صفحة مطوية من تاريخ الأدب العراقي..صفحة مطوية من تاريخ الأدب العراقي

Thursday 10th of November 2022 12:52:38 AM ,
5303 (عراقيون)
عراقيون ,

عمر ماجد السنوي

كان الأثري في الحادية والعشرين من عمره وكان حديث عهد بالدراسات العربية، حين نازلَ الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي ونقدَ شِعرَه ورُؤاه.

لقد كان أول اتصال للأثري بالزهاوي في بداية عهد الاحتلال البريطاني لبغداد، وهو يافع، راه اول مرة في الدورة التعليمية التي استُحدثت لتخريج معلمين للمدارس الابتدائية، وكان الأثري قد دخلها مستمعًا لا يريد التوظف، فحضَر بعض دروس الزهاوي، فوجده يلقي على الطلاب مختارات من الشعر العربي بطريقته الخاصة من التفخيم والمطّ ورفع الصوت، مع القهقهة أحيانًا، ورنوّ عينيه من وراء النظّارة إلى الطلاب وقتًا ما، إظهارًا لاستحسانه الشعر الذي يتلوه عليهم، وقلّما وجده الأثري فسَّر شيئًا من غوامض ألفاظ هذا الشعر ومعانيه، ثم انصرف عنه ولم يعد إليه، ولا يَعرف سببًا لذلك.

وسألَ الأثريُّ والده عن الزهاوي، فاختصرَ له حياته بأنّه من أسرة عراقية محترمة، فيها رجال علم ودين ورجال أدب وشعر. ومِن أبنائها مَن برزوا بالإدارة ونالوا الدرجة الرفيعة في الدولة، وأثنى على والِد الزهاوي: الشيخ محمد فيضي أفندي الذي وَليَ إفتاء بغداد بعد شیخهِ الإمام المفسِّر أبي الثناء محمود شهاب الدين الآلوسي، كما أثنى على مَن عَرف من أبنائه، وذكَر منهم صديقه صالح أفندي، والذي أصبح ابنه الشاعر إبراهیم أدهم الزهاوي صديقًا للأثري من بعد، فقد كات تربه في السنّ، وقد عرف عن هذا الشاعر تقديسه للحق، ومن منطلقه هذا أخذ يفنّد كتاب عمه جميل صدقي الزهاوي: (المجمل مما أرى) في سلسلة مقالاتٍ نشرها في الصحف البغدادية أيام أخذ الأثريّ نفسَه بالانتصار لأحمد شوقي، وانتصب لتفنيد نقد الزهاوي لبعض شعره.

ودام اللقاء والنقاش بين الأثري والزهاوي بضع سنين، ثم تصافيا بعد لأيٍ، وأهدى الزهاوي مجموعة دواوينه إلى الأثري، وصار الأثري يلقى الزهاوي على الدوام في المكتبة العربية لصاحبها الحاج نعمان الأعظمي، وكانت ملتقى الشعراء والمتأدبين، ثم في مجلس الدفتري أيام الجمعات.

وقد تحدث الأثري عن طبيعة الزهاوي بشيء من النقد قائلًا:

"وجدته حفيًّا بنفسه ومعتدًّا بها وبشعره وفلسفته، يتحدث عنها في شبه حالة طفولية، ويغمز في أثناء أحاديثه الشعراء الكبار، كأنه يقول: أنا وحدي فارس الحلبة وسباقها، وشاعر العصر، وقريع أهل الأوان. ويُحب أن يُذكر دائمًا، فكان في كل يوم ينظم بيتين كيفما اتفقا له، وتنشرهما له جريدة العراق في مكانٍ عالٍ من الصفحة الأولى على حين كان الرصافي على النقيض". فقد ذكرَ الأثري أن الرصافي لم يعتد بنفسه في مجالس الأدب، ولا كان يروي شيئًا من شعره في هذه المجالس، وإن لحظ ذلك في أشعاره وهو يفخر بنفسه وبشعره فذلك شيء طبيعي قلّما سَلِم منه شاعر في زماننا ومنهم على وجه التخصيص أحمد شوقي وعبدالمحسن الكاظمي، وهما من عصر الرصافي والزهاوي.

وللأثري عدة مواقف أدبية نقدية خاضها مع الزهاوي، منها: أن إسماعيل صبري باشا -الشاعر المصري- كان قد توفي في آذار 1923م، وآلمت وفاتُه صديقَه وصفيَّه وعشيرَه أميرَ الشعراء أحمد شوقي، فرثاه رثاءً حارًّا في قصيدة فائية من الشعر العذب، فسارت القصيدة في البلاد العربية مسير الشمس، ونشرتها الصحف العربية ومنها صحف العراق، فاستبدّت بإعجاب الناس كعادتهم في الإعجاب بشعر هذا الشاعر العظيم في تلك الحقبة، إلا أن الشاعر جمیل صدقي الزهاوي -كما يقول الأثري- أبت عليه منافسته إلا أن يحاول إسقاطها من أعين الناس، مع أنه من المعجبين بها كذلك في باطنه، فنشر في جريدة العراق أربع مقالات في نقدها نقدًا نحويًّا ولغويًّا بتوقيع (ناقد!).

وسرعان ما اكتشف الأثري أن هذا الناقد هو الشاعر الزهاوي، وأيد الواقعُ أنه هو لا غيره، ثمّ قفّى على ذلك فنشرَ باسمه الصريح قصيدة على وزن قصيدة أحمد شوقي ورويها في رثاء إسماعيل صبري باشا هذا، على سبيل المباراة!

يقول فيها الأثري: "إنها دون قصيدة شوقي بمراحل، وفي حسبانه أنه جلّى عليه وتقدّمه، ولن تكون النائحة المستأجرة كالثكلى". ويؤيّد الأثري في هذا كثير من معاصريه.

قرأ الأثري مقالات الزهاوي الأربع، فوجد العلم والإنصاف قد جانبا كاتبها، وكان من المعجبين بروائع أحمد شوقي، فدفعه حب الحقيقة في شوقي إلى أن يفند هذا النقد الذي كتبه الزهاوي، دفاعًا عن الشعر الجميل وانتصافا لصاحبه من ظالمه والمفتئت عليه.

ودفع الأثري نقده إلى جريدة العراق نفسها، فنشرته في سلسلة متتابعة، أزعجت الزهاوي، فاستنصر على الأثري أحدَ أصحابه، فاندفع هذا -ولم يرغب الأثري في ذكر اسمه لأدبه الجم- يكتب في صخب، حتى زعم في محاولة منه لهزيمة الأثري وخذلانه أنّ ما يكتبه الأثري إنما هو من إملاء أستاذه محمود شكري الآلوسي، يقول الأثري: "فما زادني افتراؤه إلا ثقة بنفسي".

ثم يقول الأثري: "كان الزهاوي قد نشر فائيته الركيكة تلك، فانكفأت عليها بالتحليل والنقد وأبلغت النكاية به"، فثقل الأمر على الزهاوي، فتحامَل على نفسه إلى صاحب الجريدة بِحَجْب هذه السلسلة عن القرّاء، فرجا رزّوق غنّام من الأثري أن يرحم شيخوخة الزهاوي، فيقف في نقده حيث انتهى؛ فلم يجبه، وخرج بالصمت عن لا ونعم، وتابع الرد عليه في صحيفة العاصمة من الصحف السياسية اليومية، فوسّعت صدرها لما يكتبه الأثري، وطفقت تنشر له ما يكتبه في مناقضة الزهاوي تحت عنوان: (بين أديبين) قطعًا قصارًا؛ فاستشاط الزهاوي من هذا العنوان، اذ كان في نحو السبعين من عمره وقد ذاع صيته، فكيف يقارن بطالب ناشئ في الحادية والعشرين من العمر؟!

وقد بلغت مقالات الأثري في جريدتي العراق والعاصمة نحو 29 مقالة، فيها نبرة الحماسة والكبرياء، وفيها تنبأ الأثري بمستقبله، وفيها مهّد لأن يدخل الحلبة بجدارة اللقب.

وأما الموقف الثاني الذي اشتبك فيه الأثري مع الزهاوي، فهو نقده اقتراح الزهاوي تجريد القصائد من التزام القافية، أو ما أسموه بـ(الشعر المرسل). والقافية عند الأثري هي رنين الإيقاع في الفن الشعري. وحُجة الزهاوي في اقتراحه، أنّ القافية قيد يكبّل الشاعر عن الانطلاق، وكانت حجة الأثري أن آلافًا وآلافًا من الشعراء العرب ملؤوا الدنيا منذ مئات من السنين بآلاف لا تحصى من القصائد الطوال الرنانة التزموا فيها هذه القوافي التي هي رنين الإيقاع الذي ينتهي عنده البيت الشعري، فما قيّدتهم عن الانطلاق ولا شَكَوا منه ضيقًا ولا حرجًا. ثم حجة الأثري أن الزهاوي نفسه عاش عمره ينظم المقطوعات والمطولات المقفاة، ولم يكن بها ضيّقًا ولا عاجزًا.

وقد أرفق الزهاوي اقتراحه هذا بقصيدة (مرسَلة)، وهي في رأي الأثري: "باردة ما لبث الزهاوي نفسه أن ارتدّ عنها، شعورًا منه بتفاهتها". ونشر الزهاوي رأيه في صدر صحيفة المفيد لصاحبها الكاتب السياسي إبراهيم حلمي العمر، وقد طلب العمر من الأثري أن يبعث برأيه إليه في هذه المسألة، فكتب إليه الأثري، ومما كتبه قوله: "إن الشعر فن صعب، لا يقوى عليه إلا من رزقوا الحس الشعري المرهف، وملكوا آلته وأداته من اللغة الواسعة ومَلَكة البيان… وهو ككل الفنون له ضوابط تحكمه، منها القافية التي يراد التخلص منها، وهذه القيود أو الضوابط التي ميزت هذا الضرب من الكلام المتميز، والتي لا يقوى عليها الضعفاء في حبك الشعر أربعة أركان لا بد من توافرها في وقتٍ معًا، وهي: اللغة السليمة الصافية، والمعنى الكريم في الخيال الرفيع، والوزن الذي هو إيقاعٌ نفسيٌّ داخليٌّ يتنوّع بتنوّع الإحساس، والقافية التي هي رنين هذا الإيقاع الذي ينتهي بانتهاء البيت، أمّا اللفظ فهو جسم روحه المعنى، وارتباطه به ارتباط الروح بالجسم، فإذا اعتور أحدهما أقل اختلال، اختلّا كلاهما وخرّا صريعَين، وأما الوزن فهو أعظم أركان الشعر، وهو يستدعي القافية ويجلبها ضرورةً، وليست القافية بالجالبة للمعنى، ولا المعنى بتابع للقافية كما يتوهَّم. فإذا عَري الكلام من أحد هذه الأركان المتلازمة، فلا يُعدّ من الشعر، ولا يكون له أقل وقْع في النفوس، وإن كابر المكابرون، وركبوا رؤوسهم في المماراة".

لكن هل سكتَ الزهاوي عن هذا الذي كتبه الأثري؟ وهل انقطع عن كتابة الشعر المرسل؟ يقول الأثري: "ولم يُثَنِّ الزهاوي على واحدَتِه الّتي قدّمها نموذجًا خديجًا، وسكتَ إلى أن مات".

ولكنني أرى -كما رأى حميد المطبعي من قبل- أنّ الزهاوي أو غيره من جيله أو من أجيال ماضية أو أجيال آتية لهم الحق في ابتكار ما يرون من شكلية شعرية تنسجم وأذواقهم وقوانينهم المرحلية، فإن نجحوا، فهو خير لتجربة الشعر العربي، وإن أخفقوا فهي تجربة، المهم أن يبقى الشعراء يدافعون عن حرياتهم الإبداعية. ولستُ في هذا القول مدافعًا عن الزهاوي وتجربته البتراء ودوافعه الغامضة.

وحدث موقف ثالث بين الأثري والزهاوي في سنة 1927م حول مرثية الزهاوي للزعيم السياسي المصري المشهور سعد زغلول وهي من 14 مقطوعة، في كل مقطوعة سبعة أبيات على قافية غير قافية أخواتها، كان الزهاوي أنشدها في حفل التأبين الذي أقيم له ببغداد بعد أربعين يومًا مرّت على وفاته، ونشرتها له بعض الصحف اليومية. وقد وجد الأثري في هذه المرثية من عيوب الصناعة والفن ما يبتدئ بابتدائها ولا ينتهي إلا بانتهائها -على حد قوله-، فكتب في تحليلها مقالًا ونشره في جريدة العالَم العرَبي في 22-11-1927م، ومما قاله في تحليله الذي أقام فيه الزهاوي وأقعده:

"قال الزهاوي في مطلع مرثيته:

مات سعدٌ، فما عسى أن تقولا… فيه حتى تهز جمعًا حفيلا؟

فقد نعى فيه سعدًا إلى الناس بعد أربعين يومًا مضت على وفاته! ولم يَبق مَن لم يبلغه نعيه ولو كان في مطلع الشمس أو مغربها، اللهم إلا مَن كان لا صِلة له بهذا العالَم… ثم اضطرب وتحيّر، لا يدري ماذا يقول فيه، فرضي لنفسه أن يصفها بالعجز والعيّ. ثم ذكر في الشطر الثاني أنّ غايته من رثاء سعد هي أن يهزّ الجمع الحفيل الذي يحتفل بتأبينه لا أن يقوم بواجب الوطنية، وهذا كما ترى في منتهی السخف، وفيه من البرودة والفتور ما أربی بهما على بيت أبي العتاهية المضروب به المثل في البرودة، وهو قوله:

مات الخليفة أيها الثقلانِ… فكأنني أفطرت في رمضانِ!

وليته إذ وقع في هذه العيوب المعنوية سلِم من عيب آخَر فنّيّ يُسمّى التصريع المعلَّق؛ فإن البُلغاء يستحسنون أن يكون كل مصراع في التصريع مستقلًّا بنفسه في فهم معناه، غیر محتاج إلى صاحبه الذي يليه، مع ذكر فاصلة بينهما دالة على انقطاعه عنه، ويستقبحون أن يكون على صفة بيت الشيخ الزهاوي معلّقًا فيه المصراع الثاني بالأول. وهو بعد كل هذا معجب كل الإعجاب بهذا المطلع، أو بالأحرى بالنعي الذي في أوله (مات سعد)، حتى لقد أعاده على المسامع سبع مرّات بلا انقطاع! كأن الناس صم لا يسمعون، أو كأنهم لم يبلغهم نعيه قبل أربعين يومًا من إنشاده هذه "المنظومة"، بل لقد عاد في المقطوعة الثانية فقال في أولها:

جعت مصر بالزعيم الجليل… بابي الشعب كله زغلولِ

وعاد في الثالثة فقال:

فوجئت مصر بالنعي، فكادت… أرضها من هول المصاب تمورُ

وفي الخامسة مرتين:

بين سعد ومصر جد الفراقُ… ليس هذا الفراق مما يطاقُ

مات سعد ولم يمت ذكر سعدٍ… فهو باق له القلوب رواقُ

وفي العاشرة:

استراح الرئيس بعد العراكِ…بعد ضرب صعب وطعن دراكِ

فكأنّ الرجل أصبح ناعية ينعي إلى الناس الأموات بالأُجرة. وقد سمع أن الشاعر في الجاهلية كان إعلانًا لقبيلته، فأحبّ هو أن يكون ناعية لأموات أمّته!

وقال بعد ذلك البيت:

بالرئيس الهمام بالمنقذ الأكـ…بر للشعب في الزمان الوبيلِ

ثم ناقضه فقال:

ما بلغت المني لمصر ولكن…كنت تمشي على سواء السبيلِ

وكرره أيضًا فقال:

أنت حررت مصر إلا قليلا…آه لو تم ذلك التحرير!

ثم أعاده للمرة الثالثة فقال:

عاقك الموت أن تحقق وعدكْ…غير نزرٍ، وكنت تبذل جهدكْ

فعلى هذا أنّ سعدًا لم ينقذ مصر بعد، بل لم يبلغ المنى لها؛ فأي المعنيين أحق بالاعتبار في نظر الناظم؟ وما وجه الإعجاب بهذا المعنى وإعادته ثلاث مرات؟".

إلى آخر النقد الذي عرّى فيه الأثري مرثية الزهاوي، ليس في شعر المرثية فحسب، وإنما في فكر الزهاوي في هذه المرثية، سیاسیًّا واجتماعيًّا أيضًا.

ومن يقرأ تلك الصحافة يومئذٍ يجد معركة الأدباء حامية الوطيس، فيما بينهم وفيما بين أفكارهم، معركة ترتقي إلى مستوى تثبيت القيم النقدية، في كل شيء من هذه القيم، وفي كل شيء من هذه المبادئ التي تحرّض على الوعي الأخلاقي، ولا ريب في أنّ الأثري كان عنوانًا كبيرًا في هذه المعركة، لا يبالي بشيءٍ من قانون وضعي، ولا يثأر، ولا يُبغض ناقدَه أو منقودَه.

عن مدونة (رؤى)