رواية أزمنة الدم لجهاد مجيد ..أسطرة المكان وإستدارة الزمان

Wednesday 21st of September 2022 11:49:29 PM ,
5269 (عراقيون)
عراقيون ,

نادية هناوي

في مقالة بعنوان( رواية أزمنة الدم الأسطورة والجسد) للدكتور قيس كاظم الجنابي تم تناول الاثر الأسطوري في بنائية الرواية أعلاه، لكن الملاحظ على هذا التناول بعض التسطيح القرائي وعدم الدقة في الطرح الإجرائي من ناحيتي المبنى والمحتوى مما أفضى إلى اللا فاعلية النقدية في تلمس التوظيف الأسطوري ودوره في تعضيد الفاعلية السردية للرواية سواء أكان ذلك في تناول كاتب المقال لدلالة العنوان( أزمنة الدم) أم في وقوفه على مدلولية المتن الروائي داخليا وخارجيا.

وهذا التقصير في الفعل القرائي عائد أصلا أما إلى التغافل القرائي عن دراية ومقصدية، وأما راجع إلى التراخي وربما التهاون في لململة خيوط اللعبة السردية، الأمر الذي تسبب في خوار الهمة في استكناه الأغوار وفك التلغيزات التي لا تعطي نفسها لقارئها بيسر، كما لا تتكشف بطائعية لمن يروم ممارسة النقد عليها..نظرا لتعقد الحبك السردي الذي انتهجه كاتب الرواية..

ولقد غابت عن ذهن كاتب المقال حقائق واختلطت عليه رؤى وتسطحت لديه الثيمات بطريقة ملتبسة وغير مفهومة.. من ذلك تمثيلا لا حصرا ادعاؤه أن الإقطاع هو موضوعة الرواية وأن ما وراء السرد يخرج عن متن الرواية ولذلك تشتت استثمار النصوص أو أن النص يحاكي ما فعلته الآلهة حين أحدثت الطوفان أو أن فكرة الدم تشير إلى نص مركز رواه الكاتب في نهايات الرواية أو أن ناشبيال اغتصب ايسولا ..وغير ذلك من التقولات الواهمة أو الموهومة.

ولو تعمق كاتب المقال قليلا وبذل جهدا أكبر في تتبع المخاتلة السردية في الرواية، لما وقع في هذا الاضطراب الموضوعي وذاك التفكك الفني. ولأتضح له أن الالتباس السردي الذي اعتقده في الرواية، إنما هو في الحقيقة التباس في الفهم القرائي وتشتت في الرصد التحليلي.

ولا خلاف أن الناقد ـ أيا كان أدبيا أو ثقافيا أو تشكيليا أو سينمائيا ـ حين يروم ممارسة الفعل النقدي تحليلا أو تفكيكا أو تأويلا؛ فان أهم متطلبات هذه الممارسة هو التحلي باستراتيجية قرائية محددة يسير الناقد على هديها ويستضيء بخطواتها منقبا وباحثا ومستجليا كي يؤدي الوظائفية النقدية المنوطة به وإلا فليعتزل النقد .

فكيف مثلا نسوّغ للناقد الذي ضرب تنظيرات بويون وجينيت عرض الحائط، عدَّه السارد هو نفسه الكاتب الذي كتب الرواية، أو كيف نبرر له عدم فصله بين متن الرواية السردي من الداخل، وإشاراتها الميتا ـ سردية من الخارج، أو ذهابه إلى أن الإشارات حقيقية تتعلق بمرحلة مهنية كان الروائي قد زوالها..!! مع أن هذا الناقد كان قد أشار الى أن الحلم بنية تم استثمارها بشكل واع في الرواية.

دقة الناقد

ثم كيف نستطيع أن نتفهم دقة الناقد وموضوعيته وهو يجد أن (الفكر السياسي الذي يحيط بهذه الرواية يبدو فكرا واضحا ) وأن عملية( الربط بين الماضي والحاضر تبدو فجة دفعت المتلقي إلى الشعور بالتشتت)

والأدهى من ذلك كله ربطه ترتيب حركية الأزمنة في الرواية باضطراب الاتجاهين السردي المباشر والسردي الداخلي بالمونولوجات والسرد التفسيري واسطرة الشخصيات والأحداث.

إنَّ هذا الذي وقع فيه كاتب المقال للأسف هو فضلة قراءة لم تستند إلى مرجعية ومحصلة اجترار نقدي لا يرى في السرد نظريات تجدده باستمرار، او محددات تسوغ مفاهيمه وتؤطر اصطلاحاته وتوضح اتجاهاته ومساراته. . ناهيك عن كون ما تقدم، هو استنتاج متأت من عزوف كمي ونوعي عن التقاط الأبعاد التوثيقية للتوظيف الأسطوري في الرواية العراقية وهو ما أوقع الناقد في خطأ التصيد للتوظيف الاسطوري ما بين رواية( أزمنة الدم) التي نشر فصلاها الاول وجزء من الفصل الاخير في مجلة الاقلام بداية العام 1994 وبين رواية( الأبجدية الأولى) التي نشرت العام 1996 .

وعلى الرغم مما تقدم، فإننا لا نعدم أن نجد عند الناقد وقفات جميلة كتأويله لرمزية حرق الكتب وسرقة الآثار واغتصاب السلطة ومدلولية الطقس المقدس في زواج الملك ناشيبال.

وليس خافيا أن المبدع عموما والكاتب الروائي تحديدا لا يكتب من فراغ وإنما هو يكتب وقد استظهر بعدا فكريا معينا أو استثمر رؤية فلسفية خاصة ومحددة، بإزاء الواقع والحياة ليعبر عنها في الكتابة الروائية والقصصية بشكل واع أو غير واع وبصورة مقصودة أو غير مقصودة.

ومن هنا لن تتحقق لأي عمل كتابي شعريا كان أو نثريا الولادة الإبداعية ما لم تكن له أرضية واقعية يحاكيها بالأشكال الواقعية كلها نقدية أو اشتراكية أو جديدة أو بنائية أو سحرية أو غرائبية أو إيهامية أو هدامة..الخ

هذا من جانب ومن جانب مماثل؛ فإن أهم ما يمدُّ الناقد الهاضم للنظرية السردية أو حتى الطارق لها والمحاول التمسك ببعض تلابيبها هو ارتكانه بالأساس أو بالتثنية على المنظورات الفلسفية التي تفتح له آفاقا رحبة للتأويل والرصد المبنيين على إستراتيجية قرائية وبمقصدية نقدية أهم سماتها الحياد والاتزان والموضوعية.

البناء السردي

وواحدة من أهم الفلسفات ما بعد الحداثية التي لها صلة بمدلولية البناء السردي في رواية (أزمنة الدم ) الفلسفة الظاهراتية وتحديدا رؤيتها المستديرة لميتافزيقيا الوجود بحثا عن الحقيقة وارتهانا بالأفكار الواعية، عبر نوعين من المخيلة( المخيلة الصورية والمخيلة المادية).

لتحفر هذه المخيلة من ثم في» عمق الكون التي تبغي أن تكشف البدئي والسرمدي معا.. أن تهيمن على العارض وعلى التاريخ".

وتعد الرؤية الاستدارية من الموضوعات الأثيرة في الفلسفة الظاهراتية والتي نجدها قد شكلت عند جهاد مجيد المحور الموضوعاتي الذي دارت حوله روايته (أزمنة الدم)..

وإلا ما كان الزمن عبارة عن أزمنة. ولما صارت هذه الأزمنة بمجموعها الغابر منها والسحيق، دائرة في دوامة (الماضي ـ الحاضر ـ المعاصر ـ الراهن) مصطبغة بدورانية دموية وازدواجية حلمية /واقعية، وجاذبية مغناطيسية يتماهى فيها الداخل بالخارج وينادم فيها الزمان المكان» اختفت آثار الزوار وبقيت منهم نتف متناثرة؛ بقايا طعام, قشور فواكه, أعقاب سكائر, علب فارغة, ورق بألوان مختلفة ..آثار أقدامهم على الرمال .. هل تصمد آثارهم للزمن صمود هذا الصرح التاريخي الشامخ ؟؟ اختفوا... كأن قوة سحرية سحبتهم فجأة فأخلت المكان منهم كما أخلته من الذين من قبلهم “

وهذا ما يؤكده غاستون باشلار بالقول:» إذا ما خضعنا للقوة المنومة مغناطيسيا لمثل هذه التعابير فسوف نجد أنفسنا فجأة وبشكل كلي في استدارة هذا الوجود “

وهذا ما تحمله بنائية الفعل السردي في رواية( أزمنة الدم) وقد تقصَّد كاتبها جهاد مجيد تمثيل ازدواجية التعايش مع الوجود من الداخل والخارج من خلال فضاء متسع من الأحلام والرؤى والتخيلات الايهامية.

المرشد الآثاري

ولهذا كان البطل /المرشد الاثاري والذي هو السارد المركزي في الرواية معايشا أزمنة عكستها أشياء المكان التاريخية الغابرة ممثلة بالصرح العتيد بقمته المستدقة والمعبد التليد بصخوره الصماء ودكة المذبح المقدسة والموكب المهيب والأعمدة الاسطوانية والبهو الواسع المتهدم الأركان، جنبا إلى جنب أشياء المكان الحديثة ممثلة بـ(الكازينو المهجور والورقة السمراء والكتب المودعة) ليكون المكان هو البؤرة المركزية التي ستدور حولها الأزمنة جميعها وبذلك يكتمل بناء المشهدية السردية.

ويظل الالتفاف والانطواء يتخللان حركية الأحداث كما تشكل الزوايا والأركان خصوصية مكانية لحركية الشخصيات في فضاء من التناهي ما بين الصغر والكبر والداخل والخارج والمفتوح والمغلق والزمان والمكان والقديم والحديث» الآثار آثار أينما تكن فلا بد من اقتفاء آثارها» « صرح تليد ومبنى جديد الأول ضارب في القدم والآخر ينحني مستخذيا أمام الأول.. “

وفي تمثيل التاريخ أو ما قبل التاريخ؛ تصبح هذه الدائرية المكانية مترافقة مع استذكارات حلمية» المكان يسيل عذوبة ..وهكذا كان في سالف الأزمان» ويكون المكان أبقى ثباتا من الزمان ولذلك تتعدد الأزمنة بينما يظل المكان واحدا ..

وإذ يجسد الزمان خطية الذاكرة التي نهايتها التحطم والموت؛ فإن المكان يجسد دورية الحلم حيث لا نهاية لاستمراريته كون» الذاكرة لا تسجل استمرارية واقعية بالمعنى البرجسوني"

ولان الذاكرة المكانية عند السارد ذاكرة مؤسطرة بالحلم ومنغلقة عليه، لذلك كان الحلم التقانة الأكثر توظيفا في الرواية والتي ساعدت على أن يكون الحلم هو القاع الذي سيحفر عبره السارد في عمق الزمان كقوة مغناطيسية تجذبه، لتتجلى له أزمنة الخوف والتوجس والدم.

وهذا ما ولّد اسطرة مكانية يتجادل فيها» مزيج من الذاكرة والأسطورة وهذا يعني أننا لا نعيش الصورة بشكل مباشر..إن لكل صورة عظيمة عمق حلمي بعيد الغور يضيف إليه التاريخ الشخصي لونا خاصا"

والمكان بإشكاله( المهجور والمأهول / المفتوح والمغلق) إنما يجادل الزمان وينادمه، عاكسا جدليات أخر، منها جدلية( القوة والقوة المضادة وجدلية الأجساد المغرية والعظام النخرة وجدلية العصور المندرسة والأمكنة المزورة والمشوهة وجدلية التواري والظهور ما بين الحلم واليقظة) ..

ولذلك تختلط رؤية عداي الخليف برؤية أيسول الصياح» عداي في ظاهره وباطنه إنسان بدائي..كأن آلاف السنين التي مرت على البشرية نفذت نفوذ الهواء في انانبيب مفتوحة الفوهات» ويصير الشيخ سهيل الغضبان صورة ثانية عن ادبون ناشيبال و» ينطلق عويل الوتر اليتيم ينتشر في الفضاء الشاسع هل يبحث عن تراتيل المعابد القديمة ليمتزج بأنغام القيثارات الاورية"

وتزود هذه الجدليات السرد بالدرامية، كما انها تجعل البؤرة المكانية محملة بكم هائل من التساؤلات المونولوجية بازاء الزمن/ التاريخ والتي تنثال على لسان السارد بضمير الأنا بشكل متتابع ومستمر ولا سيما في الفصل الأول، فيتوجس من التاريخ الرسمي ويشكك بمن يكتبونه وأنهم ما نقلوا لنا إلا ما أراده المنتصرون. فنقل زكنون اليمار لنا ما أراد ناشيبال أن نعرفه عنه، ليكون التاريخ هو تاريخ زكنون اليمار وليس تاريخ الوقائع مثلما جرت ووقعت في الحقيقة..

ويظل هذا التزييف يشغل السارد بالأسئلة» ألم يجلب ملوك ميزوبوتاميا الفتيات من شتى بقاع الأرض؟» و» أي عين رأت ذلك؟ حساب الزمن ..مضي العصور لن تكون سوى إغفاءة في جفن الغوابر من العصور"

وبذلك تؤكد رواية( أزمنة الدم) مصداقية التفكر ما بعد الحداثي لمفهومي المكان/ الزمان وتجلياتهما الفلسفية المؤسطرة، وفي مقدمتها أن التاريخ ما عاد علما أساسه الوثائق وبغيته المدونات وإنما هو مسرود كسائر المسرودات القصصية أو الحكائية التي يطالها الحلم والخيال كما يطالها الإثبات والتحقق.

فهرس الاحالات

الماء والأحلام دراسة عن الخيال والمادة ،غاستون باشلار، ترجمة د. علي نجيب ابراهيم، تقديم ادونيس ،المنظمة العربية للترجمة والنشر، بيروت، طبعة أولى، 2007 / ص13ـ14

أزمنة الدم رواية، جهاد مجيد، دار الرافدين للطبع والنشر، بيروت، 2016/ ص2

جماليات المكان، غاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، طبعة ثانية، 1984 /ص 208 .

الرواية ص8

الرواية ص9

الرواية ص10

جماليات المكان/39

جماليات المكان/ 57

الرواية ص13

الرواية ص14

الرواية ص12

الرواية ص.16