خابيير مارياس.. كتابة الرواية لديه لعبة إكتشاف

Tuesday 18th of October 2022 11:54:12 PM ,
5287 (منارات)
منارات ,

إعداد: سماح عادل

بيعت ملايين النسخ من رواياته التي ترجمت لأكثر من أربعين لغة، آخرها روايته "الولع"، مثلها روايات "كل النفوس"، و"قلب ناصع البياض"، وآخر أعماله كتابه الضخم "ثلاثية وجهك غدا"، التي أشاد بها النقاد في جميع أنحاء العالم، قال أنه ظل يكتبها بطريقة انتحارية حتى وصل عدد صفحاتها إلي 1200، ولم يتسع الوقت لإعادة صياغتها "لقد اضطلعت بمسئولياتي لكني فعلت ذلك طبقا لمعايير النبل الفكرية".

حين كان طفلا سافر عدة مرات مع والده الذي عمل بالتدريس إلي أمريكا، و تم إدراجه ضمن قوائم المنع من الدخول إلي بلاده فترة، ثم عاد إلي مدريد، كان منزل العائلة يعج بالكتب والفن والمناقشات الرفيعة، إلا أن دخول "مارياس" الحقيقي إلي عالم احتراف الكتابة كان أثناء إقامته مع عمه وهو صانع أفلام له 85 فيلم. لم يكتف "مارياس" بمجرد مشاهدتها كلها بل كتب أول رواية له "الملاك من الذئب" حين كان في العشرين من عمره.

خلال العقد التالي نشر روايتين أخريتيين، حيث كان يعتبر عمله في الترجمة في المقدمة، وفاز بجائزة الترجمة الوطنية، وتم تصنيفه كمترجم وروائي.

عاش في شقة تطل علي مخزن كتب في إحدى أقدم ساحات مدريد، حيث يعكف علي الكتابة مستعينا بآلة كاتبة كهربائية، ولا يستخدم الإنترنت، رفيقته منذ زمن طويل تعيش في برشلونه حيث يقول:"إنه النصيب، صديقاتي إما متزوجات في وقت لم يكن هناك طلاق في إسبانيا، أو يعشن في مكان آخر، أو كانت هناك عقبة في الطريق".

في مقالة بعنوان ("غراميات" خابيير مارياس.. لعبة الحب والسرد) كتب "مهاب نصر": "أفكار.. أفكار، لا قوة السرد الذي يصف واقعا، ولا البراعة في رسم الشخصيات، ولا تبين تحولات الزمن وأثرها في حياة الناس، لا الحوارات ولا الأحداث هي ما يشكل عصب العمل الروائي. هكذا تقريبا تقول لنا رواية خابيير مارياس التي ترجمت أخيرا إلى العربية على يد صالح علماني، وأصدرتها دار التنوير. نعم هناك قصة، لكن سرعان ما نتبين عرضيتها إزاء التحليل والفحص. يداخلنا الشك في كل التفاصيل، والقلق بشأن كل اعتراف: أهو الحقيقة أم الزيف والادعاء؟

من خلال السرد الوصفي الدقيق، الذي يستعين فيه خابيير مارياس بأعمال روائية أقدم يتقاطع نصه معها، يؤكد المؤلف على نسبية الحقيقة، كما يقدم تأملا خاصا جدا عن الموت، وإشكاليا أيضا. ولكن الأهم هو أنه يقول لنا نحن القراء، لا تتوقعوا أن تكون الأحداث حقيقية، ليس المهم الحدث أو الشخصية، بل ما يلهمنا إياه من أفكار ومن طرق في الحياة".

في حوار معه يقول "خابيير مارياس" عن الكتابة: "لم يكن لدي أي مشروع أدبي علي الإطلاق، وأعتقد أنني داومت باستمرار علي الارتجال في مهنتي كما ادعي مؤخرا إلا أنني أعترف ببعض الموضوعات المتكررة: الخيانة،الغموض، استحالة إدراك وفهم الأمور، أو الأشخاص أو ذاتك، بشكل يقيني، هناك أيضا القناعة و الزواج والحب، إلا إن تلك هي جوهر الأدب، ليس في كتبي فقط، بل إن تاريخ الأدب علي الأرجح مثل نفس القطرة من الماء تظل تسقط علي نفس الحجر لكن في كل مرة مع لغة مختلفة، وبصور مختلفة، وبأشكال متغيرة تتناسب مع أزماننا، إلا أنها تظل كما هي، نفس الشيء، نفس الحكايات، نفس القطرة علي نفس الحجر، منذ هوميروس أو حتى من قبله".

في روايته "الولع" الشخصية المحورية أنثي تدعى ماريا، وهو شيء نادر، تبدأ بماريا التي اعتادت تناول إفطارها كل صباح علي نفس المقهي، لاحظت زوجين يتبعان نفس الروتين، بعد فترة من غيابهما نما إلي علمها تعرض الزوج للقتل بوحشية، فتصبح متورطة داخل حياة الأرملة وتداعيات وفاة الزوج.

يقول "مارياس" عنها: "الوقوع في الحب له وقع جيد، قد يكون مبررا في بعض الأحيان، إلا أنه أحيانا قد يتحول إلي العكس، لقد رأيت أناس غاية في اللطف، تنقلب تصرفاتهم إلي القسوة بسبب وقوعهم في الحب، تلك الفكرة متعلقة بالقدر، يتذكر الناس كيف تم اللقاء بينهم، ثم يتساءلون حول ما كان يمكن حدوثه لو لم يذهبوا إلي ذلك البار أو ذلك العشاء، وينسون أن اختياراتنا لشريك حياتنا محدودة في الواقع، وتخضع للمكان و الزمان والفئة، ومن علي استعداد لقبول عرضنا، وكم مرة لم نكن الخيار الأول، أو الثاني، أو حتى الثالث؟

باع الكتاب فور صدوره بالأسبانية مائة وستين ألف نسخة وفاز بجائزة الرواية الوطنية، التي رفضها "مارياس" لأن العشرين ألف إسترليني ممولة من الحكومة.

وعن الرواية يقول: "الرواية أكثر وحشية و بربرية يمكنك من خلال شخصياتها قول أي شيء، إنها مثل مسرح، أنت تعرف اسم المسرحية، لكن حين يرتفع الستار، يصبح المفهوم المقبول أن لا يتبع جميع المتفرجين الآراء المعروضة أمامهم، نفس الشيء بالنسبة للكتاب، أنت تقلب صفحاته بداية من الغلاف ثم السيرة الذاتية للكاتب، وربما الإهداء، لكن حين تصل للصفحة رقم واحد يرتفع الستار ومنذ تلك اللحظة لا يصبح للكاتب أي اعتبار".

وفي حوار ثان معه أجرته في أوائل سنة 2016 مجلة The Millions ونقله إلى العربية "أحمد الزناتي" يقول "خابيير مارياس" عن ماس سماه "جوهر العمل" في الرواية: "أغلب الروائيين، أو ربما يعد ذلك افتراضًا من ناحيتي، فلأتحدث عن نفسي على الأقل كروائي، وربما هناك آخرون يذهبون إلى أنّ ثمة فقرات قليلة أو بضع صفحات معدودة أفضل مما سواها. أفكّر، وربما أكون مخطئًا، في تلك الفقرات التي تحمل روحًا شاعرية خفيفة، أو استطرادًا، أو انعكاسًا أو فكرة تأملية قصيرة، قد لا تتجاوز نصف صفحة، وأحيانًا أكثر قليلًا، فتشعر بالرضا عن ذلك، وتقول بعدها: هذا هو جوهر العمل.

أقصد أنه بمجرد الانتهاء من كتابة الرواية، تلّح على ذهني فكرة مفادها: "الآن أدركتُ الأمر" على الأقل في حالتي، وأنا أتحدّث دائمًا عن نفسي. نظرًا لأني لستُ شاعرًا، ولم أكتب الشعر يومًا، ولا حتى حينما كنتُ شابًا أو مراهقًا، تقفز إلى ذهني أحيانًا فكرة مؤداها: "ينبغي لي أن أحيط تلك الفقرات بشيء إضافي، بشيء ضخم، بمعمار يصون الفكرة، ويجعلها مقبولة لدى الجمهور. فيتركّز تفكيري في جذب انتباه القارئ إلى هذه الصفحات، لكنني يجب أيضًا أن أُلهيَ القارئ أو القارئة من خلال القصة والحبكة والحوارات.

لكنه ليس أمرًا مُخططًا. أظنّ أن التخطيط لذلك سيكون شيئًا مبتذلًا، لكنك أحيانًا تقول لنفسكَ لاحقًا، هاتان الصفحتان هما مبرر وجود الرواية بأكملها".

وعن التشويق في الرواية أهو شعور يهبط عليه بشكل طبيعي، أم هي ظاهرة لصيقة بأسلوبه، أم إنه يعاود التحرير والمراجعة يقول: "لا، لا تسير الأمور على هذا النحو، فطريقتي في الكتابة طائشة للغاية. لكنكَ تشعر أنكَ أكثر طيشًا من طريقة الكتابة التي اخترتها، أو ربما التي اختارتكَ.

تعلم أنّ واحدة من مشكلات الروائيين هي أنّنا لا نتعلم المهنة أبدًا، على الإطلاق، مثلما يفعل في العادة سائر البشر. طبعتُ روايتي الأولى وأنا في سنّ التاسعة عشرة، أي منذ ما يزيد عن أربعين عامًا.

يذهب الأستاذ إلى الجامعة لإعطاء الدروس، يعني أنّه سيعطي دروسه على نحو جيد، أو على نحو لائق، وسوف يؤدي المهمة بمنتهى السهولة، أو مثل النجار الذي يصنع الطاولات لمدة تزيد عن أربعين سنة، يعرف تمام المعرفة أنّه لن يخفق في صنع غيرها من الطاولات. أما الروائي فيجهل تمامًا ما هو مُقدِم عليه.

الدرس الوحيد الذي تتعلمّه أنك لم تتعلّم شيئًا على الإطلاق. حتى لو أن كتبًا سابقةً حظيت ببعض الثناء، وحتى إن استمتع بها القُرّاء، لن يغير ذلك من الأمر شيئًا. في حالتي أقول: حسنًا.. لقد حالفني الحظ، أو ربما خَدِع القُرّاء.. شيء من هذا القبيل. لكن كل ذلك لا يضمن أي شيء لنجاح العمل الذي أشرع في كتابته.

لكن، ما كنتُ بصدد قوله إن طريقتي المعتادة في الكتابة. حسنًا.. لقد ذكرت قبل ذلك في مناسبات عديدة، أن هناك بالطبع كل أنواع الكُتّاب، لكن بعضهم من يمارس الكتابة مستخدمًا خارطة طريق، أقصد أولئك الذين يعرفون طريقهم جيدًا، ويستخدمون مخططًا.

كل أساليب الكتابة مرتبطة بالنتيجة النهائية. فقبل شروعهم في كتابة الرواية، تكون القصة فد اكتملت داخل رؤوسهم، فهم يعرفون على وجه الدقّة ما الذي سيجري لكل شخصية ومتى، إلخ، لكنني لستُ من هذا النوع. أعتقد لو أنني أعرف مسار القصة من أولها لآخرها قبل الشروع في كتابتها، فلن أكتبها على الإطلاق.. سأهتف بالضجر ساعتها".

ويواصل عن كتابة الرواية: " يحلو لي ممارسة فعل "الاكتشاف" أثناء الكتابة. لقد أشرتُ في مناسبات عدة أنّ كلمة "يبتكر"، وهي الكلمة نفسها في اللغة الإنجليزية والإسبانية وعدة لغات أخرى، مُشتقة من المفردة اللاتينية invenire، التي تعني في لغتها الأصلية "يعثر على شيء"، أو "يكتشف شيئًا". ومن ثم أن "تكتشف" في الكتابة، سواء في الإنجليزية أو اللاتينية أو الإسبانية هو أمر له علاقة اشتقاقية بفكرة العثور على شيء، وهو ما يحلو لي ممارسته في الكتابة.

الحقيقة أنني لا أعرف على وجه الدقة كيف أُنجزُ رواياتي. في كل مرة، أكتشف أنني لا أعرف كيف كتبتُ هذه الرواية، ولا كيف كتب غيري رواياتهم. ما يحدث أنّكَ تجد نفسكَ أمام ثلاثمائة أو أربعمائة أو حتى خمسمائة ورقة، فتهتف قائلًا: ها قد اكتملت الرواية". إلا أنني أعمل صفحة تلو الأخرى. لم يسبق ليس تحرير مسوّدة من خمس أو عشر صفحات، إطلاقًا.

أبدأ العمل في الرواية- ما زلتُ أستخدم آلة كاتبة- فأنزع الورقة من الآلة، وأخطّ التصويبات بقلمي، أمحو أشياء، وأضيف أقواسًا، أحذف فقرات، وأرسم أخرى، أفعل كل شيء. ثمّ أنتقل بعدها إلى الكتابة على الآلة الكاتبة من جديد: أكرر ذلك مرّة، مرتين، ثلاث مرات، أربعة وخمس في بعض الأحيان، حتى أقول لنفسي:"ليس في الإمكان أبدع مما كان"، أو "لقد أصبتُ بالتعب" وهو ما يحدث. بعدها تنتقل الورقة إلى مرحلة الطبع، صفحةً تلو الأخرى.

لا أعيد قراءة ما كتبت حتى أنهي كتابة الرواية. أقول:" مهلًا.. لديّ الآن مائتي ورقة.. هل ينبغي إعادة قراءتها"؟ ماذا إن وجدتُ ما كتبته رديئًا؟ سأفسد الأمر برمته، وسأفقد الإيمان اللازم لمواصلة الكتابة. فأقول لنفسي: لن أقرأ ما كتبتُ". وهكذا، صفحة تلو الأخرى، صفحة بصفحة، كما لو كانت هذه الصفحة هي الوحيدة التي كتبتها، أحشد تركيزي على ورقة واحدة، أبذل قصارى جهدي عليها، لكنها تكون بمعزل عن الورقة التالية والسابقة، حتى تصير شيئًا غامضًا في نهاية المطاف، إلا أنّ بعض القرّاء الودودين أخبروني:" لم أستطع ترك الرواية حتى فرغتُ من قراءتها كاملة". "إن رواياتك محبوكة حبكة مثالية، لا ثغرة فيها". فكنتُ أقول:"..آه يا عزيزي خابيير..إنها على عكس ما قيل تمامًا".