ثلاثية البريطانية هيلاري مانتل تكشف أسرار هنري الثامن

Wednesday 28th of September 2022 01:03:55 AM ,
5273 (منارات)
منارات ,

لنا عبد الرحمن

لعل أول ما يلفت النظر في صور الكاتبة هيلاري مانتل، التي رحلت أول من أمس عن عالمنا، لون عينيها الحادتي الزرقة. عينان نفاذتان تكشفان عن موهبة فطرية لسرد ​​القصص، والنبش عنها في قلب تاريخ عتيق ومعتم.

غادرت مانتل هذا العالم بهدوء، بلا صخب، تماماً كما عاشت حياتها مكتفية بالكتابة ومبتعدة عن الوسط الثقافي البريطاني. كتبت أعمالها الأولى من ذاكرة معيشة حول زمن قريب عرفته، لكنها حققت بصمتها الإبداعية عبر الارتحال نحو القرون الوسطى. تتبعت أشباح الماضي البعيد وأعادت بناء حقبة اتسمت بالتعصب الديني والإنسانية الناشئة، ثم كتبت بجرأة من يريد المعرفة والمواجهة والإدانة والفوز.

ولدت مانتل عام 1952، وبدأت حياتها الإبداعية في الثالثة والثلاثين من عمرها مع رواية “كل يوم هو عيد الأم”، استوحتها جزئياً من تجاربها الخاصة كمتطوعة للعمل الاجتماعي في مستشفى للمسنين. تنتمي الرواية إلى عالم الكوميديا السوداء، وتدور أحداثها في منتصف السبعينيات مع الأرملة إيفلين التي تكتشف أن ابنتها المعوقة عقلياً حامل، ويكون عليها التعامل مع هذا الحدث الجلل.

كتبت مانتل خلال رحلتها الإبداعية الطويلة نسبياً، المقالة والقصة وعديداً من الروايات، لكنها حازت شهرتها الكبيرة من الثلاثية التي دونت فيها سيرة توماس كرومويل، مستشار الملك هنري الثامن، الذي تفصلها عنه زمنياً قرون عدة، فقد بيعت ملايين النسخ من هذه الثلاثية، التي أخذت من الكاتبة خمسة عشر عاماً لتتمكن من إكمالها.

الجائزة وقوة الشغف

هل يمكن القول إن ثمة علاقة بين فوز مانتل بجائزة مان بوكر مرتين وقوة شغفها بالاقتراب إبداعياً من حياة السير توماس كرومويل؟ فالفوز مرتين في عام 2009 عن الجزء الأول من الثلاثية «قصر الذئاب»، ثم في عام 2012 عن «أخرجوا الجثث» سابقة من نوعها بالنسبة إلى كاتبة.

يمكن العثور على الجواب عند مانتل التي اعترفت أنها لطالما صادقت الأرواح منذ طفولتها، ولا ريب أن تكون روح السيد كرومويل من ضمن إحدى الأرواح الهائمة التي رافقت الكاتبة وألهمتها بالثلاثية الشهيرة، التي نشرت آخر جزء منها عام 2020 تحت عنوان “المرآة والضوء».

في مذكراتها “التخلي عن الشبح” تستعين مانتل بمقولة القديس أوغسطين حين يقول “إن الموتى غير مرئيين لكن هذا لا يعني أنهم غائبون”. اعتبرت مانتل أن رواياتها التاريخية منجزات هائلة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنها تعيش في الأفكار والتجربة الروحية والحسية لشخصياتها بشكل كامل، كما لو كانت بلا جسد. في كتابتها للثلاثية تسللت إلى ذهن توماس كرومويل وجذبت القارئ معها، ثم استبقته كما لو أنه طيف خفي تحمله على كتفيها، كي يرى من خلال عينيها ما عاشه السير كرومويل.

اختارت مارتل الكتابة عن مرحلة شائكة من التاريخ الإنجليزي عام 1520، حيث ذروة الصراع بين الملك والكنيسة. إنها الحقبة التي عاش فيها الملك هنري الثامن، وشاع عنه سوء الطباع والتهور في اختياراته وحبه للنساء واضطراب حياته الشخصية وقراراته السياسية.

تأخذ الروائية قارئها في ملحمة تاريخية طويلة إلى قلب مجتمع أوروبي في حال اضطراب كامل، لتدمج بين التاريخ والسياسة والعواطف والمصائر الفردية والمؤامرات المختلفة والصداقات الزائفة والتواطؤ والوعود وصعود بعض الشخصيات إلى مناصب رفيعة وانحسار آخرين لأسباب لا طائل منها. الملك هنري الثامن يحتاج إلى وريث لعرشه، إذ في حال موته بلا وريث فسيكون مصير البلاد اندلاع حرب أهلية. هو متزوج منذ عشرين عاماً من كاثرين آراغون، لكنه وقع في غرام آن بولين، ويريد الحصول على الطلاق من أجل الزواج منها. في وسط هذه الأزمة يظهر توماس كرومويل (1485-1540) الذي سيغير تاريخ إنجلترا إلى الأبد.

في الجزء الأول من الرواية نكتشف الصعود الاجتماعي لكرومويل، إنه شاب طموح، انتهازي، سياسي بارع ومتلاعب. أتى من طبقة اجتماعية دنيا لكنه يتمكن من الصعود إلى أعلى وظائف المملكة، بل وتكوين صداقة وثيقة مع الملك هنري ومساعدته على التخلص من معارضيه، من أجل تطليق زوجته الشرعية كاثرين والزواج من خليلته آن بولين.

من المعروف أن قصة هنري الثامن مع آن بولين تم استلهامها في أكثر من عمل سينمائي ودرامي، وقد تمت الاستعانة برواية مانتل “قصر الذئاب”، بسبب احتشادها بالتفاصيل التاريخية الدقيقة التي لم يأت ذكرها في أي عمل إبداعي آخر. والجدير ذكره أن الرواية التي تم تعريبها بقلم زينة إدريس، وصدرت عن “الدار العربية للعلوم، بيروت” تبلغ 324 صفحة، مكتوبة بصوت الراوي العليم، وتطول فيها الحوارات لعدة صفحات، يتداخل فيها الوصف والسرد والحوار، مما يسبغ على أسلوب الكاتبة صفة السرد الكلاسيكي. وهذا لا يعود فقط إلى طبيعة الموضوع التاريخي، بل إلى تجنب مارتل التكلم بضمير الأنا عن شخصية كرومويل، على رغم انحيازها الظاهر له، وإعجابها بشخصيته. إلا أن لغة السرد محايدة في هذا الجزء على رغم السرعة في الأحداث وتوترها، وقدرة الكاتبة على الغوص في أفكار توماس كرومويل المعقدة والمضطربة. يتضح أيضاً في سرد مانتل تأثرها بالأساطير الإغريقية وتضمين الرواية بعضاً منها، للدلالة على الفكرة الرئيسة التي تريد تناولها، لنقرأ “كيفما نظرت إلى القصة ترى أن كل شيء بدأ بالقتل، حكم بروتوس الطروادي وسلالته حتى مجيء الرومان، وقبل أن تسمى لندن مدينة لود، كانت تدعى طروادة الجديدة، وكنا طرواديين. يقول البعض إن آل تيودور يتجاوزون هذا التاريخ الدموي والشيطاني، وينحدرون من بروتوس، عبر سلالة قسطنطين ابن سانت إيلينا».

«الاسم الذي اختاروه لنا مهم، ولكن الأكثر أهمية ذاك الاسم الذي نصنعه لأنفسنا. أولئك الذين فقدوا أسماءهم يرقدون قتلى في ساحة المعركة، مجرد جثث بلا هوية ولا نسب، لا أحد يبحث عنها، تظل بلا ترانيم أو صلوات لها».

في الجزء الثاني من الثلاثية «أخرجوا الجثث» تنقل مارتل القارئ إلى داخل بلاط هنري الثامن، ونراه من خلال عيون مستشاره الأقرب توماس كرومويل. تواصل الكاتبة تتبع حياته، وكيف أصبح الذراع اليمنى للملك. تبدأ الرواية بدلالات رمزية مع صور للحيوانات: صقور توماس التي سماها على أسماء بناته المتوفيات. توماس يقيم مع الملك خلال الصيف والخريف في قصر الذئاب، لتجنب الأمراض التي تظهر في لندن خلال الأشهر الأكثر دفئاً. ولا تزال أزمة الملك مستمرة في عجزه عن الحصول على وريث بعد سبع سنوات من الزواج من آن بولين، كما أنه غير سعيد وغير راض. لم تنجب آن بعد وريثاً ذكراً، والملك أصبح يجدها شخصية مثيرة للجدل ومرهقة بسبب عصبيتها وانفعالها. أصبحت الروح الحادة والاستقلالية التي جذبته إليها في البداية السبب لسقوطها في عينيه. لذا يقرر هنري الثامن التنصل من زوجته الثانية ويناشد توماس كرومويل بتنظيم محاكمة لها للتخلص منها بتهمة الخيانة وزنى المحارم.

رحلة السقوط

سجلت مارتيل في الجزء الثالث من الثلاثية «المرآة والضوء» رحلة سقوط توماس كرومويل، التي تغطي السنوات الأربع الأخيرة من حياته، من عام 1536 حتى وفاته بالإعدام عام 1540، ومثل سائر أجزاء الثلاثية حقق هذا الجزء نجاحاً كبيراً، وتم تصنيفه ضمن أفضل 13 كتاباً صدر عام 2020، ونالت عنه الكاتبة جائزة والتر سكوت للأدب التاريخي، على رغم النقد الذي وجه لهذا الجزء بأنه لا يوجد فيه صراع مركزي بخلاف الجزأين السابقين، إذ تم إعدام آن بولين وعشاقها المفترضين، وأصبح هنري الثامن أرملاً يستعد للزواج من عشيقته الجديدة جين سيمور. وسط حياة الملك المضطربة تبدأ الوساوس حول توماس كرومويل الذي ساعد الملك في تحقيق مآربه، ثم تتشابك الأحداث وتدور الدوائر على كرومويل ويأفل نجمه حتى ينطفئ.

تميز هذا الجزء أسلوبياً باعتماد الكاتبة على تيار الوعي والكشف أكثر عن العالم الداخلي للأبطال، بخاصة مع بطلها المفضل كرومويل الذي تستعين بأكثر من أسلوب سردي للكشف عن رؤيته للحياة، واقعيته واضطرابه، والأهم إحساسه بالندم. عطفاً على إضاءة تفاصيل إنسانية في شخصيته بدت أكثر وضوحاً مع الجزء الأخير، مع تساؤلاته حول القصاص والعدالة والموت. لم يجعل موت آن بولين موقعه أكثر أماناً، بل على العكس تسبب في نهايته. الرواية مليئة بالمفارقات الدرامية على لسان الأبطال، كأن يقول السفير الإمبراطوري تشابوي لكرومويل “في اللحظات الحرجة سيقال إنك ابن الحداد. وتعتمد حياتك كلها على النبض التالي لقلب هنري، ومستقبلك على ابتسامته أو عبوسه».

وفي مشهد آخر عندما أصيب الملك وظن الجميع أنه ميت كانت غريزة كرومويل تقوده للفرار، لكنه الشخص الوحيد الذي يجرؤ على وضع يديه على الملك وإعادته إلى الحياة، لحظتها يزعم خادمه الفرنسي كريستوف أنه أمسك بالملك وصاح في وجهه «تنفس، أيها اللعين، تنفس!». تحفل الرواية بعديد من هذه الأمثلة التي تعتمد على المفارقة النفسية في مقاربة الأحداث.

لعل المتأمل في ثلاثية مانتل سيتوقف عند شغفها بإماطة اللثام عن الماضي، الاقتراب منه والتمعن به في الظلام وتحت ضوء الشمس على حد سواء، لتتمكن من رؤية أدق التفاصيل التي تغيب عادة عن رؤية الآخرين.

عن الاندبندنت عربية