حسين جميل.. وقراءة في كتابه (العراق شهادة سياسية 1908-1930)

Wednesday 17th of August 2022 11:13:51 PM ,
5245 (عراقيون)
عراقيون ,

نبيل عبد الأمير الربيعي

كتاب الراحل حسين جميل (العراق شهادة سياسية 1908-1930) يحتوي على 310 صفحة من القطع المتوسط وذات الطباعة والورق الجيد, والصادر عن دار اللام في لندن 1987م , الكتاب يحتوي على مجموعة من الصور النادرة التي تمثل شخصيات بغدادية ادبية وثقافية فضلاً عن أماكن بغدادية حقبة عشرينات وثلاثينات القرن العشرين , والكتاب هو عبارة عن مذكرات الراحل ودوره في الحياة السياسية في مطلع القرن الماضي.

كان لهُ دور بارز في الحركة الوطنية وهو ما زال في مقتبل العمر في كتابه (العراق شهادة سياسية) ص180/182 قائلاً: ”كنت في السنة الدراسية 1925-1926م طالباً في الصف الثالث في المدرسة الثانوية ببغداد , وكان مدرس اللغة الانكليزية فيها رجل انكليزي اسمه كودول Goodal وأذكر أنه كان معلماً غريب الأطوار , ضعيفاً في تدريس مادته ونشازاً في مظهره , حتى أنه كان يشد سرواله برباط عنق قديم بدلاً من الحزام. في هذا الجو المشحون بالتحدّي للإنكليز دخل المسر (كودل) مدرس اللغة الانكليزية على طلاب الصف الثالث وكنت فيه , وقال في الصف: إن العراقيين حمير , لأنهم يعارضون المعاهدة (معاهدة الانتداب) مع بريطانيا في حين أن بريطانيا تمدّنهم وتعمل على تقدمهم. تململ الطلاب وهم يباغتون بمثل هذا الكلام الجارح , وأخذ الغضب يفعل فعله في نفوسهم , ولكنهم انتظروا لحين انتهاء الدرس ! وما إن رنَّ الجرس معلناً إناء الحصة حتى ذهبوا – وكنت بينهم – إلى إدارة المدرسة , وكان المدير هو يوسف عز الدين الناصري , وأعلموه أنهم قرروا الإضراب عن دخول صف اللغة الانكليزية لأن مدرسها أهاد العراقيين , ونفذوا إضرابهم”.

ثم يعقب الراحل في قائلاً: ”حاول المدير اقناعهم بعدم مقاطعة درس هذا المدرس… غير أن الطلاب لم يستجيبوا لطلبه ونفذوا إضرابهم… وأذكر إن مدته لم تكن طويلة… لعلها لم تزد على اسبوع , صدر بعده أمر نقل المدرس كودول إلى ثانوية الموصل , ونقل مدرس اللغة الانكليزية في الموصل (المستر براير Prayer) إلى ثانوية بغداد”. هكذا كانوا طلبة الثانوية يحملون من الروح والمشاعر الوطنية في عشرينات القرن الماضي ودفاعهم عن وطنهم.

هذا كان أول اضراب يشارك به الراحل حسين جميل , أما الأضراب الثاني فكان عام 1927م وهو ما زال في مقتبل الشباب , وهي حادثة فصل وزارة المعارف استاذ التاريخ انيس زكريا النصولي وكتابه (الدولة الأموية في الشام) , الكتاب الذي أثار مشاعر ابناء المذهب الشيعي في ذلك الوقت , فقررت وزارة المعارف وكان يشغلها السيد عبد المهدي المنتفكي لمنع تدريس كتابه في ثانوية بغداد , وكان الراحل حسين جميل نشاً ومن العناصر القيادية من طلاب الثانوية, يقول في كتابه (العراق شهادة سياسية) ص188: ”ثم اتصلت العناصر القيادية من طلاب الثانوية ودار المعلمين بعضها ببعضها الآخر, وكنت نشطاً فيها, وبعد المداولة بينهم اتفقوا على أن يتجمع الطلاب في صباح اليوم التالي الأحد 30 كانون الثاني 1927 في جانب الكرخ, وسط ارضٍ فضاء تقع بين حدائق الصالحية ودور السكك الحديدية, وجرى إبلاغ الطلاب بأن يتجمعوا هناك تمهيداً للسير بمظاهرة إلى وزارة المعارف, وبالفعل تجمعوا ذلك الصباح هناك دون الذهاب للمدرسة… وطالبوا وزارة المعارف بإلغاء قرار الفصل وإعادة النصولي إلى عمله, وقد كنت من بين المتظاهرين, توجه الطلاب من حدائق الصالحية إلى وزارة المعارف, كان موقعها في شارع الجسر القديم, شارع المأمون الآن… عبرَّ المتظاهرون جسر الصالحية الذي كان يسمى حينذاك (جسر مود) حيث تجمعوا أما باب وزارة المعارف… وفي مساء يوم المظاهرة ألقت الشرطة القبض على بعض الطلاب وكنت منهم, وقد قضينا ليلتنا في موقف شرطة السراي, ثم اطلق سراحنا بكفالة في اليوم التالي 31 كانون الثاني 1927″.

أما التظاهرة الثالثة التي شارك فيها حسين جميل فهي بمناسبة زيارة (الفريد موند) العراق يوم 8 شباط 1928, يقول حسين جميل في كتابه ص 207: ”ما ـن قرأت الخبر حتى ذهبت إلى عبد القادر اسماعيل, زميلي في الدراسة الثانوية وفي الحركتين الطلابيتين السابقتين, وكان عبد القادر حينذاك طالباً في كلية الحقوق, واعلمته بالخبر الذي قرأته عن هذه الزيارة وسألته رأيه بالتظاهر احتجاجاً عليها وشجباً للحركة الصهيونية بعمومها فأيد عبد القادر الفكرة”, بعد التظاهرة اعتقل حسين جميل مع المتظاهرين وهو ما زال طالباً في كلية الحقوق في بغداد, وأوقفتهم السلطات وكان عددهم (41) شخصاً و(35) منهم من الطلبة ومن ضمنهم جميل يوسف زينل, وقد تم اطلاق سراحهم بكفالة.

يوم 29/3/1928 غادر الراحل حسين جميل بغداد إلى دمشق لراسة الحقوق (معهد الحقوق في دمشق) وكانت سنوات الدراسة فيه ثلاث سنوات, عام 1929م زاره فؤاد شمالي في دمشق وهو أحد مؤسسي الحزب الشيوعي في لبنان سنة 1924 ثم امينهُ العام بعد ذلك, طالباً منهُ أن يذهب إلى موسكو للدراسة في (جامعة كادحي الشرق) دون أن يتكلف مصاريف السفر والإقامة والدراسة, إلا أن الراحل رفض الطلب.

كانت تربط حسين جميل علاقات واسعة مع الشخصيات الوطنية ومنهم عاصم فليح, وكان يلتقي معه في نادي التضامن ومع الطلاب والشباب للتحدث في الشؤون العامة والمظاهرات ضد الصهيونية ومجيء الفريد موند إلى بغداد, كان الوعي قد تجذر لدى حسين جميل ومنذ وقت مبكر لصالح مجموع الشعب, ويرى الدعوة للعدالة الاجتماعية في المجتمع والعلاقات الاقتصادية العادلة بين الطبقات والفئات.

تخرج الراحل حسين جميل في معهد الحقوق في دمشق في أول صيف 1930/, فعاد إلى بغداد يوم 2/7/1930, وقدم طلباً إلى رئيس محكمة تمييز العراق للحصول على إجازة العمل بالمحاماة, لكن طلبه رفض, مستنداً رئيس المحكمة إلى أن نظام المحامين لسنة 1918م يقر في مادته الثانية أن إجازة المحاماة تعطى لـ(من كان بيده شهادة مدرسة الحقوق في الإستانة أو بغداد) وبعد عدة مطالبات تمت الموافقة على منحه إجازة العمل في مجال المحاماة.

احب حسين جميل مهنة الصحافة فمنذ طفولته عندما كان طالبا في مدرسة العمارة الابتدائية سنة 1923 حرر المقالات ونشرها في مجلة التلميذ العراقي، وكتب في جريدة الاستقلال عام 1927، كما كتب في مجلة الشباب الصادرة في شباط سنة 1929/, ويعتبر أحد مؤسسي جريدة الأهالي عام 1931م.

عمل الراحل في مجال المحاماة في العراق بداية عام 1931, وصار ناشطاً ديمقراطياً ذائع الصيت بسبب مواقفه الوطنية التي دافع فيها عن الحريات الديمقراطية مستنكراً حملات القمع والإرهاب التي مارستها الحكومات المتعاقبة في العهد الملكي, وكان سياسيا وصحفيا بارعا, وقد ساهم في تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي, وعند تأسيسه اصبح سكرتيراً عاماً للحزب. وقد انتخب عضواً بمجلس النواب العراقي في دوراته للأعوام (1947, 1948, 1954) , وعينَ وزيراً للعدل في حكومة علي جودة الأيوبي للفترة من (149-1950) , كما انتخب نقيباً للمحامين العراقيين في اربعة انتخابات متوالية للأعوام (1953-1957) , وأميناً عاماً لأتحاد المحامين العرب للفترة من (1956-1958).

يعتبر حسين جميل أول من ألف كتاباً عن حركة 14 تموز 1958 فبعد بضعة أشهر من اندلاع الثورة نشر كتاب العراق الجديد وهذا الكتاب عبارة عن محاضرة القاها باللغة الانكليزية في مدينة نيودلهي في الهند حيث كان يعمل سفيراً للعراق هناك بتاريخ 29 أيلول/سبتمبر 1958. رحل 7 كانون الثاني 2001م عن عمرٍ ناهز التسعين عاماً.

يذكر الكاتب والباحث جاسم المطير في مقال له على الحوار المتمدن تحت عنوان (حسين جميل في ذمة الخلود) يوم 10/1/2002 قائلاً: “منذ بداية الثمانينات حتى آخر عمره أصبحت مكتبته الشخصية البيتية تحت تصرف الباحثين والمؤرخين من طلبة الدكتوراه والماجستير في الجامعات العراقية, وكان في التسعينات جليس بيته في اغلب الأحيان مستقبلاً رجال القانون والباحثين المهتمين بالدراسات والأبحاث القانونية, وقد اصدر في التسعينات أو أواخر الثمانينات كتيباً صغيراً عن حقوق الإنسان في الاسلام, وهو كتيب تضمن مبادئ هامة عن الحريات والحقوق الإنسانية والفردية ضمن الفكر الإسلامي الحر. حاولت صحافة النظام (نظام البعث) خلال عقدين من الزمان جره الى بعض المواقف والتصريحات المؤيدة لبعض سياساتها في الحروب والمغامرات والقمع والغزو, لكنه لم يتجاوب مع أية دعوة وظل محافظاً على استقلالية موقفه وأفكاره. كانت صحته نشيطة بحدود مقبولة في التسعينات، إذ يغادر بيته مرة كل أسبوع على الأقل متجولاً في بعض شوارع بغداد كشارع الرشيد وشارع السعدون ويتجول أيضا في مكتبات شارع المتنبي.

يعتقد أصحابه من المترددين عليه في بيته أنه كتب الكثير من صفحات مذكراته السياسية التي ستكون مصدراً هاماً من مصادر التاريخ العراقي في العصر الحديث. استفسرتُ منه عام1993 عن احتمال نشر مذكراته وموعد نشرها فقال لي بالحرف الواحد, جاداً ومازحاً في نفس الوقت: “ما أكتبه من مذكرات لا يرى النور قبل الموت.. ”.