غور فيدال.. شخصية موزعة أتعبت نفسها والآخرين

Wednesday 26th of October 2022 12:22:37 AM ,
5292 (منارات)
منارات ,

أمير طاهري

يصفه معجبوه بأنه من أبرع المناظرين المعاصرين في أميركا، بينما يراه معارضوه شخصا لا ينتمي إلى طائفة المشاهير، أما هو فقد وصف نفسه ذات مرة بأنه «جنتلمان داعر».

وربما كان غور فيدال، الذي توفي الأسبوع الماضي في كاليفورنيا عن عمر يناهز 86 عاما، كل هذه الأشياء مجتمعة، لكنه كان أيضا ما هو أكثر، فقد كان كاتبا كبيرا وروائيا بارعا استطاع أن يجمع بين إمتاع وتثقيف القارئ.

ومعظم الناس يعرفون فيدال بفضل كتاباته الناقدة، التي تتضمن بعض الانتقادات الجارحة لزملائه من الكتاب أمثال نورمان ميلر وويليام باكلي، وكذلك محاولاته الرومانسية الحالمة لإيجاد مكان لنفسه داخل الآلة السياسية الأميركية. وفي عصر يتميز بالتهذيب المصطنع، أصر فيدال على التعبير عن آرائه بأكثر الطرق مباشرة، ولا أقول قسوة، حيث وصف إرنست همنغواي بأنه ليس أكثر من أضحوكة، وانتقد الكاتبة جويس كارول أوتس قائلا إن اسمها يتكون من «أسوأ 3 كلمات في اللغة الإنجليزية»، كما كان يرى أن كاتبا آخر من الكتاب المعاصرين له، وهو ترومان كابوتي، ما هو إلا «عجوز حيزبون من الإقليم الأوسط الشمالي الشرقي».

وقد بنى فيدال شخصيته الجماهيرية على ثلاثة محاور، أولها خلفيته الخيالية في معظمها كأرستقراطي أميركي، وقد استند في هذا الادعاء إلى أن جدته لوالدته كانت عضوا في مجلس الشيوخ، وأن والده عمل لفترة قصيرة عضوا في إدارة الرئيس فرانكلين روزفلت. ولم يترك فيدال أي فرصة سانحة إلا وذكر الناس بأن له قرابة بشكل ما مع جاكلين كيندي، زوجة الرئيس جون كيندي، وابنة عم من بعيد لآل غور نائب الرئيس بيل كلينتون.

المحور الثاني هو صورته كثائر وصاحب فكر حر مستعد دوما لهجاء أصحاب السلطة واستفزازهم، فنظرا لكونه مراقبا دقيقا للنزعات الفكرية، كان فيدال من أوائل المفكرين الغربيين الذين أدركوا أن الحركة المعادية للأميركيين صارت آيديولوجية شائعة للغاية، وبالتالي فإن لوم الولايات المتحدة على كل الشرور التي ترتكب في العالم، ونعت المسؤولين السياسيين الأميركيين إما بالأغبياء أو بالفاسدين، كثيرا ما يجني لصاحبه التهليل والتصفيق بسهولة، خصوصا حينما يكون الشخص الذي يمارس هذا الفن هو نفسه أميركيا.

وأخيرا، فقد أتعب فيدال نفسه في الترويج لفكرة أنه شاذ جنسيا، رغم أن المقربين من حياته الخاصة يصرون على أن هذه النقطة بالذات كانت كلاما أكثر منها أفعالا. ومن دون حتى أن يعترف بهذا، كان فيدال يتخذ من أوسكار وايلد قدوة له، حيث حذا حذوه في الاشتغال بالكتابة المسرحية، فألف أعمالا عادية مثل «أفضل الرجال»، كما قلده في البحث عن الفضيحة والقيل والقال، إلا أنه لم يتمكن أبدا، بحكم اختلاف العصر، من إثارة العاصفة التي تمكن مؤلف رواية «دوريان غراي» من إثارتها في القرن التاسع عشر.

وكم كان سيصبح من المؤسف لو أن شخصية فيدال، التي يكرهها البعض، أدت إلى صرف الانتباه عن إنجازاته الأدبية، فقد كان فيدال سيناريست موهوبا، كما تبين من أفلام مثل «كاليغولا» و«فجأة في الصيف الماضي»، كما كان كاتب مقالات غزير الإنتاج بمقاييس الأدب الغربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث تطرق إلى كل ما يخطر على الذهن من موضوعات. وحتى عندما يشعر المرء بالانزعاج من مبالغاته وتلاعبه بالألفاظ وتكتيكاته بالغة المكر، فإن فيدال ككاتب مقالات كان في معظم الأحيان مثيرا للاهتمام.

ومع ذلك، إن كان هناك في أعمال فيدال ما يستحق البقاء فهو رواياته، وأشهر رواياته وأكثرها مبيعا هي رواية «لينكولن»، التي استوحاها من حياة الرئيس الذي قاد الولايات المتحدة في حرب الانفصال. وقد يرى القراء غير الأميركيين أن هذه الرواية، التي تعد جزءا من سلسلة تتحدث عن تاريخ الولايات المتحدة، ضيقة بعض الشيء، خصوصا مع محاولة فيدال أن يدخل فيها عناصر المناظرات السياسية في الخمسينات والستينات من القرن العشرين.

وتعد رواية فيدال الأخرى «بير» جزءا من سلسلته التي كتبها عن التاريخ الأميركي، وهي تسرد قصة حياة آرون بير، الذي عمل نائبا للرئيس في عهد توماس جيفرسون. وقد كان بير مغامرا فعل كل شيء، بما في ذلك القيام بمهمة جاسوسية لصالح إسبانيا، وحجز لنفسه مكانا في سجلات التاريخ السوداء بقتله ألكسندر هاملتون، الذي كان وزير الخزانة ومرشد الاتحاديين في الولايات المتحدة. وفي روايته، يرفض فيدال نظرة الأبيض والأسود إلى شخصية بير المعقدة، كي يكتشف ويبرز الجوانب الرمادية في حياة صاخبة مليئة بالتقلبات.

وقد حالت سلسلة الروايات التي ألفها فيدال عن التاريخ الأميركي، ومن بينها روايتا «الإمبراطورية» و«1876»، دون أن يقدر الكثير من القراء المحتملين قيمة بقية أعماله، حيث ذهبت رواياته المبكرة كلها في طي النسيان تقريبا، خصوصا رواية «حكم باريس»، إلا أن هذه الرواية هي عبارة عن قصة نشأة كاملة تروى بصوت يتمتع بثقة تعادل ثقة سومرست موم في أفضل أعماله.

وقد وقعت رواية فيدال الأكثر إثارة للجدل «ميرا بركنريدج» ضحية لتعطشه الشديد إلى الاستفزاز، فالرواية تعالج موضوعا جادا، وهو رغبة الإنسان في أن يعيش خيالاته وأوهامه، إلا أنها أخفقت في نقل هذا المضمون لأنها تتأرجح ما بين التناول النفسي الجاد للموضوع ومعالجتها على طريقة القصة القصيرة «الحياة السرية لوالتر ميتي».

والروايتان المفضلتان لي من روايات فيدال هما «جوليان» و«الخلق». الرواية الأولى مأخوذة من حياة الإمبراطور الروماني «المرتد» الذي حاول إحياء الميثرانية، وهي الديانة السائدة في روما قبل المسيحية. وتطرح رواية «جوليان»، التي تتضمن عدة أصوات تروي الأحداث من وجهات نظر مختلفة، مناظرة بين الفلسفة الهندية الأوروبية والمعتقدات السامية التي يرمز لها هنا بالمسيحية. وفي الوقت ذاته، يستجمع فيدال كل مواهبه كسيناريست يعمل في أفلام هوليوود لتقديم 3 شخصيات ذات أبعاد مختلفة في مشاهد حية ومثيرة: فجوليان شاب مريض طرده عمه الإمبراطور كونستانتين إلى أثينا، ثم يجد الفتى، الذي كان يأمل في أن يصبح فيلسوفا، نفسه قد صار إمبراطورا فجأة بعد مقتل جميع الذكور الآخرين من أفراد عائلته في سلسلة من مؤامرات البلاط، وأصبح يرى نفسه إسكندر آخر اختارته «الآلهة» لتحرير روما من «ديانة اليهود» وغزو العالم.

أما رواية فيدال البارزة الأخرى «الخلق» فهي أكثر طموحا بكثير، حيث تقوم على الأسطورة التي تقول بأن النبي الفارسي زوروستر والفيلسوف الإغريقي سقراط والحكيم الصيني كونفوشيوس كانوا متعاصرين وأنهم أثروا، بشكل أو بآخر، في بعضهم بعضا. وكان الوهم الذي وقع فيه فيدال هو أن القرن الخامس قبل الميلاد، الذي يفترض أن يكون «العظماء» الثلاثة قد عاشوا وعملوا فيه، كان هو العصر الذهبي للمذهب الإنساني. ولكن كما في رواية «جوليان»، فمن الأفضل أن يتجاهل المرء محاولات فيدال لفلسفة الأمور، وهو ما لم يكن موفقا فيه، وأن يستمتع بموهبته كراو ممتاز، حيث يخلق من داخل عالم الأساطير شخصيات حية وحقيقية في لحظات دراماتيكية مشوقة.

وكثيرا ما كان فيدال يقول إن حلم حياته هو أن ينتخب لعضوية الكونغرس أو مجلس الشيوخ، ونحن كقراء محظوظون لأنه لم يبلغ حلمه، حتى يتمكن من إنتاج الروايات العديدة التي سنقرأها ونعيد قراءتها لسنوات كثيرة قادمة.

عن صحيفة الشرق الاوسط