في 14 أيلول 1831..عندما انتهى عهد المماليك في بغداد

Monday 12th of September 2022 12:26:16 AM ,
5262 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

رنا عبد الجبار الزهيري

لم يتخلَّ الباب العالي عن هدف فرض سيطرته المباشرة على بغداد ، على الرغم من فشل محاولاته الأولى في هذا المجال ، فقد لحقت أضراراً سياسية واقتصادية وإدارية جسيمة بالدولة خلال حكم المماليك ،

إذ نقصت وارادتها بسبب استمرار الاستقلال الفعلي للماليك، وساءت علاقاتها مع بلاد فارس ، ولم تتمكن من الحدَّ من النفوذ الأَجنبي الذي أَخذ يتعاظم في العراق ، لذا وجد السلطان محمود الثاني (1808-1839) أَنَّ استمرار التغاضي عمَّا يجري ، قد يؤدَّي الى خلق (محمد علي) آخر في بغداد ، إذ كان داود في بغداد يتبع خطوات محمد علي باشا في مصر، ورأى أَنَّ الحلَّ الأَمثل هو القضاء على المماليك ، وربط إيالة بغداد بالعاصمة

استانبول.

قرَّر الباب العالي إسناد مهمة القضاء على داود باشا بالقوة العسكرية الى (علي رضا اللّاظ) ، والي حلب ، لأنه كان أوسع أطلاعاً على أوضاعه ، بحكم قرب حلب من بغداد ، والصلات الاقتصادية التي تربط الإيالتين، فضلاً عن كون الشام ملجأً للفارين من معارضي داود. وفي الوقت نفسه تقرر تقوية قوة ماردين وديار بكر وتعيين الموظفين ذوي الكفاية لإدارتهما.

وافق الباب العالي على طلبات علي رضا ، وسعى الى تعزيز نفوذه برفعهِ إلى درجة (سر عسكر) وولاهُ على بغداد وحلب وديار بكر والموصل، وهذه المجموعة من الإيالات لم يسبق أن أسندت حكوماتها إلى والٍ واحد. وحاول الباب العالي التكتم على أخبار الاستعدادات لشنِّ الحملة العسكرية على داود ، فبقي قابودان السفينة ، التي حملت التجهيزات من ميناء استانبول، لا يعرف وجهة السفينة إلا بعد تحركها من الميناء، وطلب علي رضا من والي الشام رؤوف باشا منعَ مغادرة الأشخاص من بلاد الشام الى بغداد ، وتدقيق أوراق القادمين إليها. وصدرت الأوامر إلى كركوك وماردين لتتهيأ لإنجاح مهمته، كما تم تبليغ (صفوق الفارس) شيخ شمَّر، وشيخ عشائر طي (حسين عبد الله) بالأمر ، كما أرسل الأمر ذاته إلى ولاة : قونيه وسيواس والبصرة. وعرض علي رضا على صفوق مغريات مختلفة مقابل دعم شمَّر ضد داود ، وقبل صفوق العرض. وبعد أن أكمل علي رضا متطلبات حملته غادر حلب في بداية الأسبوع الثالث من آذار 1831م .

استعدّ داود بكل عزم لملاقاة الجيش القادم ، معتمداً على قواته التي أحسن تدريبها، ولكن القدر تدخل ليحسم الصراع لصالح السلطان ، فقد تعرضت بغداد إلى كارثةٍ «أسوأ من نكبة المغول لها» إذ تعرضت لـ»أفظعِ وباء حلَ بالعراق عبر تاريخه الطويل» ، حيث تفشى الطاعون فيها في آذار عام 1831 ، وبلغ شدته في نيسان ، إذ بلغت خسائر المدينة في أيامها التي استغرقت أسبوعين عدّة آلاف في اليوم الواحد ، وبلغت المأساة غايتها ، حتى «أخذ الهلع والخوف من الأحياء الباقين ، بحيث كان يندر إقناعهم بالبقاء لدفن موتاهم» . وكأن القدر لم يكتف بذلك، ففي الأسبوع الأخير من نيسان طغى نهر دجلة طغياناً شديداً، فغمرت مياهه أرجاء بغداد، وقوضت في 26 نيسان سبعة آلاف دار سقطت مرّةً واحدة . دافنةً بذلك المرضى الذين كانوا يعانون من سكرات الموت ، والأموات ، والأصحاء، في رَمْسٍ كبير مشترك. وغمرت المياه إسطبلات خيل داود باشا، فقطعت خيوله أربطتها وأخذت تهيم على وجهها في شوارع المدينة . وقدر عدد الموتى بالطاعون في بغداد بثلثي عدد سكانها البالغ نحو خمسين أو ستين ألفاً . إن هذه الكارثة المزدوجة (الفيضان والطاعون)، الى جانب تهديد الجيش العثماني، تركت داود باشا رجلاً محطماً بعدما أفنت زهرة جيشه الكبير ، فلم يبق على قيد الحياة من حرسه الجورجيين، الذين كان عددهم نحو ألف شخص، إلا أربعة ، ولم يبق من خيالته إلا واحد فقط. ولم يلبث الطاعون أن أصاب داود نفسه فجعله ضعيفاً عاجزاً . فعندما وصل قاسم أغا إلى ضواحي بغداد ، أرسل الأمر (البيورلدي) الى طاهر السيروزي قاضي بغداد خفية ، فأظهرهُ لبعض الأهالي ، وأخذ منهم عهداً أن يخلصوا للدولة العثمانية، وصار يحث الأهالي أن لا يركنوا الى داود باشا ، وان يبادروا إلى استقبال القائمقام، وإلا نظر إليهم نظرته الى عصاة، فوافقوه وأذعنوا بالطاعة. ولهذا عندما بدأت أصوات مدافع قاسم العمري تسمع في بغداد ، هاجم نحو مائتين من أهالي محلة باب الشيخ السَّرايَ وأشعلوا النيران في بابه الداخلي، ثم انسحبوا، عندها ترك داود باشا السَّراي والتجأ إلى بيت حبيبة خاتون بصحبة خادمه فيروز .

ترك علي رضا مدينة الموصل في الثالث والعشرين من مايس عام 1831 ، قاصدا بغداد ، على رأس كتيبتين من الخيالة وفوجين من المشاة ، فضلاً عن إثني عشر آلفاً من الجند غير النظاميين، وعندما واتته أخبار بغداد ، اتجه نحو أربيل، كاتما الخبر عن قواته ، ثم أسرع في المسير نحو بغداد ، وعندما وصل ضواحيها في 8 تموز وجدها محصنة.

كانت حراسة أبوابها قد أنيطت بمن بقي من قوات داود النظامية وكانوا نحو (500) مقاتل ، مع نحو (600) الى (700) من الخيالة ، فضلاً عن أفراد العشائر من العقيليين الذين كُلِّفُوا بحراسة باب الأمام موسى الكاظم تحت قيادة سليمان أغا . وكلف نحو (500) مقاتل، بقيادة محمد أغا بحماية باب الكريمات، بينما كلف المُلَّا حسين رئيس الحشامات ، بقيادة القوات الموجودة في القلعة. ولم تكن قوات علي رضا كافية لاقتحام بغداد ، فاضطر الى محاصرتها حصارا مهلهلا.

وبمرور الأيام ، أخذت الضائقة تشتد على الأهالي في بغداد ، وترتفع الأسعار في أسواقها باستمرار ، وتسير المدينة نحو المجاعة ، ومع مرور الوقت ساء الوضع المعيشي للسكان ، مما هيأ لعلي رضا الفرصة ليس لكسب بعض وجهاء بغداد فحسب ، بل لكسب أعداد غفيرة من جنودها أيضاً، فقد كسب علي رضا الى جانبه أحمد أفندي خطيب الروضة الأعظمية ، والشخصية البغدادية المؤثرة في المجتمع عبد الرحمن الأورفلي، وفي الوقت نفسه أخذ الجنود يهربون الى الجانب المعادي يومياً.كما أخذت قوات علي رضا تسأم القتال، في وقت إنصرمت فيه ايام الخريف، وبدأ الشتاء ينذرهم بالبرد والمطر ، لذا تصرف بذكاء ، فأكد للماليك أنه يرمي إلى إقصاء داود باشا ثم يعود الى حيث يريد ، مماحملهم على الاعتقاد بأن مهمة علي رضا باشا تستهدف إعادة المماليك الى عظمتهم السالفة بإشراف ثانٍ .

وعندما أجاز الباب العالي لعلي رضا العودة الى استانبول ، والعفو عن داود باشا، إذا لم يزل مخفقاً في تحقيق أهداف حملته ، أخفى الأمر عن أهالي بغداد الذين كانوا يترقبون العفو عن واليهم المتمرد ، فدعا وجهاء بغداد للتفاوض ، وأبلغ ممثلهم ملا حسين ، بأن أمراً سلطانياً قد ورده ، ينص على عدم رضا السلطان منه إلا دخول بغداد ، لذا فأمام أهل بغداد خياران لا ثالث لهما : إمّا الاستجابة للأوامر السلطانية والعفو وإما العصيان فالعقاب .

أحدث هذا الأمر إرباكاً في صفوف المدافعين ، ففترت هممهم فداهمت مجموعةٌ من أهالي بغداد ، المفعمة بالقلق ، ليلة 14 أيلول ، مزالج باب الظلمات ، وسمحوا لسرايا علي رضا بدخول المدينة من دون مقاومة . وخطفت مجموعة موالية للسيد أحمد أفندي ، خطيب الروضة الأعظمية ، السيد (محمود النقيب) ، وذهبت به إلى معسكر علي رضا ، وبذلك تم عزله عن قيادة الجماهير البغدادية المدافعة عن

المدينة .

كان القائمقام صالح أغا خلال هذه الأزمة ، «منصرفاً إلى الكأس .. ومجالس الأنس والطرب ويقضي وقته في اللهو» ، أما داود فقد بقي محجوزاً ومهجوراً لا يطيق حراكاً في دار صالح أغا ، وترك الأمور تجري كيفما تشاء. فامتنع من الفرار مع عشائر العقيل الى المنتفك . وبعد أن رفض ملا حسين لجوءه الى القلعة ، توجه إلى بيت أحد أتباعه ، مسلماً أمره لحكم القدر ، فجاءته ثُلَّةٌ من ضباط غريمه لاصطحابه الى خيمة علي رضا حيث رحب به وتعهد له بأن لا يمسَّهُ بسوء ، ويعده للرحيل الى الاستانة بكل احترام ، وعندما استعدوا للرحيل ، امر علي رضا كتيبة من الفرسان واخرى من القوات النظامية ان تحرس داود وقافلته، وعندما وصل الى الاستانة عفا عنه السلطان ، وولاه البوسنة (1833-1835) ثم تولى منصب رئاسة مجلس الشورى سنة 1838 ، ثم تولى انقرة سنة 1839 وعزل سنة 1840 ، ثم حقق السلطان لداود باشا طلبه بان توجه اليه مشيخة الحرم النبوي ، وظل هناك حتى توفي سنة 1850 ودفن بالبقيع .

عن رسالة (إيالة بغداد في عهد الوالي علي رضا اللاظ)