جهاد مجيد: على الروائي أن يمتلك وعياً نقدياً ليفهم العملية الإبداعية

Wednesday 21st of September 2022 11:46:26 PM ,
5269 (عراقيون)
عراقيون ,

حاوره: علاء المفرجي

جهاد مجيد المولود عام 1947 يعد من جيل الستينيات، فقد بدأ النشر منتصف هذه الحقبة في مجال القصة القصيرة فأصدر عام 1972 أولى مطبوعاته هي (الشمس في الجهة اليسرى) وهي مجموعة مشتركة مع كتاب آخرين..

ثم أصدر عام 1988 مجموعة أخرى حملت عنوان (الشركاء) . وكانت آخر مجموعة قصصية له هي (الرغبة السامية) التي صدرت عام 1989. تقول الناقدة نادية هناوي عنه: جملة جهاد مجيد رصينة قوية تدل على ثراء الكاتب اللغوي وخزينه المعرفي في ما يكتب. مشدّدة على ضرورة دراسة أعمال جهاد مجيد الروائية من قبل النقاد."

فلأعمال الروائي جهاد مجيد خصوصية في السردية العراقية، فقد اتجه الى الرواية وأصدر أولى رواياته ( رواية الهشيم)، عام 1974. ثم (رواية (حكايات دومة الجندل)، عام 2001 ، و (رواية تحت سماء داكنة)عام 2010. ثم روايته الحديثة الإصدار (أزمنة الدم) عام 2016، منازع التجريب السردي في روايات جهاد مجيد، للباحثة الدكتورة نادية هناوي ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت، طبعة أولى، 20116.

*هل تحدثنا عن بداياتك وأبرز المؤثرات في ميلك الى القص ؟وهل هناك مرجعيات بعينها استندت عليها؟

- في البدء كانت المدرسة الابتدائية حيث تعهدنا أساتذة أكفاء مخلصون إلى كل ما هو سام وصادق وجميل فكانت المدرسة من خلالهم خير حاضنة ومحفزة إلى التطلع والطموح, غرسوا فينا حب الكلمة الصادقة، الهادفة، النافعة، وحب أصحابها الأعلام والإحساس بعظمتهم؛ بالتعريف بهم والحديث عنهم بإعجاب وأحياناً بتبجيل، والاستشهاد بمآثرهم واعتبارها معايير للإنسانية, فكانت تطالعنا أقوالهم بأجمل الخطوط في لوحات الشرف المعلقة على جدران المماشي أو الصفوف كحِكَم جاذبة ونافذة في الأعماق: حكمة اليوم.. حكمة الأسبوع .. حكمة الشهر, دينية أو أدبية أو اجتماعية لشخصيات مقدسة أو تراثية أو أعلام معاصرين حكماء وأدباء أو علماء؛ من خلالهم عرفنا شخصيات ما كان يتيح لنا معرفتها الدرس الابتدائي المقرر؛ عرفنا من الفلاسفة الأقدمين أرسطو وأفلاطون وسقراط والفارابي وابن سينا والرازي والغزالي ومن الأدباء المعاصرين حببوا لنا جبران وأبا ماضي والمنفلوطي والرصافي والزهاوي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأبا القاسم الشابي بأجمل أقوالهم وأعمق أفكارهم وأصدق تجاربهم، فانطبعت في نفوسنا عميقاً فكانت أرضاً خصبة لإنبات الَمَلكة الأدبية فينا أو لإذكاء شرارات الوعي للانطلاق نحو ميادين المعرفة والإبداع.

بالنسبة إليَّ كانت المدرسة الابتدائية منطلقاً قوياً نحو الأدب عامة, أما القص, فلا أدري بالضبط ما العوامل التي ألقتني في يمِّه الهادر, والعوم في تياراته الجارفة ..لعلها تلك الأحاديث ذات السمة السردية التي كنتُ شغوفاً بالإصغاء إليها مع باقي أفراد الأسرة من الأب أو الأم أو أقارب آخرين؛ وهي حكايات أما واقعية صرفة أو خيالية للتسلية ؛حكايات الفقراء قبل أن يناموا وليست حكايات للأمير قبل أن ينام.

لم يكن هناك تلفزيون ولا راديو ..ولا ذهاب إلى السينما إلا في الأعياد؛ مع الأشقاء الكبار لمشاهدة الأفلام الميلودرامية أو الرومانسية المصرية أو مع الأتراب لمشاهدة طرزان وفلاش كوردن وزورو وماجستي والتي نعود لنقصها على الأتراب الذين لم يحظوا بمشاهدتها معنا. وبالتأكيد شكّل هذا الاستمتاع رغبة بالاستزادة من معين القصص وربط عربة هذه الرغبة خلف حصانها الجامح, وأولى محاولاتي الأدبية التي أذكر كانت مسرحية وعظية لا أتذكر اسمها قام بتمثيلها طلاب مدرستي بإشراف المعلم جواد الغافل وهو فنان محترف واعتقد انه كان من أعضاء فرقة الزبانية، كنت حينها في الصف الخامس الابتدائي وبعدها بعام قدمت لي إحدى الفرق التلفزيونية – ربما فرقة الفن المعاصر ـ تمثيلية تلفزيونيةا بعنوان (من ظلام الماضي) أدى أدوارها فنانون محترفون، وبعد فترة نثرتُ هذه التمثيلية لجعلها قصة قصيرة –أقول نثرتُ لأني لم أكن مدركاً تماماً الشروط الفنية للقص فصاغتّها سليقتي التي تخلقت عبر قراءاتي القصصية المتنوعة من القصص الأجنبية والعربية، أما القصة العراقية فعرفتها لاحقاً, وقد نشرتُ تلك القصة النثرية في جريدة (كل شيء)الأسبوعية عام 1964وهي المرة الأولى التي أرى اسمي مطبوعاً في جريدة فكان ما كان ولم يسعني زمان ولا مكان .وهكذا سارت العربة خلف حصان القص الرهوان .

المشاهدات السينمائية الأولى على سطحيتها انبتتْ في نفسي ولعاً لمتابعة الأفلام سواء عبر شاشة التلفزيون التي توفرت فيما بعد لكل البيوت تقريباً أو من خلال دور العرض التي أصبحتُ قريبا منها بدخولي ثانوية تحيط بها عدة سينمات فكانت الستينيات حافلة بالأفلام المأخوذة عن الروايات العالمية ، وكانت هناك السينما الايطالية وواقعيتها الجديدة ،شغفتني، وحظيت ببعض من دي سيكا ،وفلليني وآخرين لم أتعرف على اسمائهم جيداً، شدتني الواقعية الجديدة باللقطة الحاضرة بقوة بتفصيلاتها، جزءاً جزءاً، شوارع تلصف أرصفتها تحت الأضواء الخافتة تصفعها قطرات مطر ترسم فقاعاتها على أديمها، شخوص يمرون مستظلين بمظلاتهم تسير معهم ظلالهم أمامهم أو إلى جانبهم أو وراءهم، الأضواء تتذبذب حولهم فالمصابيح مشنوقة بضباب شفيف كالغبش أو مناظر المنازل المتلاصقة في الأزقة الضيقة تتدلى من شرفاتها حبال الغسيل بأسمال ناس القاع المهملين في الزوايا الخفية أو المتكدسين على دكات البيوت اللانظامية، كأنها محاولة عنيدة للإمساك براهنية اللحظة، هذا ما أحسسته من تلك السينما وهذا ما تعلمته منها و ماتغلغل في سردي لاحقاً، السعي للامساك باللحظة الراهنة حتى لو كانت تلك اللحظة من الماضي، ليس لدي زمن سردي ماض، زمن السرد كله حاضر، وحتى المستقبل حاضر في الحاضر. في «الذكرى المئوية» استحضرت قرناً مستقبلياً لأضعه بين يدي الحاضر وكذلك مع قرن ماض قبل هذا الحاضر لتَمثل الأزمنة الثلاثة في زمن السارد وزمن التلقي.إنه تجسيد لتشابك الزمن بالتاريخ سردياً، حيث يغدو الراهن تاريخاً تارة أو يغدو مستقبلاً تارة أخرى ويدخل التدوين عنصراً فاعلاً في السرد.

*الحديث عن تداخل الازمنة واستحضار القرون الغابرة والقادمة يقودنا إلى استثمار التاريخ واستلهامه سرديا وهو ما طبع سردياتك خلال العقود المنصرمة وحتى الآن فكيف عشت خضم هذه التجربة ؟

-منذ ثمانينيات القرن الماضي ولجتُ مرحلة مهمة وجديدة في السرد باستثمار التاريخ بدءاً من الثلاثية القصصية (الذكرى المئوية، ذكرى القرون، خطاب القرون) والتي ضمتها مجموعتي القصصية ( الشركاء) عام 1988ثم روايتي (حكايات دومة الجندل )التي بدأتُ بنشرها في مجلة الأقلام جزءاً بعد جزءٍ ابتداءً من العام 1988حتى العام 1993عدا الجزء الأخير فقد نُشر في مجلة الأديب المعاصر في العام 1993 نفسه وكانت تجربة تعكس منهجي الخاص الذي أطلقت عليه الواقعية الإيهامية ومؤداه تخليق واقع نصي يوهم بحقيقيته التاريخية أو صدقية واقعيته اللاحقيقية، وهو ما ترسخ أكثر في روايتي (أزمنة الدم ) التي نشرتُ فصلها الأول وجزءاً من فصلها الأخير عام1994 في مجلة الأقلام ثم صدرت في كتاب عام 2016. ولم يكن اهتدائي إلى استثمار التاريخ هذا لأغراض شكلية حسب؛ بل كان ارتباطا بمفهوم تولد عندي أساسه النظر إلى التاريخ كوقائع مشكوك بحقيقيتها ومطعون بصدقيتها، وعُرفتْ هذه الافكار فيما بعد في كتابات منظرين غربيين مثل وايت وريكور إلا إنها لم تكن قد وفدتنا آنذاك ولم تكن مطروحة لا في الساحة العراقية ولا العربية وربما لم تتم ترجمات تلك التنظيرات حتى أواخر التسعينيات. إن مفهوم (الواقعية الايهامية) المصطلح الذي نحتُه آنذاك مساوياً أو مرادفاً للاصدقية التاريخ وزائفيته واختلاقيته, وبالتالي وهميته، عمدت إلى صنع تاريخ مظهري يوهم متلقيه بحقيقيته ليجاور التاريخ (المسطّر) الذي هو لديّ ولدى الكثيرمن منظري الغرب ثم العرب لاحقاً يعتوره اللاصدق والزيف والوهم أو الايهام.

*خلال أربعة عقود قدمت منجزاً يعتد به في كتابة القصة القصيرة والرواية ..لكن النقد لم ينصفك بعد ما خلا بعض الدراسات النقدية ..هل ترى الحركة النقدية في العراق عاجزة بشكل عام عن اللحاق بالسرد العراقي الذي هو آخذٌ بالاتساع؟

-لاأميل إلى التشكي والتظلم من النقد والنقاد واعتبر الكاتب ناقد نصه الأول لا أعني يبوئه المكانة التي يشتهيها؛ بل أعني أن يكون مقتنعا به وموفراً له الأسس النظرية للدفاع عنه وهذا يشترط توفره على قدر مناسب من الوعي النقدي. ومن قناعاتي في هذا الصدد والتي ثبتُها أكثر من مرة أن النص المكتنز بقيمه الجمالية والفكرية ليس مكتوبا لزمانه فقط؛ بل لأزمنة أخرى. وهذا هو معيار ديمومة النصوص أو تلاشيها زمانيا ومع أن كتاباتي لقيت تقويماً كبيراً من لدن نقاد كبار وحظيت باهتمام وحفاوة أفخر بها إلا أن هناك مشكلات بيني وبين بعض النقاد والكتاب حالت دون أن تأخذ ما تستحقه كاملا. أنا ممن يؤمنون بأن على الكاتب أن يمتلك وعيا نقديا كافيا ليفهم ما يفعل ويفهم العملية الابداعية كاملة من حوله بما فيها الحركة النقدية؛ بل أذهب إلى أبعد من ذلك وأدعوه ليسهم بما لديه من رؤى وأفكار وتصويبات للدفاع عن مثاله الفني ومناقشة كل منسربات العملية الإبداعية. وعلى وفق هذا التصور دخلت معترك مناقشات ساخنة مع معظم نقادنا المعروفين وعلى مدى كل العقود الماضية وقد تحولت تلك النقاشات إلى مساجلات حامية الوطيس وأحسب أن ذلك يترك شيئاً من الأثر في نفوس بعضهم يترجمه بالنأي والصد عن أعمالي وربما إلى المعاداة وسأضرب مثلاً واحداً على ذلك ولي عليه شهود عيان وثقاة في منتصف التسعينيات تقرر في اتحاد الأدباء أن تطبع ستة كتب: اثنان في السرد أحدهما مجموعة قصصية والآخر رواية واثنان في الشعر واثنان في النقد. وتقدمتُ بروايتي (حكايات دومة الجندل) للجنة المشكلة من اثنين من أبرز نقادنا وقاص متميز كبير واتفقت أن تلجأ في عملها إلى وضع نقاط لكل عمل من قبل كل عضو من أعضاء اللجنة وكانت الاسماء والعناوين محجوبة وفي نهاية العملية الحسابية حظيت (حكايات دومة الجندل) بالنقاط الأكثر من بين الروايات المقدمة فاعترض على النتيجة أحد أعضاء اللجنة وهو ناقد كبير وأكاديمي كبير وأصر على استبعاد روايتي والسبب لأني خضت معه مناقشة على صفحات مجلة الأقلام فندت آراءه في قضية نقدية حساسة كان يعول كثيراً على تمريرها وذهب بعيداً في لا موضوعيته وعدائيته للرواية أن طالب بارسالها إلى خبير فكري معلناً عدم استعداده لتحمل ما فيها وهو الأكاديمي الديمقراطي اليساري علماً بأن الرواية قد حصلت على إجازتها من الرقابة بفضل الاستاذ باسم حميد حمودي الذي له مآثر لا تنسى في الوقوف إلى جانب معاضدة الرأي الحر والإبداع القيّم. هذا مثال واحد على ناقد واحد ساجلتُه في مقال واحد فما بالك بمن ساجلته مراراً وتكراراً ؟

*في دراسة الناقدة نادية هناوي(منازع التجريب السردي في روايات جهاد مجيد) انك اتجهت الى التجريب السردي في منجزك الإبداعي في رواياتك الثلاث وحتى في أزمنة الدم الى أي مدى يمكن أن تدافع عن هذا الاختيار؟

-اختيار التجريب لا يحتاج دفاعاً فهو الذي يدافع عن نفسه بنفسه، وعلى العكس فهو تهمة على من لا يمارسه إن كان كاتباً جاداً وطموحاً. وقد قلت مرة – قالباً المعادلة الديكارتية - «أنا أجرب فأنا موجود» بمعنى أن التجريب دليل على حيوية استمرار المبدع لا استمراره حسب. والتجريب أهم العناصر في دفع الحياة إلى أمام وفي كل ميادينها، وكل الأشياء قيمتها في نتائجها إلا التجريب فقيمته في محاولته لا تقل عن قيمته في نجاح نتيجته، الهيابون من التجريب لا يمكن أن يخلقوا شيئا لافتا للنظر فلن يتميزوا قط .

بعد تخطي طور التكون والنشأة وجدت نفسي ميالا لأن أجرب ما لم يجرب فكنت أول من جرب إطار الحكاية الشهرزادية مطلع سبعينيات القرن الماضي في قصة « ليلة منسية من ليالي شهرزاد « التي ضمتها المجموعة القصصية المشتركة( الشمس في الجهة اليسرى) مع ثلاثة من الكتاب الشباب «أنذاك» وهم ناجح المعموري ,وفاضل الربيعي ,ومحمد أحمد العلي .

ولعلي الكاتب الوحيد من جيلي تجرّأ بطرح روايته الأولى قبل أن يصدر مجموعة قصصية, فقد كانت كتابة الرواية أمراً صعباً واصدارها مغامرة غير مضمونة النتائج لا يُقدم عليها إلا من تجرّأ وتمرس بطرح مجموعة أو مجموعتين في القصة القصيرة .اصدرت روايتي( الهشيم) ولم أكن قد نشرت أية مجموعة قصصية . وتلتها كتابة رواية ( تحت سماء داكنة) وهي تجربة في كتابة رواية تسجيلية عن مرحلة مريرة من تاريخنا العراقي استشرتْ واستشرست فيها الديكتاتورية وزمرها البوليسية. واخفيت الرواية طيلة زمن الملاحقات والاعتقال وعند نشرها اطلقت عليها اصطلاح الأدب السري وهو ما استغربه أحد كبار نقادنا فاستفسر عن ماهية الاصطلاح فأجبته انه ببساطة الادب الذي يكتب بعيدا عن أعين الأجهزة القمعية والتي لو ظفرت به فلا مصير لصاحبه إلا الأعدام . ثماني سنوات دامت فترة الملاحقات البوليسية من اواخر عام 1978 حتى اواخرعام 1986 ومن ثم الاعتقال فمحاولة التصفية تسميما بمادة الثاليوم .عاودت بعد الشفاء من أعراضها المرضية نشاطي الأدبي وبدأت بمحاولات تجريبية جديدة قي القصة والرواية جرى الحديث عنها وتقويمها من قبل نقاد او قصاصين لهم باع في النقد ولن اكرر الحديث عنها فهي أمور باتت معروفة .

*في رواية (دومة الجندل) اعتمدت لغة تراثية تضمنت أيات واحاديث قدسية وحتى الشعر العمودي هل كان ذلك بسبب طبيعة الأشخاص والأحداث؟

ليس الذهاب إلى الموروث غاية في حد ذاته ولا هو مجرد إجراء شكلي، لابد من رؤية متكاملة للتعامل معه رؤية له كمادة خام, ورؤية إلى طرق توظيفه ، الموروث بالنسبة لي مادة ماثلة للعيان ، ماثلة في الواقع الذي اعيشه، مختلطة بحيثياته. وسبل تعاملي مع الموروث هي ذات السبل التي اتعامل بها مع الواقع القائم ، المنطلقات ذاتها، وثمة رؤية واحدة للتعامل مع (الواقعين) لاني أحسب الموروث واقعاً حياً ، والنهل منه ومن الواقع الراهن بنفس الدرجة ولنفس الغاية والتي هي تخليق واقع نصي قوامه الالفاظ، الواقع النصي واقع ملفوظات، ومقتضيات التعامل مع الموروث كواقع حي البحث في موضوعاته المختلفة أي ملفوظاته واستقدامها وامعان النظر في تشكلها واستثمارها في التشكيل.

ولابد من الإشارة الى أن دومة الجندل استحضرت كل الملفوظات التراثية وغير التراثية وكل ضروب الأشعار العمودية والحداثية وحتى الشعبية .

*في روايتك(تحت سماء داكنة)كان موضوعها هجرة المثقفين والأدباء والتي شملت الحديث عن ذلك من خلال الدلالة الرمزية ابتداء من عنوان الرواية والذي هو البنية الاستهلالية, ماالذي تقوله عن هذه الرواية؟

-موضوع هجرة المثقفين هو ناتج عرضي في هذه الرواية وقف عنده باحث من جامعة اسطنبول هو الدكتور عبد الجبار محمد الغريري في بحث قدمه إلى مؤتمر عن أدب اللجوء والهجرة عقد في اسطنبول عام 2019 الموضوع الرئيس للرواية هو تسجيل الهجمة القمعية الشرسة التي شنتها الأجهزة الأمنية الصدامية نهاية السبعينيات على الشيوعيين واليساريين والتقدميين بغرض التصفية الجسدية أو التسقيط السياسي أو التشريد خارج الوطن. وقد التقط الباحث الغريري الأمر الأخير وتتبعه كباعث من بواعث الهجرة عن الوطن واللجوء الى المنافي . لقد كنتُ في آتون هذه التجربة واكتويت بنارها وعشت معاناتها مع رفاقي واصدقائي ومعارفي ، واجهنا شتى صنوف القمع والأساليب الوحشية , ودرأنا مخاطرها بكل ما نستطيع, ولم نستسلم لمشيئة الدكتاتور ولم نمكنه من فرض إرادته التعسفية التي حسبها يسيرة.

فتركنا وظائفنا وهجرنا منازلنا وتشردنا في المدن والقصبات والقرى سعيا إلى ملاذات آمنة من بطش النظام البوليسي وزمره المجرمة التي مارست أقسى صنوف التعذيب لمن سقط بيدها من المناضلين، كانت هجمة افظع واشنع من الهجمات الفاشية والنازية. وسط هذه الأجواء كتبتُ روايتي (تحت سماء داكنة) في ميدان أحداثها في عام 1979 أشرس أعوام الحملة حيث اشتداد ضراوة ماكنة القمع الديكتاتورية في القتل والتعذيب والملاحقة واشتدت معاناة المناضلين الذين أخذت تضيق بهم السبل ، وتنفد وسائل المواجهة ،هاموا على وجوههم إلى كل الملاذات المفترضة، ناموا في عراء الاماكن العامة.. في القطارات الليلية، في البنايات المهجورة لكن عصابات القمع الصدامية كانت توقع بهم واحدا تلو الآخر وتفتك بهم بلا رحمة حتى وجدت الشخصيتان الرئيستان في الرواية ـ أنا وزوجتي ـ وجدا نفسيهما وحيدين, مقطوعي الصلة بالرفاق وبالأهل, مختفيين في مكان يكتمان فيه حتى أنفاسهما؛ فشرعتُ حينئذ بكتابة الرواية، إنها رواية في الميدان، فاخترت لها التسجيلية منهجاً فنياً وهو ما يناسب مادة هذه المعاناة ، وعملت منها نسختين .تمكنت من تهريب أحداهما والاحتفاظ بالأخرى في مخبئي. وبعد سقوط الديكتاتور ونظامه البوليسي اخرجت نسختي المخبأة ونشرتها كما هي ضمن أعمالي الروائية التي صدرت في دمشق عام 2010وبعد ذلك باعوام وأنا في تركيا اتصل بي ولدي ليقول لي :أن شخصاً اتصل بي واخبرني بأنه يحتفظ بأمانة لي أودعها لديه أحد معارفه, ولما ذهب إليه ولدي سلمه نسخة رواية (تحت سماء داكنة ) التي هربتها فور كتابتها . وهذه الرواية مع رواية (العناكب) لشقيقي الكاتب الراحل نعمان مجيد هما الروايتان الوحيدتان اللتان سجلتا أحداث تلك الهجمة الوحشية نهاية السبعينيات في اتون وقوعها. وأطلقتُ عليهما (الأدب السري) فقد ظلتا في مخبئيهما ولم تُنشرا إلا بعد زوال النظام الديكتاتوري, وقد عملتُ على طبع رواية (العناكب ) ضمن منشورات اتحاد الأدباء وأخرت طبع (تحت سماء داكنة) حتى تمكنت من طبعها على نفقتي الخاصة.

*في العقود الثلاثة الأخيرة ازدهرت الرواية اعني من حيث شيوعها كتابة ونشراً..هل ترى ظروفا بعينها اسهمت بذلك، بحيث ازاحت الشعرعن عرشه كما يقال ؟

-وأزاحت القصة القصيرة أيضاً فهي الأخرى كانت أكثر حضوراً وأوفر حظاً نشراً ونقداً وبالتاكيد لا يمكن حصر الأمر بسبب واحد محدد ولا يمكن القطع بأي تفسير مهما بدا مقبولا لان الحالة تخالف تماما ما كان راسخاً عملياً ونقدياً بأن ازدهار الرواية في أي مجتمع يتطلب قاعدة مستقرة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وظاهر أحوالنا في هذه العقود الثلاثة الأخيرة لايوحي لنا بذلك ,لكني سأغامر بطرح رأي مفاده أن بنى مجتمعنا المتراصة والمتداخلة في بعضها لم تكن تسمح الا برؤية مجتزأة من كثافتها وهو أمر تنفع للتعامل معه القصيدة والقصة القصيرة.

بعد 2003حصلت تطورات دراماتيكية في الواقع ، ففككت بناه وعزلتها بعضها عن بعض ،وتفضفضت كثافتها، واتسعت طولا وعرضا ، وتباعدت الحدود بينها وصار الإلمام بكل بنية يتطلب جهداً كبيراً ولم يعد النظر الاجمالي كافيا للاحاطة بها اجمالاً؛ مما تطلب حركة أوسع زماناً ومكاناً وهذا ما توفره الرواية لاستيعاب دراماتكيةالواقع بخصائصها الدراماتيكية؛ تعدد الشخصيات، تعدد الامكنة ,الامتدادات الزمانية وتنوع الموضوعات الشخصية والعامة : بقايا الديكتاتورية،الاحتلال ، الطائفية، الكيانات الجديدة، وكل من هذه تتفرع وتتناسل وتتصارع مما لا تحيط به الاشكال والاجناس المكثفة فكان دور الرواية محتما ولو توفرت الامكانيات التقنية ربما لازدهرت الأفلام الروائية لكن هذه تتطلب جهداً جماعياً لا فردياً كالرواية .

يمكن إضافة دور السخاء المغري الذي قدمته جوائز الرواية لمنتجيها كتّاباً وناشرين في تحفيز الكثيرين على دخول ميدانها هواة ومحترفين متخصصين فيها أو غير متخصصين وفُسح المجال لهم فهب فيها من هب ودب فيه من دب واذكر هنا شرحاً موفقاً للكاتب المصري المجيد إبراهيم عبدالمجيد يشير فيه للانتقال الى الرواية من حقول شتى (انتقل إليها النقاد وكثير من الشعراء والصحفيين والسياسيين والمحامين ... ورجال دين قالوا سنكتب روايات والحمدلله لم يفعلوا .. فعلها واحد منهم فقط برواية لا معنى لها ولا قيمة) ويمكن أن نضيف الى قائمته مراهقات على مقاعد الدراسة الأولية وأيضاً متقاعدين او متقاعدات عن مهن لا تمت للكتابة الأدبية بصلة ؛ ولم لا يجربون فقد تحصل ضربة الحظ ويفوزون بقيمة الجائزة المغرية . فهؤلاء الذين هبوا ودبوا الآن وتوا في (الإبداع الروائي ) لم لا يغامرون ؟ وماذا سيخسرون ؟ فلا شيء يخشون على فقده ولا هم يحزنون ، خصوصاً مع وجود ناشرين جشعين يسيل لعابهم على مغانم الجوائز فيشترطون على كَتبتها مشاركتهم الغنيمة لكي يطبع لهم مئة أو مئتي نسخة ولا يكتفى بالاتفاق اللفظي فيتم النص عليه تحريرياً بالعقد الذي يمضيه الطرفان؛ الأول المغلوب على أمره المؤلف والثاني الناشر التاجر على أن يعود اليه كل مايتعلق بالمردودات المادية للمنشور إلا محتواه فهذا يبتلي به كاتبه بالتأكيد. لا ننفي وجود روائيين حقيقيين ومبدعين يواصلون مشاريعهم الروائية التي تشكل المستويات الرفيعة للرواية العربية وبعضهم فازوا بهذه الجوائز فلا بد ( من الطاقة باقة ) كما يقول المثل الشعبي . هناك كلام كثير في شأن الجوائز الروائية قيل بعضه ولم يقل معظمه.

* أنت بدأت في كتابة القصة القصيرة التي واجهت الانحسار مقارنة بالرواية على مستوى الادب العالمي لكن (نوبل ) أعادت الاعتبار للقصة القصيرة عندما منحت أليس ووكر جائزتها ، فهل عدد القراء سيزداد بسبب هذا التتويج العالمي لكاتبة لم تكتب إلا رواية واحدة وتفرغت للقصة القصيرة وراهنت عليها ، أجنبياً مكنها في النهاية من انتزاع لقب سيدة القصة القصيرة في العالم.

- قد يسهم هذا التتويج كما تفضلت بزيادة رقعة الاهتمام بالقصة القصيرة ولكنه ليس بالامر الحاسم في كثرة قراء القصة القصيرة أو انحسارها ؛ فالقصة القصيرة لها مكوناتها وخصائصها الجاذبة لنوع من القراء ، منها قصرها الذي لا يتطلب وقتاً طويلاً من قارئها وهذا مايناسب قارئاً معاصراً اتسمت حياته وتفصيلاتها المختلفة بالسرعة وضيق الوقت فيسعى الى فرصة عاجلة توفر له معرفة مكثفة لاتوفرها له الرواية بحجمها وطول الزمن الذي تستغرقه قراءتها .

الرواية تمتع قراءها بأتساع شبكة علاقتها وامتداد جوانب الحياة فيها لكن محصلة الكثافة في الحمولة الفكرية التي توصلها القصة القصيرة اسرع من الرواية مما يزيد من انشداد قرائها اليها ويوسع رقعة الاهتمام بها .

وخلال اكثر من قرن ضلت جائزة نوبل تمنح للروائيين والشعراء ولكن ذلك لم يؤثر على تطور فن القصة القصيرة ولم يحجمها ؛ فحتى أليس ووكر لها رصيد ادبي لا يستهان به من الشعر ولها رواية اخرى غير روايتها الشهيرة ( اللون الارجواني ) وهي ايضا معروفة بكونها من الناشطين في الدفاع عن حقوق الانسان والحريات العامة وبالاخص حقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة . لعل كل ذلك كان متمما لجهودها في مجال القصة القصيرة التي لن تفقد ضرورة استمرارها وشرعية وجودها لأسباب استهلاكية او ترويجية دعائية ، فعلى الرغم من ضيق سبل نشرها وقلة حركة ترجمتها من لغة الى أخرى نجد التطورات الفنية في المتن القصصي القصير اسرع منه في المتن الروائي فالأخير يستقي من الأول مستجداته.

القصة القصيرة هي المختبر لمعظم وسائل التجديد والتجويد والابتكار في الرواية والتي بمرور الوقت أخذت تتخلى عن كثير من سماتها مستعيرة من القصة القصيرة سمات لم تكن تتصف بها وأولها كثافة السرد وكثافة لغته والتخلي عن الطول المفرط لمتونها والاقتراب من القصر كلما وجد الروائي ذلك ممكنا . لذا ظهر ما أطلق عليه (نوفيلا ) وانتشر والأمثلة الساطعة عليه مثل : صمت البحر لفيركور والمسخ لكافكا وليس للكولونيل من يكاتبه او حكاية بحار غريق أو موت معلن لماركيز وعربياً نذكر : خاتم الرمل وبصقة في وجه الحياة للتكرلي ولكنفاني ماتبقى لكم وعائد من حيفا وسوى ذلك الكثير.

* السنوات الأخيرة اقمت في تركيا ..هل تطلعنا على السبب في هذه الهجرة الطوعية وهل كان لها أثر كبير فيما تبدع؟

فعلاً إن هجرتي طوعية, وأسبابها شخصية محضة, أما تأثيرها إبداعياً فهو ملموس كمياً ونوعياً.