بلقيس شرارة وحقائب الذاكرة: عن طعام العراقيين ورائحة رفعة الجادرجي

Wednesday 31st of August 2022 11:50:43 PM ,
5255 (عراقيون)
عراقيون ,

محمد تركي

قبل عقد تقريبا من الآن، كانت الباحثة العراقية أو»الحلاوية» (مدينة الحلة) بلقيس شرارة قد طرحت فكرة تقول إن دور الطباخ منذ القرن الثامن عشر تقريبا لم يعد يقتصر على تقديم الأطعمة، بل بات دوره أكثر تأثيرا،

وأصبح يلعب دوراً لا يقل أهمية عن دور الموسيقيين والفنانين وحتى الروائيين، وهو الأمر الذي نراه اليوم بشكل أكثر وضوحا، إذ غدا دور بعض الطباخين الشبان من خلال صفحات الأنستغرام، أكثر تأثيراً من عالم الأفكار الكبرى، كما غدا دورهم لا يقتصر على تعريفنا بأذواق جديدة، بل في دفع الآلاف إلى تقليد وصفاتهم في منازلهم، وهو ما خلق علاقة جديدة بين الطعام والنساء، أو الرجال ممن يطبخون؛ فبعد أن كان الطبخ يأتي من خلال تراكم التجارب، ووراثة تقاليد الأمهات والعائلة، كان هؤلاء الطباخون والطباخات يعلنون عن إزاحة المراجع التقليدية (خبرات سنوات وعقود) لصالح مرجع آخر، لا تاريخ له في عالم الطبخ، أو لا يمتلك سلالة عريقة، إلا أنه بات شاطراً في إتقان فنون الطبخ، الذي أخذ يمزج بين المذاق وإضفاء صورة فنية جمالية على صورة الطبق، أو «جعل الطبق يرقص» وفق تعبير أحد الطباخين الدمشقيين.

وانطلاقاً ً من فكرة الطبخ أو الطهى بوصفه فنا يهدف إلى تغيير العالم، وفق تعبير جون أدابون، صدر كتابها «الطباخ» عن دار المدى العراقية الذي سرعان ما حظي باهتمام كبير من القراء، خلافاً لردة الفعل السلبية التي عبر عنها المثقف العروبي الراحل خير الدين حسيب، وهو يطالع المخطوطة الأولى، إذ تذكر بلقيس أنها زارت برفقة زوجها المعماري الراحل رفعة الجادرجي، خير الدين حسيب الذي كان ما يزال يرأس مركز دراسات الوحدة العربية، وفي هذه الزيارة قدم رفعة مخطوطتين له، الأولى بعنوان «المعمار ودوره في حضارة الانسان»، والثانية بعنوان «الطباخ ودوره في حضارة الإنسان»، فما كان من حسيب إلا نظر في العنوانين على عجالة ليوافق على نشر مخطوطة الجادرجي، بينما رفض نشر كتاب عن الطباخ وسوسيولوجيا الطعام، وهذه ربما بقيت شيمة مركزه البحثي الذي ظل مهموما بقضايا العروبة والهويات المتخيلة، على حساب تبني رؤية تعنى بالمواضيع والمقاربات الأخرى في العلوم الإنسانية، إلا أن هذا الرفض لم يحل دون أن يتحول كتاب شرارة إلى واحد من المراجع المهمة والقليلة باللغة العربية في حقل الطعام، لكنه بالمقابل أدى إلى إهمال باقي مشاريعها الكتابية، وبالأخص على مستوى كتابة السير الذاتية.

بلقيس.. كاتبة السير الذاتية

المتابع لكتابات هذه الباحثة، يرى أن بداياتها في عالم الكتابة جاءت متأخرة قليلاً (في العقد السادس تقريباً) وذلك بعد انتحار اختها «حياة»، ويا لها من مفارقات أن تنتحر سيدة تحمل هذا الاسم، إلا أن ظروف العراق في نهاية التسعينيات في ظل الحصار كانت في حالة يرثى لها، ولذلك قررت الانتحار بعد دقائق من انتحار ابنتها الشابة مها، بيد أن بلقيس المكلومة باختها، ستعثر لاحقاً على مخطوطة رواية لاختها بعنوان «إذا الأيام غسقت»، ومن هنا ستقرر خوض تجربة الكتابة، بعد سنوات طويلة من مرافقتها لمشروع زوجها الجادرجي، ولذلك ستخصص وقتها لكتابة مقدمة للرواية (قرابة 80 صفحة)، وظنت يومها أن نشر الرواية قد يشفي قليلاً من الشعور بالفقدان والحزن، وربما بالذنب أيضا عن الأيام التي عاشتاها هي واختها بعيدتين عن بعضهما، وبالأخص عندما قررت حياة وهي صغيرة خوض تجربة الشيوعية، في حين كانت اختها تتزوج من ابن عائلة بورجوازية وطنية (الجادرجي)، ما جعلهما تعيشان أحيانا على ضفتين بعيدتين داخل بغداد، ليأتي الموت ويجمعها مرة أخرى، فالموت ليس مكانا للعدم أو للعبور فقط، بل هو أيضا مكان للذاكرة وولادتها، وهو ما سيحدث مع بلقيس، التي ستقرر بعد هذه الحادثة فتح صناديق ذاكرتها، لتبحث وتقرأ سيرة التحولات التي عرفتها عائلة لبنانية/عراقية (شرارة) في القرن العشرين وبعده، وهو الأسلوب ذاته الذي كان زوجها رفعة قد أتقنه في غالبية كتبه الأولى، ففي كتبه «صورة أب»، «الأخيضر والقصر البلوري»، خلافاً لكتبه اللاحقة التي حملت أفكارا فلسفية ونظرية عن العمارة، حاول القول إن الذاكرة والسير الذاتية قد تكون ميداناً غنيا لقراءة التغيرات الاجتماعية، وأيضا مكاناً لنقد الماضي وتقاليده والثورة عليه، وأيضا لتخيل أزمات الحاضر والمستقبل، لكن هذا التأثر لا ينفي أن بلقيس لم تطبخ سيرها بنفس آخر، على مستوى استبدال ثيمة العمارة التي ميزت عالم رفعة بثيمة (الطعام) مثلاً أو ثيمة (الزوجة)، وأول ما سنرى ذلك من خلال كتابة سيرة والدها، الأستاذ اللبناني محمد شرارة، الذي غادر قضاء بنت جبيل في لبنان في الثلاثينيات ليعمل أستاذا للغة العربية في مدينة النجف العراقية، ومما تكشفه سيرة الأب، أنه خلال فترة الأربعينيات كانت هناك جالية لبنانية تتشكل في مدينة الحلة العراقية، وفي الأغلب من الأطباء والمدرسين، ليس لأسباب طائفية، كما قد يخيل لقراء اليوم، وإنما لأن العراق آنذاك لم يكن يضم عدداً كافياً من الأطباء، فكانت الحكومة تسد الثغرة باستقدام الخبرات اللبنانية، وبعد تجربة الكتابة عن الأب، التي تذكرنا بتجربة كتابة زوجها عن والده السياسي العراقي المعروف كامل الجادرجي، قررت شرارة الخوض في عالم الطبخ والطعام، لتعود بعدها في السنوات الأخيرة إلى حقائب الذاكرة مرة أخرى من خلال تدوين سيرتها الذاتية «هكذا مرت الأيام» الصادرة عام 2015، الذي ستكشف فيه عن كاتبة متمرسة في أدب السير الذاتية، ومما ستدونه في مقدمته عبارات تقول فيها «تجولت الذكريات في رأسي ووجدت نفسي محملة بحقائب من الذكريات، ذكريات المتعة والمعاناة.. إنها حقائب ذات ألوان مختلفة بمزاج وألوان أصحابها»، والمهم في سيرتها هذه، أن اهتماماتها بعالم الطبخ سيضفي نكهة خاصة حول ذاكرتها عن العراقيين، فالذاكرة ليست مادة جاهزة، أو محدودة، بل هي عالم قادر على البوح دوما بتفاصيل جديدة، كما أنها عالم لم يدعِ البراءة يوماً، وإنما ظل يفسح أبوابه أمام كل باحث عن صور أو حنين أو حتى ماض متخيل.

ستمضي بنا شرارة في قسم كبير من يومياتها للتعرف على ذاكرة العراقيين والمهاجرين اللبنانيين مع الطعام، وبالأخص مع الكبة اللبنانية النية التي ظلت ترفض تذوقها، بعد أن اجبرت وهي صغيرة على تناول قطع من الكبدة النية، فغدا ذوقها معادياً لكل ما هو نيئ تقريباً، وربما لأن النيئ كما يذهب لذلك كلود ليفي شتراوس غالبا ما يرتبط بالطبيعة، بينما المطبوخ مرتبط بالثقافة والفنون التي تولعت بها.

حقائب رفعة

ولأن الذاكرة بتعبير بلقيس هي حقائب، لذلك حرصت في سيرتها على فتح حقائب ذكرياتها مع زوجها رفعة، الذي غدا واحدا من أشهر المعماريين العراقيين في الخارج، ولعل من القصص العديدة التي تأتي على ذكرها، وشكلت مقدمة لمغادرتهم البلاد لاحقا، هي قصة شعر الجادرجي؛ ففي السبعينيات كان نائب رئيس الجمهورية صالح مهدي عماش قد أصدر تعليمات تقضي بمنع الشعر الطويل للذكور، والتنانير القصيرة، انطلاقاً من أنها تنافي ثقافة العراق، وهو ما عد يومها اتجاها خطيرا كون الدولة أخذت تتدخل بشكل أوضح في القضايا الخاصة بحرية الفرد، ولأن شعر رفعة كان طويلاً، فبعث إليه وزير التخطيط جواد هاشم طالبا منه قصه، ورغم رفضه القيام بذلك، لكن حالة شد الشعر بينه وبين الحكومة لم تتوقف، ليقرر لاحقاً مغادرة البلاد للولايات المتحدة الأمريكية، وهناك تفرغ أكثر لإعداد كتب وإلقاء محاضرات عن فلسفة العمارة، وقد بقي الجادرجي حتى آخر أيامه نشيطا، قبل أن يصاب بفيروس كورونا، ويرحل عن دنيانا في 10 إبريل/نيسان 2020، إلا أن سيرته لم تتوقف هنا، فبعد أشهر قليلة من رحيله، قررت بلقيس إعداد كتاب آخر عن سيرة رفعة (الباحث في تاريخ العمارة)، وليس رفعة الزوج الذي رافقته قرابة ستة عقود وأكثر، وربما ما دفعها لذلك هو رائحة الهواء في منزلهما على نهر التايمز البريطاني، الذي ظل يحتفظ بذكرى رفعة ورائحة كتبه ومقالاته ومكتبته الضخمة عن العمارة وفلسفتها.

قررت بلقيس إعداد كتاب آخر عن سيرة رفعة (الباحث في تاريخ العمارة)، وليس رفعة الزوج الذي رافقته قرابة ستة عقود وأكثر، وربما ما دفعها لذلك هو رائحة الهواء في منزلهما على نهر التايمز البريطاني، الذي ظل يحتفظ بذكرى رفعة ورائحة كتبه ومقالاته ومكتبته الضخمة عن العمارة وفلسفتها.

عن صحيفة القدس العربي