طبيبة في بيت البرزنجي في محلة الميدان

Sunday 21st of August 2022 11:54:40 PM ,
5247 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

سعيد روضان

فلاستا كالوفا 1896- 1971, ولدت في مدينة بيرنارتيتسه الريفية الصغيرة جنوب تشيكسلوفاكيا, كان الأب معلماً، محبا للمعرفة والأم سيدة منزل متفانية لإسعاد أولادها. “ في السابعة عشرة كانت تتمشى خلال الاجازات الصيفية بين الحقول وبيدها قاموس الكلمات الصغير،

فتاة نحيلة وغامضة إلى حد ما في ثيابها ذات اللون الفاتح، التي تغطي جسدها من الرقبة حتى أخمص القدمين وفق الموضة السائدة حينذاك. كانت جادة في حفظ الكلمات على ظهر قلب، وإلا كيف يتسنى لها تعلم اللغات السبع التي تجيدها اليوم. وكانت تجد متسعاً من الوقت لتنظر بطرف عينيهاإلى الناس الذين يراقبونها من وراء أسيجة بساتينهم.

ومن سيرتها الذاتية التي وردت في الرواية الوثائقية لإليونا بورسكا “ طبيبة في بيت البرزنجي” والتي نشرتها دار المدى للطباعة والنشر سوريا – دمشق سنة 2002 وهي من ترجمة حسين العامل ومراجعة وتحرير د. مجيد الراضي التي تحدثت عن مخطوطتها “ عبر البوسفورونحو دجلة “ المكرسة لإقامتها في بغداد والمحفوظة في متحف الوثائق المكتوبة في ستراهوف- براغ. كانت الطبيبة قدمتها للمتحف بعد بضع محاولات غير مجدية لنشرها قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها. كما ان عملها المسرحي الثاني “ شجرة الدردار الشمسية” والذي استوحته من حياتها الشخصية, لم يحظ بالعرض أيضاً. والشيء المؤكد أن المؤلفة كانت ترى في عملها الأدبي غير ما يراه الناشرون. ولا يستبعد أن يكون ضيق الأفق وعدم اهتمام الناشرين بمصائر أناس شجعان, ولكنهم اعتياديون, يقفان وراء هذا الإهمال لكتابها

في بداية نيسان استأجرت فلاستا دارا صغيرة في القسم الشمالي من بغداد المسمى بالميدان. كانت داراً جديدة وكانت شرفتها الخضراء تطل علىجادة السراي، هي شارع القصر. في كل مكان تنتشر المساكن الإسلامية الخاصة، وفي كل منها عدد كبير من النساء وليس من المنتظر ان تكون ثمت شحة بالنسبة لعدد المريضات. تم تجهيز البيت والعيادة بتجهيزات وجدوها عند الصيدلاني العريق طويق وهي من بقايا الاحتياطات الصحية البريطانية, وتم نقلها بوسطة الرجال الحفاة بقاماتهم الطويلة وكأنهم تماثيل قديمة. وقام الخياط اليهودي بخياطة الستائر. وأول شغيل جاء به مصطفى كامل هو العجوز مهدي الذي أقسم “ سوف أعتني بها كما أعتني بابنتي” ص 69

وكان أحد أوائل المرضى صبي، رفسه حصان، لم يكن هناك متسع من الوقت للخيرة، إذ كان الصبي في حالة إغماء وقد صبغه الدم وفي وسط وجهه جرح ينزف. ما الذي ينبغي عمله أولاً؟ حمايته من التلوث واجراء فحص ولو أولي للتأكد من حالة الجمجمة والعيون وتجبير عظم الأنف المكسورواجراء عملية تجميل. كل هذا ينبغي أن تنجزه وحدها بدون ممرضة أو مساعد. ولم يتصبب العرق في حينها على ظهر فلاستا بسبب حرارة الجوفحسب.

انتظرت بتوتر شديد ما اذا كان الصبي سيتعرض لتسمم الدم وقد تسمرت حين فتحت الضمادات لاجراء الفحص الأول. كان الفوز حليفها، إذ نمت العظام بشكل سليم ونجحت العملية التجميلية وكانت جراح الصغير مهدي تلتئم بشكل جميل وكان أبوه تاجر الجلود ينادي في كل مناسبة: تعال ليراك السادة، تأملوا لم يكن لهذا الطفل أنف، كان مجرد جرح ينزف، ولم يكن بمقدور فلاستا أن تتمنى بأن تجد داعية أفضل.

ولم تقتصر نشاطات فلاستا على الجانب الطبي, بل تعداه إلى الجانب الاجتماعي والترفيهي, لقد رحبت بدعوة زوجة الايرلندي الطيب بنلوب لامتطاء الخيل عند الصباح. لكنها لا تملك حصاناً. وقد جاء الحل عند الإيطالي جيورجي دي لوتي، الذي استعار من قبيلة شُمِرّ لفلاستا حصاناً عربياً أصيلاً بني اللون.

منذ اليوم الأول الذي التقت فيه اوجستو دي لوتي على السلالملم تعد تذهب في الصباح إلى الصحراء. إنها على الأقلتطيل اضطجاعهاعلى السرير وتتمطىتحت الناموسية. تتأمل السماء وتسمع أصوات المدينة في الصباح الباكر. أول الأصوات بائعات الحليب” قيمر, لبن، لبن” هذه بالتأكيد هي الصغيرة البدينة. انها لا تحمل البضاعة على الرأس مثل القرويات الأخريات، بل تنقلها على الحمار. في كل جانب جرة كبيرة، في واحدة منهااللبن وفي الثانية القشطة.

بعد لحظة أخرى يرتفع غناء الخباز: يابا خوش صمون، أهلك ما يدرون، ابيض وحار الصمون.

«سمك... سمك»يعرض بائع السمك باختصار، وفي سلته تلمع فضة السمك الذي اصطاده خلال الليل من نهر دجلة أو ديالى.

« خشب... خشب يابس» ينادي الرجل الذي يبيع أغصان الطرفة اليابسة، غير ان زبائنه في تناقص لأن المطابخ النفطية بدأت تقضي على المواقد القديمة في المطابخ.

في حضرة ملك العراق

بعد ستة أسابيع من عملها في العيادة دعا فلاستا لمقابله ملك العراق. جاءت الدعوة على غير انتظار: يرغب صاحب الجلالة الملك التعرف عليك، لذا يرجى حضورك في الساعة الثامنة وثلاثين دقيقة من صباح الغد في القصر الملكي. اطلبي هناك حيدر بيك فأنه سيقودك في القصر.

في اللحظة الأخيرة استطاع مهدي تلميع حذائها الأبيض. الحذاء الذي اشترته قبل سنة من معمل باتا في في مدينة بيرنارتيتسه ينغمر الآن في السجاد عالي الوشائج. سبق أن مثلت بين يدي رئيس الجمهورية ولكن بين يدي الملك لم تقف مطلقاً. إنه كائن أسطوري, له بردة من الهرملين، ويمسك بإحدى يديه الصولجان ويحمل في الثانية تفاحة الإمبراطورية.

بدلة الملك رمادية غامقة مفصلة وفق الأسلوب الإنكليزي, وقد استدار حول طاولة المكتب الكبيرة ليستقبل فلاستا: كيف أعجبتك الحياة في بغداد؟ممتاز اشعر بالارتياح لسماع هذا، وما ذا عن العمل، عساه بجري بانتظام؟ إنك تتحدثين بعربية رائعة ايتها السيدة الدكتورة.

كانت زيارة قصيرة، لكنها لم تكن الأخيرة(أنا التشيكية الصغيرة من طابور, استقبلني الملك بنفسه. حين سأكتب لأهلي ستعتريهم الدهشة والعجب). على أية حال لم تتوفر للإحساس بسحرالزيارة وإحتفايتها غير تلك الدقائق القليلة في العربة، فعندما وصلت الى منزلها وجدت الماء يغلي في قدر التعقيم وقد امتلأت العيادة بالمرضى. إنها تبدأ العمل اليوم في ساعة متأخرة عن الوقت المعتاد بساعتين، ولن تنته قبل الساعة الواحدة ظهراً، وقبيل الظهر من المنتظر أن تبلغ درجة الحرارة خمسين درجة مئوية في الظل، في الأقل. ما العمل لكل لعبة ثمنها حتى لزيارة صاحب الجلالة.” ص92

بيت البرزنجي

بعد بحث طويل ومشاهدات عديدة وقع اختيارها على دار أسرة البرزنجي في دربونة الراهبات. دار البرزنجي تعني دار البواقين ولعل هذا الاسم ساهم في قرار فلاستا باستئجاره. اذ ان اسم جدتها من ناحية الأم كانت تروباتشوفا (أي أسرة البواقين) وهكذا بدأت دار البواقين وكأنها ذات صلة بالأسرة منذ زمن بعيد.ص100

اللجنة الرباعية للدائرة الصحية للمدينة، التي قامت بزيارة دار البرزنجي في الأسبوع الأول من شهر تشرين الثاني عبرت بكثير من الاعتراف عن تقديرها لتجهيز القاعات والغرف والحلول الوقائية والصحية فيها وأكدت بشكل خاص ارتياحها لتأسيس هذا المعهد الصحي الجديد في بغداد. والمقام حقاً وفق الأسس الصحيحة. وجرى التعبير عن ذلك شفهياً وتحريرياً.

وبعد الختم قام السادة بالتوقيع. وفي اليومنفسه ظهرت في قرنة دربونة الراهبات لوحة كتب عليها باللغة العربية « مستوصف تشيكسلوفاكيا» للدكتورة فلاستا كالوفا. لقد أصبح المستشفى التشيكوسلوفاكي حقيقة واقعة.

« في تشرين الثاني 1929 تم نقل المستوصف التشيكسلوفاكي من شارع الراهبات إلى دربونة النمل. لم تكن فلاستا راغبة في التخلي عن دار البرزنجي القديمة غير انها لم تعد تتسع للأسرة والمستوصف معاً. وفي النهاية سهل اتخاذ القرار السيد البرزنجي نفسه، إذ استمر بمطالبته بزيادة الايجار رافضاً في الوقت نفسه دفع تكاليف الترميم والإصلاح.

الدار الجديدة التي تصل بين شارعين حيويين، دار واسعة وجميلة بصورة عامة, غير ان أجمل ما فيها المنظر الذي تطل عليه، على مقربة مباشرة منها، بل وفي متناول اليد تقريباً ترتفع فوق أشجار النخيل السامقة منارة الحسكة بقامتها الذهبية الرشيقة تزينها فسيفساء ناعمة. وفوق الطوق المتحلق حولها كأنه الخاتم الجميل يرتفع برج صغير تزينه الزهور ويعلوه تاج فيروزي الزرقة. ومن شرفة السطح نستطيع أن نرى على مسافة كبيرة من منارة الحسكة, منارة أخرى تفوقها جمالاً. يحيط بهما طوقان كأنهما خاتمان أحدهما فوق الآخر.” ص179وتصفها فلاستا “ منارة الحسكة تنير عالياً فوق الشرفة حتى ليخيل انه من غير الممكن ان تكون قد شيدتها يد البشر، انما هي وردة شرقية رائعة الجمال تفتحت في هذا المساء الجدير بالاعجاب.” ص193