هل تتحدى أعمال بريشت الزمن

Wednesday 29th of June 2022 12:37:56 AM ,
5215 (منارات)
منارات ,

ماري الياس

في عام 1978، كتب الباحث الفرنسي برنار دورت Bernard Dortالمختص بمسرح بريشت والذي حاول دائما قراءة وإعادة قراءة مفاهيم بريشت، دراسة بعنوان “بريشت الثنائي”، جاءت ضمن ملف كبير عن مسرح بريشت، طرح فيه أسئلة جوهرية حول مستقبل نصوص بريشت المسرحية وفعالية نظريته في المسرح.

وفكرة الثنائية هنا مهمة لأنها توحي بوجود بريشتين؛ بريشت الذي كان؛ وبريشت كما كان يمكن أن يصير لو أنه عاش عشرين عاماً إضافية، من جهة، وتوحي بالفارق أيضاً بين بريشت الكاتب والدرماتورج، وبريشت المنظر المسرحي، من جهة أخرى، والوجوه لا تتطابق بالضرورة تطابقاً كاملاً. ويتساءل دورت في هذه الدراسة: هل كان بريشت سيتحول إلى مؤسسة عظيمة مغلقة على نفسها كما تحول فن المسرح في الاتحاد السوفيتي أو أنه كان سيحول نفسه و”البرلينر أنسامبل” معه إلى مختبر مسرحي ناشط متطور؟ (...) والجواب على هذا السؤال -الذي طرح وقتئذ - مرهون بسؤال آخر هو: هل تتحدى أعمال بريشت الزمن وتبقى حية بعد نصف قرن من وفاته؟ هذه الأعمال التي كتبت بناء على ظرف معين وارتباط به، هل تحمل في جوهرها بعداً يجعلها صالحة في ظرف آخر وزمن آخر. إن الزمن كفيل بالرد على هذا السؤال، لكن السؤال الأخر الأكثر صعوبة والذي لا بد للمسرحيين من التعامل معه بجدية هو هل يقتصر إرث بريشت على مجموعة من المسرحيات؟ مما لا شك فيه أن إرث بريشت لا يمكن أن يختزل بمجموعة من المسرحيات أو الأعمال الشعرية أو الكتابات النظرية. كلا إن إرث بريشت هو قبل كل شيء أسلوب في التعامل مع المسرح، إنه التجريب بكل جوانبه. (...) وأنه أيضا في نهاية حياته كان يفكر بتسمية مسرحه بالديالكتيكي وكان قد بدأ بإعداد مسرحية “بانتظار غودو” لصموئيل بيكيت. ..

في عددها الخاص عن بريشت الذي صدر عام 2000 تطرح مجلة “أوروب» EUROPE عدداً هو الثاني من نوعه بعد صدور عدد أول من نفس المجلة مخصص لبريشت عام 1957، وإيضاحاً لمبرراتها في إصدار عدد جديد بمضمونه عن مبدع سبق أن قدمته المجلة في الماضي، وهذه سابقة، تطرح الأسباب التي دفعتها لإصدار عدد جديد بدراسات مختلفة بدلاً من إعادة طباعة العدد الأول. وفي مقدمة العدد الجديد التي حملت عنوان “بريشت اليوم” تذكر المجلة بأسباب صدور العدد الأول ومحتوياته، معتبرة أنه جاء كضرورة في حينه للترحيب والتعريف ببريشت أثر الجولة الأولى للبرلينر أنسامبل في أوروبا 1954، وبداية ترجمة أعمال بريشت للفرنسية 1955، والانبهار الذي حصل أمام هذا الجديد، وتعتبر المجلة أن صورة بريشت آنذاك في أوروبا كانت صورة إنسان متأمل للواقع رافض لليأس، يحضر للمستقبل ويرى في المسرح وسيلة للتغيير، وتقول أن بريشت اعتبر آنذاك أهم منظر وممارس للديالكتيكية في المسرح، ثم تستطرد قائلة: “بعد أربعين عاما من العدد الأول يأتي العدد الثاني كضرورة”، حسب قول مقدميه، ضرورة لإعادة تقييم وقراءة على ضوء المتغيرات، إعادة تقييم لفعالية عمل بريشت المسرحي، إعادة تقييم لعلاقته بالماركسية وارتباط مسرحه بها، في وقت عرف العالم (والاشتراكي منه) تحولات كبيرة.

إذا كان هذا العدد الجديد قد ظهر لتصحيح صورة بريشت فإننا نكتشف بعد قراءة الدراسات أنه شوشها أكثر، وكأن المثقف في الغرب يعاود تقييم ذاته، فمحاكمة بريشت تأتي على شكل محاكمة عامة لكل طموحات الثقافة والفن ودورهما في المجتمع وكل يوتوبيا الحداثة (...) قيل وقتها أن مسرح بريشت أصبح أثريا متحفياً، وقيل أن بريشت بحد ذاته هو خدعة كبيرة. لكن هذا الموقف لم يدم طويلا فبعد عشر سنوات تماما بدأ جيل المسرحيين الجدد يتعامل بروح جديدة مع عالم بريشت ككل وكذلك مع أعماله، وكأن حركة جديدة نشأت لإعادة اكتشاف بريشت. وقد طرح هذا الجيل من المسرحيين فكرة البحث في بريشت الإنساني أكثر من بريشت السياسي أو على الأقل رؤيته السياسة الإنسانية، ونستدل على هذا التوجه من خلال ما قدم في ألمانيا وأوروبا بشكل عام في الذكرى المئوية لولادته، عام 1998، عندما أعيد تقديم العديد من مسرحياته وأُقيم العديد من الندوات، وبدا كأن بريشت يطرح كرمز لألمانيا الموحدة، وكأنه تراث ثقافي يجب المحافظة عليه.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن بعد هذا التقديم هو ؛ هل هذه الأسئلة تعنينا نحن في العالم العربي؟ وهل هي مطروحة علينا بنفس الحدة؟ ما هي علاقتنا بعالم بريشت؟ وهل مازلنا نؤمن بالإمكانيات التي تتيحها لنا معرفته؟ أقول هذا لأننا عندما نترجم أو نقدم كتابا، أساسه مجموعة من المقالات والترجمات لدراسات مختارة عن بريشت ومسرحه فإننا نكون قد حددنا موقفاً منه. وهذا الموقف يخُتصر بالرغبة في مزيد من التعريف به وبالمواقف منه وبشكل أعمق. (...) في النهاية لا بد من التأكيد على أن مسرح بريشت هو مسرح النقد، وما التغريب الذي طرحه إلا وسيلة لتقديم هذا النقد ضمن أفعال.

كيف نفهم اليوم مقولة بريشت “لكي نقدم شيئاً مختلفاً، يجب أن نقدمه بشكل مختلف”، كيف نقرأ اليوم، على ضوء حاضر الكتابة والعرض المسرحيين هذا الاختلاف؟ على الرغم من أن بريشت رفض المسرح الدرامي ورفض مبدأه القائم على التمثل والإيهام ومحاكاة الواقع بشكل مباشر واقترح كسر الإيهام في مرحلة ما من مراحل العرض من خلال الإعلان عن المسرحة أو من خلال التغريب وذلك لكي يخلق علاقة مختلفة بين الواقع والمسرح أي بين المتفرج وواقعه، إلا أنه لم يفجر المسرح من الداخل كما هو حاصل اليوم.

والحقيقة أن منهج بريشت كان يقصد تفتيت الواقع وتفكيكه للبحث في آلية تشكله وطرح على المتفرج هذه الآلية وهي بحالة التشكل لذلك فإن الحكاية لديه، وهي سيرورة أو مسار وليست تشابك مصائر وأحداث، بقيت موجودة وبقيت أساس المسرح..

ثم انه من خلال عرض أجزاء هذا الواقع على الخشبة ممثلة بشخصيات ومكان وأغراض، كان لا يزال يحاول طرح رؤية شمولية عامة تجمع بين الخاص والعام. ولهذا فهو لم يحاول رسم الواقع البيئي ككتلة متجانسة وواقعية , وإنما فتح الباب أمام عمل المتفرج لربط ما يراه ليس بواقع محدد، بل بحقيقة ما عاشها هذا المتلقي أو عرفها من خلال مخزونه الثقافي. وهذا يجعل النص المسرحي البريشتي صالحاً لأكثر من مناسبة. مثلاً إن بريشت في نصه “الأم كوراج” يتكلم عن حرب محددة هي حرب الثلاثين عاماً الدينية التي دمرت أوروبا ولكن هذه ليست سوى مناسبة أو حجة للكلام عن الموضوع الأساسي لديه وهو رفض الحرب كفكرة، وعن تشابه الحروب في النتيجة. وإذا كانت بالنسبة له حرب الثلاثين عاماً مناسبة لنقد الحرب العالمية الثانية والبحث في وضع الإنسان وموقفه من الحرب، فإنه بالحقيقة يتعامل مع هذه الحالة كحالة تصلح لأن تصور أي حرب مهما كانت، لأنها أصلاً في نص بريشت غائبة عن الخشبة وموجودة فقط كزمن طاحن تتغير فيه المقاييس والقيم من خلال أثرها على الإنسان والشيء والمكان.

خاص بأوكسجين