طارق الربيعي رائداً لأول عرض دمى مسرحي موجّه للكبار

Wednesday 5th of October 2022 11:45:13 PM ,
5278 (عراقيون) (نسخة الكترونية)
عراقيون ,

د. زينب عبد الامير

كلنا يعلم من الذين عاصروا المشهد الفني والثقافي للنصف الثاني من القرن العشرين، ما قدّمه الثنائي الراحل طارق الربيعي وانور حيران للتلفزيون والمسرح في مجال فنون الدمى من برامج وعروض مسرحية استقطبت الاطفال والكبار على مدى خمسين عام بدءاً من تأسيس تلفزيون العراق عام ١٩٥٦،

تاريخ طويل حافل بالمنجز الفني يستحق منا كل الثناء والتقدير، وبقي ما قدّماه الثنائي من فن راسخاً في وجدان وذاكرة المشهد الثقافي والفني، بل كان ممهداً وملهماً لما لحقه من تجارب فنية في حقل فنون الدمى، الاّ ان البعض وصف هذه التجارب المهمة انها تجارب بسيطة مارسها هواة باجتهادات شخصية متعثرة، وهنا لابد لي ان اقف واعرج على ما قيل وما زال يقال حتى يومنا هذا …

ان كان البرنامج التلفزيوني المشهور (القرة قوز) الذي كان يقدّمه ويعدّ فقراته ويصنع دماه ويحركها الثنائي، هو تجربة بسيطة وعابرة، فلما استمر عرضه إذاً لما يقارب الخمسين عام !؟ لما نال الثنائي (الربيعي و حيران) استحسان الاطفال والكبار معاً آنذاك من خلال ما قدّمه من مسرح وتلفزيون !؟ نعلم ان التخصص عبر الدراسة مهم وانا من انصاره ولكن المهارة والتخصص عبر التدريب المستمر فضلاً عن الموهبة اهم، فكلاً من الربيعي وحيران يمتلكان من المهارة والموهبة التي افتقدها ويفتقدها الان الكثير من الذين يطلقون على انفسهم فنانين مختصين !! اذ نرى الفنان طارق الربيعي كان ممتلكاً لموهبة الغناء وتقليد الاصوات ومهارة تحريك الدمى وصناعتها فضلاً عن موهبته ومهارته في الاعداد والتأليف ومنجزه يشهد له بذلك، كما ان انور حيران كان يمتلك مهارة صناعة الدمى وتحريكها فضلاً عن موهبته الربانية في تقليد طبقة صوت الاراجوز المصري دون الاستعانة بالأداة التي يطلق عليها ب(الزمارة) وشهد له بذلك الفنان طارق الربيعي والفنان المصري محمود شكوكو من خلال العديد من اللقاءات التي جمعتهم داخل العراق وخارجه في جمهورية مصر العربية.

وفضلاً عن ذلك كله لم يكن لهذا الثنائي من داعم حقيقي، ولم يكن قبله ممن يمتلكون الخبرة في مجال فنون الدمى على مستوى التصميم والتنفيذ والتحريك والتقنيات الاخرى كي يستفيد من خبرتهم، ومع ذلك استمر الثنائي يؤسس لمسارات فنية اقل ما يقال عنها انها رائدة كونها سابقة لزمنها في العراق وأعني هذه الجملة !!

كما اتسائل واوجه لوماً كبيراً لكل من قلّل ويقلّل من قيمة ما قدّمه الثنائي من منجز فني على مدار عشرات العقود، لماذا لا نفخر بمبدعينا من الفنانين الفطريين عبر التاريخ اسوة بأشقائنا العرب؟ فنجد الفنان المسرحي المصري الدكتور نبيل بهجت احتفى وبفخر بشيخ لاعبي الأراجوز صابر المصري المشهور ب(عم صابر) بوصفه عضوًا مؤسسًا من اعضاء فرقته المسرحية (فرقة ومضة لخيال الظل والاراجوز المصري) فضلاً عن التكريمات التي نالها عم صابر سواء من الهيئة العربية للمسرح عام 2015م، ومن الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة عام 2016م و غيرها من التكريمات، والسر في ذلك هو محبة واحترام وتقدير الجمهور المصري من النخبة والعامة لفنون عم صابر وعشق الأطفال له، وكذلك نمر على تجربة الفنان المسرحي مؤسس فرقة (مسرح صندوق العجب) في فلسطين، الفنان (عادل الترتير) الذي استمرت مسيرته الفنية في العطاء لأكثر من خمسين عام، ويشهد له الكثير لما قدّمه من فن هادف عبر صندوقه العجيب (صندوق العجب) وهو مسرح متجول ليس له عنوان ويعيش بين الناس وبخاصة الفقراء، وغيرهم كثير من الفنانين الذين وهبوا حياتهم للفن بإخلاص بل ان اغلبهم ومنهم الفنان الراحل طارق الربيعي كانوا ينفقون على اعمالهم من جيبهم الخاص حرصاً منهم على تقديم كل ما هو مبهر وقيم.

ولكي لا ابتعد كثيراً عن فحوى ثريا النص بِعدّ الفنان الراحل طارق الربيعي رائداً لأول عمل دمى مسرحي موجّه للكبار، فسأستعرض في بادئ الامر بعض معاني مفردة الريادة في معاجم اللغة، منها انها عملية انشاء شيء فريد له قيمة، والرائد هو كشّاف، اول من ينطلق في مشروع ويقتحم ميدان عمل، من يشق طريق التقدم ويمهد السبيل للأخرين... ولو اسقطنا هذه المعاني على اهم او مجمل ما استطعت ان احصل عليه من معلومات قمت بتسجيلها للفنان طارق الربيعي ووثائق تاريخية ورقية وصور عبر زياراتي المستمرة له قبل تردي وضعه الصحي، وما حصلت عليه من الذين عاصروه، لوجدنا ان كلاً من الربيعي وحيران كانا رائدين في فنون الدمى على مستوى التلفزيون والمسرح، كما ان ما جادت به عليّ دار الوثائق الوطنية من ارشيف ورقي وثّق الكثير من الاحداث والوقائع التي نحن بأمس الحاجة اليها الان حفاظاً على مصداقية التاريخ !! كان لها الفضل الكبير في تقصي الحقائق بهذا الشأن !! لاسيما في عصرنا الراهن الذي يشهد من يزيفون الحقائق وينسبون لا نفسهم او لغيرهم ريادة فن او عمل ما !! في ظل ضياع الجزء الكبير من الارشيف في المؤسسات والدوائر المعنية بالشأن الثقافي والفني.

كانت بدايات انطلاق رائد فنون الدمى في العراق الفنان الراحل طارق الربيعي من برنامج القرة قوز وهو برنامج تلفزيوني كما نعلم استمر عليه بما امتلكه من موهبة وولع بهذا الفن منذ عام ١٩٥٦ م، وفي عام ١٩٦٧م قرر الثنائي الذهاب الى القاهرة ليطور ويصقل موهبته في صناعة الدمى وتحريكها، فضلاً عن تطوير خبرته في كل ما يتعلق بهذا الفن، وفعلاً استطاع الثنائي من تحقيق حلمه بالذهاب الى مسرح القاهرة للعرائس في الازبكية واجراء معايشة فيه لثلاثة اشهر، إذ تتلمذ هناك على يد الفنان المصري الراحل (صلاح السقا) من خلال اوبريت (الليلة الكبيرة) على المسرح الدائري، كما زار الثنائي معهد التلفزيون العربي وتدرب فيه على صناعة دمى الماريونيت على يد الفنان المصري الراحل (الفريد ميخائل) رئيس قسم الدمى في المعهد، فضلاً عن الخبرة التي اكتسبها في صناعة الدمى على يد الفنان المصري الراحل (د. ناجي شاكر) مصمم ومبدع دمى اوبريت (الليلة الكبيرة)، وبهذا كان للتجربة التدريبية التي عاد بها طارق الربيعي من القاهرة دوراً كبيراً في اثراء ذائقته البصرية والسمعية على مستوى تقنيات الاخراج والاعداد والتأليف، فضلاً عن الخبرة في صناعة وتحريك دمى الماريونيت والذي نتج عنه تأسيس مسرح جوال سميّ بـ (مسرح بغداد للعرائس) والذي قدّم العديد من العروض المسرحية كان اغلبها دمى الماريونيت الى جانب دمى القفاز وكان من بين العروض المسرحية التي قدّمها الثنائي عرض اوبريت (الليلة الكبيرة) على قاعة الشعب الكائنة في باب المعظم في بغداد … سيما وانه تدرب عليها في القاهرة.

هذا ما ورد في ملف السيرة الذاتية الذي سلمني اياه رائد فنون الدمى في العراق الفنان طارق الربيعي والذي سأعرضه على حضراتكم بوصفه وثيقة في ملاحق كتابي الذي سيصدر قريباً والذي يتناول تاريخ فنون الدمى في العراق، علماً ان قاعة الشعب جمعت في فضائها كثيرا من الأنشطة الثقافية والفنية ومنها ما قدّمته فرقة(الدمى الصينية الشعبية) التي زارت بغداد آنذاك، وبهذا قدّم طارق الربيعي عرضاً مسرحياً بالدمى لمتلقين من الكبار ولم يكتفي بذلك، بل بادر عبر فرقته المسرحية الجوالة بتقديم عروض مسرحية اتسمت بطابعها الفلكلوري العراقي الخاص ومنها العروض المسرحية التي قُدّمت بالدبكة العربية والدبكة الكردية للمتلقين من الكبار وكانت الدمى فيها من نوع الماريونيت ايضاً ومن تصميمه وتنفيذه، الى جانب منوعات العرائس التي تتمثل بفرقة موسيقية من دمى الماريونيت مكونة من مطرب وعازفين لمختلف الآلات الموسيقية ومنها عازف الناي والطبلة والقانون، اما (اوبريت احلام السعادة) الذي قُدّم ضمن برنامج (مسرح بغداد للعرائس) بوصفه مسرحاً تلفزيونياً، فقد كانت دماه ماريونيت من تصميم وتنفيذ الفنان التشكيلي الراحل الدكتور (ناجي شاكر).

ولكن لسوء الحظ لم يتمكن الفنان الراحل طارق الربيعي من الاحتفاظ بكل هذه الدمى، اذ تعرض اكثرها للتلف والضياع بسبب ظروف التهجير التي تعرضت لها عائلته بعد أحداث عام ٢٠٠٣، فضلاً عن الاحداث المروعة التي تعرضت لها المؤسسات الرسمية المعنية بالشأن الثقافي - ومنها مبنى تلفزيون العراق- في ثمانينات القرن الماضي من قصف وهجوم صاروخي ابان الحرب العراقية الايرانية، وما لحقتها من احداث سياسية ساخنة، ساهمت في تلف وضياع العديد من المقتنيات فضلاً عن الارشيف.

اخيراً فان مقالي هذا وما سيليه من سعي توثيقي، ما هو الاّ دين كبير احاول ان ارده رويداً رويداً لمن لم يحظوا بالاهتمام الذي يليق بمنجزهم الكبير اعلامياً، بل لم يحظوا بالفرص الكبيرة التي اتيحت لأمثالهم في البلدان العربية، ولعل ذنبهم الوحيد في ذلك هو انغماسهم وحبهم لهذا الفن وتلقائيتهم فيه بعيداً عن تداعيات الشهرة، وان مهمتي بل مسؤوليتي تجاه هذا الفن تجعلني ابحث وابحث لأجد المعلومة وارفع الغبار عنها لتغدو شاهد تاريخي على عصرها، ومازال البحث جاري رغم وعورته.