقطاف، عن النمو والانحطاط، عن الحياة والموت، عن الفرح والألم، عن الأزهار والأشجار.. إلخ، وكان ينصهر بالطبيعة أو يذوب فيها ذوبانا ويعتبر مظاهرها بمثابة العناصر المقدسة أو الإشارات الإلهية، ربما لم يتغنّ شاعر بالطبيعة مثلما تغنّى هولدرلين. فالطبيعة عنده لها روح وحياة مثلنا نحن تماما. وعلى أي قصيدة فتحنا ديوانه نجد الطبيعة حاضرة بشكل ما. لنستمع إلى هذا المقطع من قصيدة بعنوان «تماما، كما في يوم الراحة.. »:

تماماً، كما في يوم الراحة، الفلاح

يخرج مع الفجر لكي يتفقد حقله

بعد الليلة المشتعلة بأنوار البرق، رسول النداوة والطراوة،

البرق الذي سقط دون توقف طيلة الليل. ولا يزال في البعيد يزمجر صوت الرعد،

والنهر يعود إلى شواطئه،

والأرض الندية تخضوضر،

وتحت المطر الكريم للسماء،

الكرمة تختلج مشبعة بالماء، وأشجار الروضة

تلمع تحت شمس هادئة.

هذا الفرح البدائي بالطبيعة يتجلى لنا في معظم قصائد هولدرلين. وهو فرح ليس مرتبطاً بمنظر معين، أو فصل ما، أو ذكرى محددة تماما. إنما هو الفرح بالهواء، والسماء، والأضواء، والماء، أينما كانت. إنه فرح بالطبيعة الأم، الطبيعة البكر، الطبيعة الخالدة ودورة الفصول. لكن هناك عنصر واحد من عناصر الطبيعة يفضله هولدرلين على غيره هو: الأثير. وهل هناك أخفّ من الأثير؟. إنه مادي وغير مادي في آن معا، وهو أكثر صفاء وشفافية من جميع عناصر الطبيعة الأخرى. كما أنه يرمز إلى أعلى وأسمى ما يقدره هولدرلين: الروح. إن الأثير هو الطبقة التي تعلو على الأرض، أو تغلّف الأرض. إنه زرقة السماء حيث تزهر النجوم!.. إنه أشعة النور التي تحنو، بابتسامة، على الأحياء لكي تباركهم أو تقبلهم. وفي قصائده تغنّى به هولدرلين بصفته أساس الحياة، وموضوع الحنين لجميع الكائنات.

أما الشاعر فيليب جاكوتيه، فقد قدّم الأعمال الكاملة لهولدرلين باللغة الفرنسية. وقد ركز أيضا على انبهاره بالطبيعة ومدى هيمنة هذا الموضوع على شعره. وكان مما قاله: نعلم أن بعض قصائد النضج الكبرى كانت قد كُرّست للأنهار مثل الراين، والدانوب، وسواهما. وما انفك يتغنّى بالأنهار التي شاهدها ـ أو لنقل عاشرها ـ حتى نهاية حياته. وقد كتب مرة رسالة إلى أمه يتحدث فيها عن نزهة في الطبيعة قام بها مع بعض زملائه، أو وحده لم نعد ندري. وفجأة، عندما ظهر له نهر الراين العظيم في إحدى المناطق الألمانية، أُصيب بالذهول. يقول لها بما معناه: «عندما رأيت المشهد أحسست وكأني أُبعث من جديد. فأبعاد مشاعري أو أحاسيسي تزايدت وكبرت، وقلبي راح ينبض بقوة أكثر، وروحي راحت تنطلق وتتسع على مدّ النظر.. إنه الراين! شعلة الحياة في ألمانيا.. وعيناي بقيتا مذهولتين. ولم أعد أعرف ماذا أرى، وتجمّدت في مكاني كتمثال من حجر!.. ». وهكذا تحولت رسالته إلى قصيدة لمجرد أن تطرق لذكر النهر.. ما الذي أذهله؟ النهر، وليس فكرة النهر الميتافيزيقية. النهر الحقيقي في حركة وأضواء مياهه. النهر في انسيابه وغزارته وعظمته. وأمامه راح يشعر بالحاجة إلى الصلاة في حضن الطبيعة. لقد خشع أمام النهر كإحدى تجليات القدرة الإلهية.. ولذا فإن الطبيعة بأزهارها وعصافيرها، بأنهارها ومياهها ترفع صلاة للخالق جلت قدرته. لنستمع إليه يتحدث عن نهر الراين وكأنه إنسان حي، أو شخص يتكلم، وله تاريخ!

أما الباحثة فرانسواز دستور أستاذة الفلسفة في جامعة السوربون، فتقول بما معناه: طيلة حياته كلها ظل هولدرلين يحتفل بالطبيعة في شعره. فمنذ البدايات الاولى راح يكتب قصيدته الجميلة: نشيد مرفوع إلى الطبيعة. في تلك الفترة كانت العاطفة قد أصبحت الكلمة المفتاحية لكل شعر غنائي. ويبدو أن عواطف هولدرلين لم تكن تتجلى إلا من خلال علاقته بشيء آخر يتجاوزه ويعلو عليه، شيء يكرّمه ويمجده. وهذا الشيء هو الطبيعة. في الواقع ان هولدرلين ولد في أحضان الطبيعة إذا جاز التعبير. فمنطقته، أو مسقط رأسه بالأحرى، كان جميلا محاطا بالغابات وحقول الكرمة ويخترقه نهر كبير هو نهر «نيكار». وكان حساسا جدا لمناظر الطبيعة حتى ليكاد يرى فيها انعكاسا لعواطفه الذاتية. فهو يقول مثلا بأنه يرى في الطبيعة “مكانا لدموعه، وعالما لحبه”. ثم يردف قائلا: “هناك حيث كان قلبي لا يزال يستدير نحو الشمس، كما لو أنها فهمت لغته”. لم تكن الطبيعة أبدا ميتة أو حيادية بالنسبة لهولدرلين.

على العكس، كانت حية تناجيه وتكلمه، تضحك وتبكي، أو تغضب وتثور، طبقا لدورة الفصول، أو طبقا لحالته النفسية الداخلية. لم يكن هولدرلين قادرا على تصوير عواطفه إلا عن طريق ربطها بالطبيعة. يحصل ذلك كما لو انه كان يعيش تحت هيمنة الطبيعة، أو كما لو أن القوى الطبيعية هي وحدها القادرة على إيقاظ روحه أو إلهاب مشاعره. هنا تتبدى ابتكارية هولدرلين بالقياس إلى الشاعرين الكبيرين اللذين سبقاه مباشرة وكانا بمثابة الأستاذين له: غوته وشيلر. من المعلوم أنهما استهزآ بترجماته لسوفوكل اليوناني بل واحتقرا قصائده عندما كان لا يزال في مطلع شبابه وبداية حياته الأدبية. فشيلر رأى في قصائده طغيانا للنزعة الذاتية او العاطفية، هذا بالإضافة إلى نوع من الروح الفلسفية أو العمق الفلسفي. وفي رأيه أن الشعر ينبغي أن يبتعد عن الفلسفة. وأما غوته فرأى أن تصوره عن الطبيعة ناتج عن التاريخ الطبيعي أكثر مما هو ناتج عن الشعر، وبالتالي فهو تقليدي في نهاية المطاف. وهكذا فشل شاعران كبيران في معرفة قيمة هذا الشاعر الناشئ هولدرلين. والواقع أن علاقة غوته بالطبيعة تختلف كليا عن علاقة هولدرلين. ومن هنا سوء التفاهم. فغوته لم يولد في أحضان الطبيعة البكر كما حصل لهولدرلين، وإنما ولد في عائلة بورجوازية كبيرة وفي المدينة الضخمة مدينة فرانكفورت. وبالتالي فقد كان يبحث عن الطبيعة في الحدائق العامة للمدن الكبرى!. إنها الطبيعة المدجنة والمنسقة بشكل هندسي رائع. ولكنها طبيعة مقلمة الأظافر إذا جاز التعبير. وأما هولدرلين، فكان يكتشف قوى الطبيعة حوله عندما يستيقظ صباحا ما ان يخطو بضع خطوات خارج بيته الريفي. وقد استبطن الطبيعة في داخله حتى لكأنها جزء لا يتجزأ منه. كان يصغي إلى صوت الطبيعة وكأنه يتحدث إليه شخصيا. لكن لنستمع إلى صوته الذي لا يضاهى من حيث الصفاء، من حيث البراءة والنقاء:

عندما سأصبح بعيدا، مكاني

سوف تتحدث أزهار السماء، الكواكب المضيئة،

وتلك التي، بالآلاف تبزغ من الأرض،

حاضرة في ألوهيتها الطبيعة

ليست بحاجة إلى نطق، وابدا

لن تتركك وحيدا بعد اليوم بعد أن أحبتك،

ذلك أن اللحظة التي تبقى منها

لا تمحى..

هكذا نجد أن الطابع الحي للزهرة ونطقها هو أساس ظهورها في شعر هولدرلين. وهذا مضاد كليا للزهرة الاصطناعية الخالية من الحياة، والباردة، برود الناس الاصطناعيين.

من قصائده:

المنظر

* عندما في البعيد البعيد تذهب الحياة العائشة للبشر، هناك حيث تلمع في البعيد البعيد أزمنة القطاف، حاضرةً أيضاً الحقول الفارغة للصيف وتبدو، في صورتها القاتمة، الغابة. لتضف الطبيعة إلى صورة الأزمنة، لتبقَ إذن ولتنزلق الأزمنة بقوة، آتية من الكمال، والأعالي أعالي السماء تشرق للإنسان في الوقت الذي تُتوّج فيه الشجرة بالأزهار.

الراين

كل ما يولد من نبع صاف هو سر وحتى الشعر لا يكاد يجرؤ على كشفه ذلك انك كما تولد، تظل، مهما تكن الظروف والتربية قوية، فلا شيء أقوى من الولادة، وأول شعاع في النهار من حظ الوليد ـ الطفل،

ولكن من هو أفضل من الراين، لكي يولد حرا، لكي يظل حرا، حياته كلها، ولكي يحقق وحده رغبة قلبه؟

من أفضل منه، ذلك الراين الذي تحدر من قمم الجبال، من الحضن المقدس، الخ.. ثم لنستمع أيضا إلى هذا المقطع من نفس القصيدة:

أبداً، أبداً لن ينسى الراين طفولته، ذلك انه يمكن لبيوت البشر أن تهدَّم، وقوانينهم ووجودهم أن يتغير، قبل أن ينسى نهر كهذا أصله والصوت البريء لشبابه..

عن الشرق الاوسط