هكذا عرفت والدي عبد العزيز القصاب

Wednesday 3rd of August 2022 08:55:36 PM ,
5236 (عراقيون)
عراقيون ,

د. خالد عبد العزيز القصاب

رحل والدي عبد العزيز القصاب قبل أكثر من ثلاثين عاما، تاركا لي على مكتبه نسخة من ذكرياته التي طبعت عام 1962م، بعد أن أشبعها بخطه الجميل تقويما وتهذيبا، مضيفًا إليها فقرات وفصولاً في غاية الأهمية· وكانت هذه النسخة تتحداني لإعادة كتابتها في طبعة ثانية، فأمعنت في تحقيقها وتنسيقها وقرأت ما بين سطورها، وما إن أكملت واجبي حتى راودتني فكرة إضافة فصل عليها يعبر عن انطباعاتي عن شخصية والدي كما عرفتها عن كثب·

ورجعت أسبر غور طفولة ذاكرتي إلى سنين سبقت دخولي المدرسة· كنا نسكن في دار على ضفة دجلة لا تبعد عن الباب الشرقي إلا قليلا، ولا يفصلها عن حافة النهر إلاّ درب ضيق أصبح فيما بعد شارع المتعة والترف: (أبو نؤاس) كانت الدار محشورة في غابة كثيفة خضراء تخترقها سيقان النخيل الرشيقة· ولم يكن في جوارنا إلا دار أخرى هي دار عبد المحسن السعدون·

وفي هذه السنين الأُوَل لا تساعدني ذاكرتي الهشة إلاّ على استحضار يوم واحد غلب عليه الحزن والخوف ووالدي ينطلق مسرعا استجابة لاستغاثة زوجة السعدون، وانتحار رئيس الوزراء· وما إن رحل عبد المحسن حتى قرر والدي الرحيل إلى الضفة المقابلة من النهر· فشحننا مع متاعنا في (دوبة) كبيرة عبرت بنا الشط الى حيث استأجر دارا في كرادة مريم بيت بعمارة بغدادية رقيقة ذات شرفة طويلة، دهنت بلون شذري جميل· وكرادة مريم آنذاك لم تكن إلا غابات نخيل تتخللها بيوت متباعدة وآبار للسقي سميت بالكرود، وأصحابها سميوا بالكرادة··

وغلب على هذه الطبيعة الساحرة حركة صيادي السمك المستمرة، يبحرون بزوارقهم عند الفجر، تبعثر سكون الليل بإيقاعات صرير مجاديفها· ثم تنتشر الشباك عبر النهر، وترتجف الأسماك الفضية البراقة سجينة حبالها· ويرجع الصيادون عند المساء الى قريتهم الطينية قرب دارنا بزقاقها الضيق، الذي تنبعث منه رائحة السمك المقلي، وتغطيه شباك الصيد المعلقة من قمم النخيل لتجف قبل أن تستعمل مرة أخرى في فجر يوم جديد·

كانت دجلة في تلك الأيام تعج بالحياة· مشاهد كثيرة علقت في ذهني، منها سباق للقفف بأعلامها البراقة نظمه نادي العلوية، وطائرات مائية تدور وترسو في النهر لتستقر أمام دار قائد القوة الجوية البريطانية على شاطئ (السنك)· ومشاهد احتفالية أخرى تبلغ أوجها أيام الجمعة والسبت والأحد، عشرات الزوارق المحملة بحطب الطرفة والسمك تنساب على سطح الماء الى الجزر والجراديغ(1)في جنوب المدينة على أنغام الكمنجات البغدادية المشبعة بإيقاعات (الدنابك) صور وكأنها لوحة الكرنفال في فينسيا للفنان (كاناليتو) واذكر أيضا مهرجانا نهريا للملاهي والمسارح في الجزر الرملية وسط النهر في سنة 1932 دام ثلاثة أيام·

وما إن يأتي المساء حتى يضاء عقد طويل من الأنوار المتلألئة في شارع أبي نؤاس نسمع من (مقاهيه) أنغام أم كلثوم ينقلها لنا النسيم قوية مرة وضعيفة أخرى على سطح المياه المرتجفة· وكانت هذه المغريات تجذبني للعبور الى الصوب الآخر؛ صوب الملاهي والمرح، لكن ذلك كان مرهونا بموافقة والدي، التي كان الحصول عليها أشق علّي من الحصول على تأشيرات السفر· ولم أحظ بهذه الحرية الاّ عند دخولي كلية الطب·

كانت لوالدي شخصية صارمة أملت على حياتنا العائلية الالتزام والانتظام، نجتمع سوية على المائدة، ولكل كرسيه الخاص، نتحادث معا بصوت هادئ، ونعوض عن الضحك بابتسامات مؤدبة، إلا أن صرامته لم تحجبنا عن حبه حبا عميقا، ربما كان ذلك راجعا الى الكثير من العلامات الصغيرة التي تفصح عن حبه لنا، فما كانت صرامته المخيفة إلاّ قشرة صلبة تحيط بنفس مرهفة مشبعة بالحب لكل من حوله·

وحكايات حبه لأبنائه ورعايته لهم كثيرة، أذكر منها قصة واحدة ذات دلالات عميقة:

كنت، وأنا طالب في الصف الخامس الابتدائي، منغمرًا في أولى هواياتي الكثيرة وهي جمع الطوابع البريدية· كنت مغرما بأشكال الطوابع وألوانها، المعبرة عن المواقع والأجناس البشرية المتعددة، وكنت أحلم في مجموعتي ليل نهار· وفي يوم مشؤوم من الأيام كلفني والدي بجلب وثائق مهمة محفوظة في غرفة شتوية في أعلى البيت· وما إن اطلعت على الطوابع الغالية وصور الملك فيصل وغازي عليها حتى انهارت عزيمتي، فانتزعتها جميعا من الوثائق عدا الوثيقة التي طلبها والدي· وفي وقت لاحق استدعاني أبي قائلا إن هناك من يشتري طوابع فما لديك منها؟، وعرضت عليه ما لديّ ببراءة الطفولة وطوابع فيصل وغازي بينها· واختفت الابتسامة من وجه والدي لتحل محلها علامات غضب شديد· وكنت وأنا أشاهده مزمجرا لا أشعر بالآمي، خائفا من أن أفقد والدي بنوبة قلبية· انتهت الزوبعة بصعود والدي الى الشرفة ليرمي بمجموعتي في قاع النهر لتقبر كما تستحق·

ومرت السنون وإذا بأبي يستدعيني وأنا طالب في كلية الطب، قائلاً إنه سمع بهواية أولاد أخي بجمع الطوابع فما رأيك بإعطاء هذه المجموعة لهم؟· نظرت الى يده الممدودة نحوي ولم أصدق عيني، لقد احتفظ بمجموعة طوابعي وهو في قمة غضبه عليّ ولم يكن قد رماها الى قاع النهر· كان في ذلك لي قمة الحنان الأبوي·

وزاد في عجبي أيضا كيف تمكن أبي بثقافته العثمانية أن يؤمن بسنّة التطور ويجاري مسيرة أولاده في القرن العشرين· وهذه حكاية أخرى مع هوايتي الثانية: حبي للفنون التشكيلية· كان بيتنا بعيدا عن الفن، خاليا من أي ورقة أو علبة ألوان للرسم· وفي يوم من الأيام فتح أبي باب غرفتي بصورة مفاجئة، وكنت أحدق في تمثال صغير (لفينوس ميلو) لأرسمه· وبدت على وجهه علامات قلق وأغلق الباب بسرعة وكأنه قد فقد ابنه الى الأبد لعارية أغريقية·

وراقب والدي تطور هوايتي للفن واجتاز الهوة السحيقة التي كانت تقف بيننا، حتى وافق عام 1950 على طلبي لاستعمالي بيته الجديد على النهر، والذي بناه له، المهندس المعماري جعفرعلاوي، لافتتاح أول معرض لجماعة (الرواد) الذي دام لمدة ثلاثة أيام· معرض أصبح علامةً مهمةً ومنعطفا في تاريخ الفن العراقي الحديث·

وقف والدي بإعجاب بين لوحات فائق حسن وجواد سليم وأصدقائنا الآخرين، وبين المئات من الزائرين· والمعرض يعج برموز كثيرة لشباب أراد أن يغيّر كل شيء: أحذية تسلق جبال، فؤوس، أكواب معدنية موقعة معلقة فوق الموقد، ولوحات فنية تعلن عن ولادة حركة جديدة لرواد الطبيعة العراقية من الشمال الى الجنوب·

وفي هوايتي الأخرى، تذوق الموسيقى الكلاسيكية، وجدت نفسي هاربا منه، سجينا في غرفتي، أتصبب عرقا وأنا أتدرب على الكمان، غير متوقع أن يكتب لي والدي رسالة خاصة وأنا في لندن، كيف أنه اهتم بتنظيم مجموعة أسطواناتي بحنان ورفق·

راقبت أبي وأنا قابع في آخر مجلسه يوم الجمعة، فاغرًا فاهي، مستمعا الى ما يدور فيه من حوار· مجلس تغطيه العمائم الخضراء والبيضاء والسوداء، ورجال سياسة أفندية من مختلف المشارب والاتجاهات، شيوخ الجبال المتمنطقون بأحزمتهم العريضة، ورؤساء عشائر من رجالات ثورة العشرين، تجمعهم صداقات عميقة واحترام متبادل· صورتهم تدل على انعدام التعصب الطائفي والعرقي وتفصح عن التسامح والانفتاح وتقبل الرأي لآخر· كان من جملة الساسة الحاضرين دائما: حكمت سليمان، وعلي جودت الأيوبي، ورشيد عالي الكيلاني· سياسيون لم تجمعهم مع والدي أي وزارة أو حزب سياسي· وفي الأعياد كان المجلس يضم رجال الطوائف الدينية الأخرى، ممثلة بالبطارقة بألوان ألبستهم البراقة وحتى الحاخاميين اليهود·

وفي رأيي أن والدي لم يكن سياسيا مغامرا طامعا بمواقع رئاسية· كنت أتذكر أياما متعددة ونحن نراقب تكليفه بمناصب وزارية أو رئاسية يقابلها بالرفض · وفي قناعتي أنه إداري بطبيعته··· نجح الى حد بعيد في تحقيق العدالة ومكافحة الفساد في النواحي النائية من البلاد، وكذلك كسب ثقة الناس واحترامهم لدوره في استفتاءات انضمام لواء الموصل الى العراق·

وكان في مسيرته عموما يرفض أساليب العنف ويعارض تدخل الجيش في السياسة· وفي يوم حزين اغرورقت عيونه بالدموع عندما شاهد، وهو في شرفة مجلس النواب، جموع الشباب تتساقط من الجسر تحت وابل رصاص الشرطة من المآذن على الصوبين، فاستقال من رئاسة المجلس مع النواب المعارضين لمعاهدة (بورتسموث) وأحرج الوزارة القائمة ·

وأعجبت كذلك بمواقف الجبهات المتصارعة في الحلبة السياسية، وكيف كان ممكنا أن يتحاور مع ياسين الهاشمي وهو البديل المنتظر لوزارة المدفعي عام 1935، والتي كان والدي وزيرا للداخلية فيها، حوار غايته التفاهم في سبيل مصلحة البلاد العليا· وكذلك كيف كانت تدار في البلاط الملكي الاجتماعات التي ضمت رجال الأحزاب المعارضين مع المسئولين في الدولة في الظروف الصعبة، وربما كان والدي عنصر موازنة مهما في هذه الاجتماعات·

ومن جملة ما وجهته لنفسي من الأسئلة كيف كان أبي ينظر الى المرأة وحياته ارتبطت بأربع زوجات بصورة متعاقبة؟ مشاهداتي الكثيرة أقنعتني بحبه وإخلاصه ووفائه لهن· ففي زاوية من دارنا في كرادة مريم قبعت عجوز عمياء مقعدة في فراشها· كانت هذه العمياء المقعدة هي كل ما بقي من (مريم خان) والدة زوجته الأولى نورية، التي كانت حبه الأول منذ أيام دراستة في اسطنبول، والتي شاء القدر أن تموت على كرسي مركب الأسنان في سامراء وهي حامل بطفلها الثاني، بعد أربعة سنوات فقط من زواجها· اعتنى والدي بـ(مريم خان) وفاء لزوجته حتى توفت بعد أربعين عامًا·

وتلاحقه المأساة الى زواجه الثاني ووفاة (صبيحة الجلبي) وطفليها في ظرف أسبوع فقط، ضحية لمرض الدفتريا الذي فتك في جموع المجاهدين في السماوة أثناء الحرب العالمية الأولى.