نوري السعيد.. تأريخه الشامل ودوره السياسي الريادي في العراق لنصف قرن

Sunday 31st of July 2022 11:17:04 PM ,
5233 (ذاكرة عراقية) (نسخة الكترونية)
ذاكرة عراقية ,

معاذ محمد رمضان

مؤلّف الكتاب هو الأستاذ يعرب عبد العباس شاكر الشمّري، وهو آخر كتاب صادر بالعربية ـ بحسب تَتَبّعي ـ عن الباشا نوري السعيد. وبإعتباري مهتمٌ بتاريخ العراق المعاصر عموماً، وبالباشا خصوصاً، أقبلتُ على الكتاب بلهفة شديدة.

ما إن يفتح القارىء الورقة الأولى من الكتاب، الورقة التي تسبق الإهداء والشُكر والتقدير فضلاً عن المقدمة، حتى يتبيّن إتجاه الكاتب بجلاء! فقد صَدّرَ الشمّري كتابه بقصيدة ـ مجهولة المصدر! ـ عن الباشا مطلعها:

نوري فقدنا فيك حكمة قائدٍ كُنتَ الجدير بأمرنا والمصدرا

الكتابُ كبير بحجمه، فقد تجاوز الجزء الأول 400 صفحة، أما الجزء الثاني فقد تجاوز 300، وعليه فنحن أمام عملٍ شاملٍ عن الباشا نوري السعيد.

مصادر الكاتب متنوعة (إستعنتُ بكتابي هذا على مصادر شتى من كتب ومجلات ورسائل غير منشورة منها لمؤلفين عرب ومنها لمؤلفين أجانب، منها لمن يحبه فمجّده، ومنها لمن يكرهه فسبه ولعنه) وعليه فسينتظر القارىء ـ بموجب هذه الإشارة ـ معالجة تاريخية تتسم بالموضوعية.

من مصادر الكاتب المهمة إتصاله هاتفياً بالآنسة “زينة فلاح صباح نوري السعيد” (5) التي قدّمت له معلوماتٍ مهمة وصوراً تُنشَرُ لأول مرة كما أشار الكاتب في مواضع متفرقة.

لكن إشارة الكاتب للمصادر المتنوعة التي إعتمدها، لا تعني بأنه كان مُوَفّقَاً في هذا المجال، أبداً. فقد فاتته الكثير من المصادر والمراجع المهمة جداً، إذ لا يمكن الكتابة عن الباشا بصورة موضوعية بعيداً عنها، فكتابه خالٍ من:

1ـ كتاب المؤرخ الكبير حَنّا بطاطو “العراق” بأجزائه الثلاث! هذا الكتاب الذي لم تَخلُ أي دراسة جادة تناولت تاريخ العراق المعاصر منه. (وتتضح أهمية الكتاب من كونه أصبح مرجعاً أكاديمياً لا يمكن الإستغناء عنه في أي دراسة جادّةٍ عن العراق في القرن العشرين، وأن الكتب الأكاديمية التي تم تأليفها لاحقاً ما كانت لتتم لولا كتاب بطاطو، حتى أن مستشرقاً ألمانياً أسماه “إنجيل العراق”) وهذا ما فَوّتَ على الكاتب الكثير من الحقائق.

2ـ كتاب الدكتور عبد الرزاق النصيري “نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية حتى عام 1932” وهو في الأصل رسالة جامعية تحت إشراف الدكتور كمال مظهر أحمد.

3ـ كتاب الدكتورة ليلى ياسين حسين الأمير “نوري السعيد ودوره في حلف بغداد وأثره في العلاقات العراقية ـ العربية حتى عام 1958” فقد خَصّصَ الكاتب مساحة كبيرة من كتابه ل”حلف بغداد” ثم يتجاهل هذا الكتاب المهم! وهو أيضاً رسالة جامعية تمت تحت إشراف الدكتور فاروق صالح العمر.

4ـ كتاب الباشا نوري السعيد! نعم كتاب للباشا “مذكرات نوري السعيد عن الحركات العسكرية للجيش العربي في الحجاز وسوريا 1916 ـ 1918».

5ـ كتاب الدكتورة رجاء حسين حسني الخطاب “تأسيس الجيش العراقي وتطور دوره السياسي من 1921 ـ 1941”. فقد خَصّص الكاتب مساحةً من كتابه للجيش العراقي ثم يتجاهل هذا الكتاب المهم!

هذه نماذجٌ من الكتب المهمة التي لم تجد لها حضوراً في كتاب الأستاذ الشمّري، وطبعاً فهذا لا يعني الحصر، أبداً، إذ توجد كتب أخرى بكل تأكيد. هذه هي المشكلة الأولى للكتاب، أما المشكلة الثانية فليست هَيّنة.

«مشكلة التوثيق” وجدت لها حضوراً مُكَثّفَاً في الكتاب، إذ يورد الكاتب معلوماتٍ بعيداً عن التوثيق! أو ينقل بالوساطة، ولا بأس بهذا النقل إن كان المصدر مفقوداً. لكن إن كان متوفراً فهي طامة كبرى! أما إختلاط الكلام، فَحَدّث ولا حَرَج! إذ يختلط على القارىء الأمر فلا يعرف الكلام لمن! للشمري أم لغيره؟ وهذا راجع للسرد الطويل المُتَبَع بعيداً عن التنصيص وحصر النصوص المنقولة عن الغير. وهذه نماذج وقع عليها الإختيار:

1ـ ينقل عن عبد الوهاب بك النعيمي في مراسلات الجيش العراقي بأن نوري السعيد قد تم إختياره لعضوية المجلس التأسيسي للعراق عام 1920 من قِبَل بريطانيا، وأن السفير بيترسون قد إعتقد بأن نوري السعيد قد ظل لغزاً كبيراً خصوصاً بعد عام 1927 وتحديداً بعد إنتحار عبد المحسن السعدون لكن أين التوثيق؟

2ـ ينقل ما ذكره العلاّمة هَبَة الدين الشهرستاني عن الباشا ولكن بلا توثيق.

3ـ أما قصة الكاتب مع السفير الأمريكي فالديمار غالمان، فَحَدّث ولا حَرَج! إذ ينقل عنه كثيراً ولكن بلا توثيق! أو بالوساطة! ومن حقنا أن نتساءل: لماذا لم يعتمد الباحث على مذكرات غالمان والمتوفرة بطبعاتٍ وترجمات عديدة؟ أما عن العقيد صلاح الدين الصباغ، فينقل عنه بالوساطة في أغلب المواضع، لكنه في مواضع أخرى ينقل عنه مباشرة! فإن كانت مذكرات الصباغ متوفرة عند الكاتب فلما النقل بالوساطة؟!

4ـ ينقل الكاتب ما ذكره هارولد بيلي “القائم بأعمال السفارة البريطانية في بغداد والسفير في القاهرة” بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الباشا ولكن بلا توثيق مع إختلاط واضحٍ في الكلام، فلا تعرف الكلام لبيلي أم للشمري!

5ـ ينقل في فقرة “إنسانيته” قصصاً عديدة ولكن بلا توثيق.

وقفاتٌ نقدية أخرى:

أولاً: وجدت “النزعة العاطفية” مساحة لها في كتاب الأستاذ الشمّري، نموذجٌ حيٌ سنقدّمه الآن:

(إن إبنه البار نوري كان يُسميه “العُراق” بضم العين لا بكسرها لأنه وكما كان يقول لا يريد أن يكسر عين العراق. هكذا كان الباشا يأبى كسر عين العراق ولو حتى لفظاً فهو قد نذر حياته ليرفع رأس العراق عالياً ونجح بذلك قدر إستطاعته بعكس من جاؤوا بعده ممن كسروا عين العراق وأعين أبنائه ومَرّغوا رؤوسهم في تراب الحروب والإحتلال والمقابر الجماعية والهزائم العسكرية).

ولا حاجة لنا الى التأكيد على أن هذه النزعة لن تجد لها حضوراً في الأبحاث التأريخية الرصينة، وإن وُجِدَت فستكون نتيجة للبحث الموضوعي الصارم.

ويقف الكاتب “مُحتاراً مُتسائلاً»:

(كيف إستطاعت الدعاية الشيوعية والناصرية والجمهوريين بالعراق طيلة عقود غسل أدمغة مئات الألوف من العراقيين وتشويه صورة أحد أبرز مؤسسي دولتهم الحديثة وبُناة نهضة بلدهم “نوري باشا السعيد” وإظهاره على أنه رجل شرير يكره بلاده وشعبه وعميل للغرب) لكنه يعود في موضع آخر ليقول عن الباشا:

(وقد ربط نفسه في محور المصالح البريطانية والهاشمية، بحيث لم يعد يستطيع معالجة القضايا العربية، إلا من خلال الزاوية الإقليمية الضيقة، وعجز عن إيجاد قاعدة شعبية لإسناد سياسته الداخلية والخارجية).

ألا يعني ذلك أن “غسل الأدمغة” و “تشويه صورة” الباشا كانت مُبَرّرَة؟! فمن يربط نفسه بالمصالح البريطانية، ماذا ستكون صورته أمام شعبه؟! فلما الحيرة والتساؤل؟! نعم، نجد الشمّري قد وَثّقَ ذلك في الصفحة اللاحقة الى كتاب فكرت نامق عبد الفتاح “سياسة العراق الخارجية في المنطقة العربية 1953 ـ 1958”، ولكن الكلام لم يُبرَز! وهو نهاية لسرد طويل سبقه متصلٌ به! وهذا يعني أن الكاتب موافقٌ عليه! وإن لم يكن ذلك وجب حصره والرد عليه، وهي مشكلة وجدت حضوراً كبيراً لها في هذا الكتاب.

ويقول في موضع آخر :

(على كل حال أريد أن أقول هنا إن نوري السعيد كان يسير في ركاب الإنكليز بسبب عقيدته على أنهم أصلح حليف وأقوى مناصر للعراق. وأن هذا الإعتقاد جَرّه الأخير ـ كذا! ـ الى الإنقياد التام والإستسلام لهم في كثير من المواقف) يُورد قبلها وبعدها أقوالاً لطالب مشتاق من كتابه “أوراق أيامي”، لكن سيُقال هنا نفس ما قيل في أعلاه.

ويتحدث عن “صَمَمِ” الباشا (وهنالك عامل آخر يستحق الذكر في شخصيته، وهو الصمم المصاب به. فحين واجهته لأول مرة...).

سيتساءل القارىء الذكي الآن: من الذي واجه الباشا هنا؟ فالكلام غير محصورٍ بين مزدوجين، ولم يُذكَر من القائل؟ سيُقال فوراً: الأستاذ الشمّري يتحدث عن مواجهته للباشا! لكن الشمري من مواليد 1960، وقد قُتل الباشا في عام 1958! وعليه فهذا الأمر غير واقعي! طَيّب من؟

نقل قبل ذلك كلاماً ـ غير مُبرَزٍ ـ عن فالديمار غالمان، والعقيد جرالد دي غوري. فمن المتكلم منهما؟ ثم يسترسل في الحديث بعدها ليُوثّق كلامه بالدكتورة عصمت السعيد. وسيبقى القارىء في حيرة من أمره!!

عن إحترام الباشا للقانون والقضاء، يقول الكاتب:

(وفي رواية أخرى تُبين إحترام نوري السعيد للقانون مع تحامل الكثير من العراقيين عليه لإيمانه بجدوى الصداقة والتحالف مع بريطانيا. ولكن ومهما كان موقفنا من إجتهاده هذا، فالغالبية العظمى من أصدقائه وخصومه أيضاً يعترفون له بأنه كان أخلص سياسي عراقي لحُرمة القضاء والقانون) (21)

وأنا أقرأ هذا الوصف “الشاعري” من جناب الكاتب، تذكرتُ مقتل رستم حيدر. إذ ينقل المؤرخ عبد الرزاق الحسني عن قاضي التحقيق ـ جميل الأورفلي ـ في قضية مقتل رستم ما يلي:

(ومما يُذكر في هذه المناسبة: أن حاكم التحقيق في هذه القضية، وهو يومئذٍ جميل الأورفلي، أسَرّ الى وزير العدلية محمود صبحي الدفتري: إن رئيس الوزراء نوري السعيد، قصد قاتل رستم حيدر في الموقف، وإختلى به بُرهة من الزمن. فإستنكر الوزير الدفتري هذه الحركة من رئيس الوزراء، وتلفن الى زميله وزير الدفاع طه الهامشي أنه قرر الإستقالة من منصبه، لأن التحقيق لا يجري مجراه، وإذا برئيس الوزراء يقصد محموداً في الحال، ويلاطفه، مؤكداً له أنه لن يتدخل في التحقيق بصورة مفصلة).

وقد هتف القاتل قبل شنقه بحياة هتلر وقال: ليسقط نوري الذي علمني الإنحراف.

فهل فعلاً كان الباشا “أخلص سياسي عراقي” لحرمة القضاء والقانون كما إدعى الكاتب؟!

ثانياً: يتحدث الكاتب عن مرض الباشا الذي دخل على إثره الى المستشفى الأمريكي في البصرة في بداية الحرب العالمية الأولى، وكيف أنه قد وقع في قبضة البريطانيين ليُنقل الى الهند كأسير حرب.

لقد فات الكاتب ـ في سياق نقصان المصادر الهامة عنده ـ الكثير من المعلومات المهمة هنا، فقد أكّدت إحدى الوثائق البريطانية الخاصة، أن أن نوري السعيد قد إستُخدم وقتها كـ”عميل” للمخابرات البريطانية، وقد زار الهند لهذا الغرض. وفاته أيضاً ما ذكرته “جريدة الفرات” ـ من صحف ثورة العشرين ـ في وثيقة عاجلة أرسلها “المؤتمر العراقي” في سوريا الى “رؤساء الشامية في النجف الأشرف”. والوثيقة طويلة، وفيها تحذير من “الجنرال نوري السعيد”، فهو من سيقوم بتوطيد أركان الإحتلال في العراق وتثبيت أقدامه، وتوصي بالإجتهاد في مقاطعته والإعراض عنه.

ما يهمنا الآن هو رأي المؤرخ كمال مظهر أحمد بهذه الوثيقة:

(وهي تُعد أول تقويم صحيح لشخصية نوري السعيد الذي أصبح رجل الميدان السياسي الرسمي للعراق على مدى أربعة عقود أعقبت “ثورة العشرين”. وتزداد أهمية هذه الوثيقة أكثر إذا تذكرنا أن نوري السعيد كان يُعد يومذاك أحد الوطنيين العاملين في سبيل القضية العربية. وأنه كان واحداً من أنصار الأمير فيصل المقربين الذي لم يقف أحد بعد على صِلاته السرية مع الإنكليز وعلى إيمانه المطلق بأنه “إذا كان نهر دجلة لا يزال يجري، فما ذلك إلا بفضل الإنكليز»).

ويتحدث مظهر أحمد في إحدى الحواشي عن صِلات نوري السرية بالإنكليز:

(إتضح ذلك كله بعد الكشف عن الوثائق السرية البريطانية، أي بعد مرور عشرات السنين على التقويم الصحيح الذي نشرته جريدة “الفرات” أيام “ثورة العشرين»).

ويقول في حاشية أخرى مستنداً للدكتور فاروق صالح العمر:

(حسبما تذكر الوثائق السرية البريطانية فإن نوري السعيد كان يتجسس على أعمال “المؤتمر العراقي” في سوريا، ويُزوّد المصادر المتخصصة بتقارير سرية مفصلة عنها).

ثالثاً: لم يُورِد الكاتب “مصدراً شيوعياً واحداً” عند حديثه عن الشيوعيين، بل وجدناه يعتمد على كتاب “أضواء على الحركة الشيوعية” لسمير عبد الكريم، ودور كتاب سمير عبد الكريم الصادر في سبعينيات القرن الماضي معروف:

(وبدأت الصحافة الحكومية بدورها بمحاولة تشويه دور الحزب الشيوعي العراقي وتأريخه من خلال صدور كتاب “أضواء على الحركة الشيوعية” وتناول الحزب الشيوعي العراقي مناقشة السبب وراء صدور ذلك الكتاب وأهم ما جاء فيه، لمصلحة من يجري هذا؟ لكونه محاولة النيل من “هيبة ومكانة حزبنا بين الجماهير”).

فهل من الموضوعية الإعتماد على مصدرٍ مُوَجّهٍ كهذا؟!

رابعاً: يقول الكاتب في فقرة بعنوان “عبد الناصر يستعين بنوري السعيد لحل مشكلته مع الإنكليز»:

(لقد أثبت عبد الناصر قدرته على تحدي الغرب علناً، ولكنه كان في الخفاء يسعى الى تهدئة الخواطر لتصفية الأمور سراً، والدليل على ذلك هو أنه رغم الدعايات الصاخبة التي كانت تشنها مصر ضد العراق وضد نوري السعيد بالذات، أبرق عبد الناصر برسالة الى السفارة المصرية في المملكة المتحدة فور إعلان قرار التأميم وطلب الى القائم بالأعمال فيها السيد “سامي أبو الفتوح” أن يواجه نوري السعيد في لندن، حيث كان الرئيس العراقي يقضي إجازته مع العائلة، لكي يتباحث معه في طريقه لتهدئة الزوبعة التي أثارها خبر التأميم في الأوساط السياسية في لندن).

صراحة إنتظرت “كشفاً” و “معالجةً” لهذا السر الخطير الذي لم أطلع عليه سابقاً رغم قراءاتي الكثيرة! فما هي المصادر التي إعتمدها الكاتب في هذا الموضوع الكبير؟ مصدرٌ واحدٌ فقط وهو: نوري السعيد رجل الدولة والإنسان، للدكتورة عصمت السعيد! زوجة صباح نوري السعيد!! ولا ينقضي عجبي من هذا الإستسهال عند جناب الأستاذ الشمّري.

الخلاصة:

لم يكن الكتاب أكاديمياً، أي أن المعالجة لم تكن أكاديمية، فالكتاب مُوَجّهٌ منذ البداية وبطريقة مثيرة. ولم يُحسن الكاتب إستخدام المصادر والمراجع المتوفرة في يديه، فضلاً عن فقدان الكثير من المصادر والمراجع المهمة في هذا الكتاب. وهذا ما يدفعنا الى القول:

لا يصلحُ الكتاب إلاّ للقارىء المبتدىء، يصلح من ناحية إطلاعه على حياة الباشا فقط، مع ضرورة الإحتراس من “النزعة السعيدية” المسيطرة عليه.