من بواكير التعليم الحديث في العراق..مدرسة القديس يوسف للآباء الكرمليين

Monday 26th of December 2022 12:17:06 AM ,
5334 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

جاسم محمد رجب

قام الآباء الكرمليون بنشاطهم من خلال الإرسالية الكرملية الكاثوليكية في ولاية بغداد أوائل القرن الثامن عشر, وأسسوا مدرسة دينية صغيرة ملحقة بكنيسة اللاتين عام 1721.في عكد النصارى فــي بغداد، وكـــان مؤسسها الأب الفرنسي عما نـؤيل بـايله (Emmanuel Baillet).

تعد هذه المدرسة من المدارس الدينية التي كانت تتلقى فيها مبادئ القراءة والكتابة والأخلاق والتهذيب والتعليم الديني والطقوس الكنسية , ثم تطورت شيئا فشيئا وانفصلت عن الكنيسة وشرعت بالعمل وفق نظم التعليم الأوربية الحديثة عام 1737 باسم (مدرسة القديس يوسف), وأدخلت إلى منهاج المدرسة العلوم الحديثة واللغة العربية واللغة الفرنسية وقليل من اللغة التركية.

وقد عزم رؤساؤها على تنظيمها وترقيتها إلى مدرسة عالية. وهكذا توسعت المدرسة بفضل الآباء الفرنسيين حتى جعلوها في مصاف المدارس العالية في بغداد عام 1859 , واطلقوا عليها اسم " مدرسة القديس يوسف العالية " التي أصبحت تضم المراحل الدراسية الثلاث الابتدائية والرشدية (المتوسطة) والإعدادية.

وبحلول عام 1880 تولى إدارة المدرسة الأب الفرنسي جان جوزيف الكرملي (Jean Joseph) الذي اهتم بشؤونها ونظم قوانينها وأدخل إلى منهاجها مختلف العلوم والفنون , إذ كان يعرض المسرحيات الدرامية باللغة الفرنسية , والتي أسهمت كثيرا في نشر الثقافة الفرنسية لدى الطلبة , فضلا عن إدخال الآلات الموسيقية النحاسية وكان هو نفسه يضرب على آلة الأرغن ويدرس أُصول الغناء الكنسي.

ومن وصفت مدام ديولافوا (DieuLafoi) الرحالة والأديبة الفرنسية لدى زيارتها بغداد عام 1881 , والتي أبدت إعجابها بمدرسة القديس يوسف الفرنسية، إذ وصفتها بقولها:" أنشأت الهيئة الكرملية في بغداد مدرسة كبيرة تلامذتها كلهم من أبناء بغداد , وهم يدينون باديان ومذاهب مختلفة , ولكنهم جميعاً يجلُّون أساتذتهم والقائمين على تربيتهم وتثقيفهم , ولقد وجدت التلاميذ يبدون شوقا ورغبة في تعلم اللغة الفرنسية والنطق بها. وكم أحسست بسرور طاغ عندما سمعت في الأزقة والأسواق الكلمات الفرنسية بدل الإنكليزية ".

تألفت الهيئة التدريسية للمدرسة للمدة 1893-1895 , من مديرها (الأب ماريا جوزيف الكرملي) مدرس اللغة الفرنسية والعلوم الأدبية والإنسانية , و(الأب جان جوزيف الكرملي) مدرس البلاغة الفرنسية والصرف الفرنسي , و(الأب بيير ماري) مدرس الرياضيات ومبادئ الهندسة والرسم , و (الأب عمانوئيل) مدرس الموسيقى , و (الأب انستاس ماري الكرملي) مدرس اللغة العربية, و (الأب مستر مايكل إبراهيم) مدرس اللغة الإنكليزية. وكان عدد طلاب المدرسة يضم (300) طالب.

ويعد الأب الفرنسي ماري جوزيف ساكره كور الكرملي

(Marie Joseph Sakera core)من مشاهير اساتذتهاومدرائها , إذ قام بتطوير النظام الداخلي للمدرسة وتطوير برامجها الدراسية , أحرزت المدرسة في عهده تقدما باهراً , حتى غدت من المؤسسات التعليمية المعتبرة التي أصبحت تناظر في علميتها المؤسسات التعليمية الفرنسية , وبلغ عدد طلابها لعام 1897 (225) طالبا.

كان المنهج الدراسي لمدرسة القديس يوسف العالية واسعاً وشاملاً، إذ تضمّن مختلف العلوم والمعارف الأدبية والإنسانية , على وفق نظام الحلقات التدريسية التي اتبعتها المدرسة منذ منتصف القرن التاسع عشر , المعمول به في نظام التعليم الأوربي الحديث , وتكون لغة التدريس بموجب نظام الحلقات الدراسية باللغتين الفرنسية والعربية , وتديرها هيئة تدريسية مؤلفة من اشهرالأساتذة الفرنسيين والعراقيين. ففي السنة الدراسية 1898-1899 , ضمت الهيئة التدريسية كلاً من المدير (ماري جوزيف ساكرة كور) مدرس الحلقة الفرنسية الأولىالتي تدرس نهار الاثنين والأربعاء والخميس والسبت صباحا من الساعة الثامنة ونصف إلى الساعة العاشرة والنصف ومواد التدريس فيها هي: التاريخ العام , تاريخ فرنسا , الجغرافية , الحساب , الجبر والمقابلة , الهندسة , الرسم الهندسي , الطبيعيات والكيمياء, مسك الدفاتر , وكان مدرس الحلقة العربية الأولى(الأبانستاس ماري الكرملي), وتدرس هذه الحلقات نهار الاثنين والثلاثاء والخميس والجمعة من كل أسبوع وذلك عقب الظهر من الساعة الثانية والنصف إلى الساعة الرابعة والنصف ومواد التدريس فيها هي: نحو, صرف ومسك الدفاتر, إملاء للتشكيل والإعراب, علم الإنشاء والرسائل وتمرين نحوي ورسالة عربية, جغرافية, وتاريخ كنسي, علم الحساب, كما إن بقية الحلقات الدراسية موزعة على الكادر التدريسي الذي ضم الأب بطرس ماري, ويوسف دانو, ويوسف توماس, ويوسف سركيس, وشمعون افندي, وشكري فتوحي, وقسطنطين حنا، والمدرس الإنكليزي مستر دملو , وناصر جرجيس لتدريس اللغة الإنكليزية , والمدرس التركي رزق الله داود لتدريس اللغة التركية , والمدرس احد قسوس لتدريس اللغة الكلدانية.

أصبحت مدرسة القديس يوسف العالية مضرب المثل بين المثقفين العراقيين إذ وصفت بكونها ارقى المدارس المسيحية في بغداد.وكان لهذه المدرسة مكتبتها الخاصة حيث بلغت محتوياتها تسعة عشر الف مجلد قدرت قيمتها في ذلك الوقت بأكثر من تسعة آلاف ليرة عثمانية.

وقد وصل عدد طلاب مدرسة القديس يوسف العالية في أوائل القرن العشرين وتحديداً في عام 1905 إلى (196) طالبا , موزعين على النحو الاتي (119) طالباً من الكلدان , و (33) من السريان , و (23) من الأرمن , فضلا عن عدد من طلاب الأجانب الذين هم من رعايا الأتراك في بغداد وهم سبعة من الطلبة الفرنسيين , وأربعة من النمساويين , وثلاثة من اليونانيين , وطالبان من إيطاليا , وطالب إنكليزي , فضلاً عن ثلاثة من الطلبة الأتراك , وطالب يهودي.

وقد اعتاد رؤساء البعثة الكرملية أن يقيموا في دير الآباءالكرمليين في بغداد الحفلات التكريمية لتوزيع الجوائز على أساتذة المدرسة والطلبة المتفوقين وتقليدهم الأوسمة، وتقام هذه الحفلات بحضور القنصل الفرنسي ولفيف من الكهنة والوجهاء والأدباء وأعضاء الكادر التدريسي للمدرسة وطلبتها، وكان من بين الطلبة المتفوقين أربعة برعوا في المجالات الأدبية الذي قلدهم القنصل الفرنسي أوسمة التفوق، وهم: يوسف رزوق شفو، واميل جاني لورنس، وفكرة فهمي، ويوسف سليم داود. كما قلّد القنصل الفرنسي المسيو ميكري (Megri) وسام المجمع العلمي للحكومة الفرنسية للمدرس العراقي يعقوب ميخا دانو لكثرة خدماته التدريسية في مدرسة القديس يوسف العالية.

استمر عدد من خريجي مدرسة القديس يوسف العالية بمواصلة دراستهم بالمكتب الطبي الفرنسي الكاثوليكي في بيروت لدراسة الطب، وهم بهجت نصوري, وانطوان جول هوبرت , كما التحق البعض الآخر منهم لدراسة الطب في فرنسا وهم رشيد خياط , ورزق الله بحوشي. وتخرج عدد كبير من الطلبة والذين اصبح لهم شأن في الحياة العامة فيما بعد،وكان منهم الأطباء والمحامون والصيادلة وشغل البعض منهم المناصب العليا في الدولة , في حين عمل القسم الآخر منهم في المؤسسات والدوائر الحكومية ومنها المصرف العثماني.

عن رسالة (المدارس المسيحية في بغداد 1921-1958 دراسة تاريخية).