شمس سالم الدباغ السوداء... قراءة أوّلية

Wednesday 28th of December 2022 11:46:57 PM ,
5337 (عراقيون)
عراقيون ,

علي النجار

لم تكن إختيارات الفنان التشكيلي العراقي سالم الدباغ الأسلوبية, بمنطقة اشتغالاته الفنية التي وجد نفسه منغمرا في فضاءاتها, عمره الفني معظمه, إن لم يكن كله, بنت وقتها, هي ابعد من ذلك بكثير. بل هي تشكلت منذ بداية دراسته الفن التشكيلي في معهد الفنون الجميلة(بغداد), في العام(1958).

في ذلك الزمن الذي بات قصيا, بحوادثه التراجيدية. كنا طلاب فن مبتدئين, لكن لا أنكر بأننا كنا فضوليين, أو مغرورين بعض الشيء. واعتقد بأنها صفات ورثناها من ذلك الزمن الخرافي. لكن ما اذكره عن سالم الدباغ(ونحن زملاء صف دراسي واحد). انه كان على مبعدة من مجال تأثراتنا الدراسية بفنانين أوربيين تشخيصيين معينين. فبالوقت الذي كنت أنا وزملاء آخرين مشغولين بتأثيرات العديد من الفنانين الأكاديميين والانطباعيين دفعة واحدة. اختار سالم الدباغ رسوم الايطالي(مودلياني) مجالا لتأثره الدراسي. هذا يعني انه, بالوقت الذي كنت مثل عدد آخر من زملائي طلاب الفن, مشتتين جهدنا بين أكثر من منطقة أدائية فنية أوربية معروفة بشاسعة موشورها اللوني, و تشضي مساحات أعمالها, أو تفتتها وخفتها, من اجل اكتساب المهارة في التلوين ومعالجة الكتلة(الفورم). كان سالم يختزل مساحات رسومه, أو تمارينه الفنية بتقشف لوني ملحوظ. (ما دامت كل رسومنا تلك, هي مجرد تمارين دراسية فنية) وكان درسه الفني الأول تجسيديا تقليليا, أو بالأحرى اختزاليا نوعا ما.

تشتت سبل إقامتنا ومصائرنا بعد دراستنا في معهد الفنون, ثم التقيت سالم الدباغ بعد ذلك, دارسا في أكاديمية الفنون الجميلة(بغداد), وكان متبهجا بنتائجه التلوينية و الكرافيكية التي كان لأستاذ الكرافيك البولوني(رومان ارتموفسكي) الفضل في تطوير أدواته التنفيذية. لكن أعمال سالم هذه التي اطلعت عليها, لم تفقد ملامح درسها ألتقليلي الأول, رغم ابتعادها عن المنطقة التشخيصية. بل هو ازداد ولعا بتقصي إمكانيات مساحات العمل المفتوحة على نوايا تجريدات فضاءاتها, واستنطاق حوافها عمقا مضافا, تراجيديات أزمنة قصية فقدت ملامحها, لكنها لم تفقد كثافة ظلالها. وبقي بعد ذلك سالم وفيا لمنطقة ظله. لا من اجل استمرائه الخفاء, بل لعلن يسعى لحجب ما يخدش العين, ويشضي الذهن. علن لا يفصح عن مغزاه بيسر, و على المتلقي أن يستعين بحاسة لمسه, قبل بصره, لاستكناه ألغازه التي لا تفقد جمالياتها بالمطلق. فالجمال عند سالم هو ماس خام يخزن بريقه خلف تراكمات جييولوجيا أزمنته التنقيبية.

اعتقد إن ميرلو بونتي في() فلسف للجسد الإنساني كوجود عضوي محكوما بكثافة مادته الحيوية التي فوضت لكل جزء من أجزائه حالاته الاستشعارية الخاصة, المحكومة هي الأخرى بكثافة مادتها, وسواء كانت ملمسا, أو ملامسة لإرادتها الخاصة المتشربة لحالات أزمنتها, وحالاتها, أو دورتها الوجودية الخاصة في نفس الوقت. الجسد افتراضا وجوديا, كما أتصوره عند سالم الدباغ ما هو إلا فضاء متماس و نصاعة عتمته التي اكتسبها من بؤرة الضوء التي تعشي, لا من موشوره اللوني. وهو ومن اجل محاورة هذا الفضاء الجسد حاول دوما البحث عن مخارج للتخفيف من صلابة كتلته السديمية, وليس له إلا أن يحاور شظاياها, أو ظلالها الرمادية. فهو إذا مولع, وكما تفصح عنه أعماله, بصناعة حيرة بصرية. لكنها حيرة لا تفصح إلا عن نوايا لمسها والإحساس بخفايا الغازها التي ليس من الهين اكتشاف مخبوئاتها وسط عتمة تضمر أكثر مما تفصح. لكنها وبشكل عام لا تخفي عاطفة من نوع ما, عاطفة تنبثق من عمق العتمة, تشده و تشد, لا تنفر. وكما هي في مشهديه تضاريس الاحفورات الجيولوجيا الناصعة السواد, المغرقة في سديمية عتمة تواريخها العتيقة.

اعتقد أن لكل لون معماريته الخاصة, التي هي بعض من صلابة أو هشاشة موشوره الخاص. وليس غير الأسود من يمتلك ثقله الفيزياوي الذي لا يضاهيه أي لون آخر. وان كانت الثقوب الفضائية السوداء متاهة بصرية تجذب للمجهول, ولا نهاية واضحة. فان للملونة السوداء نهاياتها الحادة التي تفصلها عن غيرها كتلة لا تفقد هاجس معماريتها الخاصة, حتى وان حاول الفنان تجنب الإفصاح عنها, بوسائله العديدة, فان كان الثقب الأسود يجذبنا إلى المجهول بقوته الخارقة على الجذب. فان المعمارية اللونية السوداء تجذبنا بتضاداتها الحادة والمفردات الأخرى المحيطة بها. لكن أن تصنع من الأسود وحده عملا, فهو التحدي الذي واجه حداثة الفن منذ أزمنته الأولى, وكانت بنائية(ماليفتش) من أولى التحديات, ثم تبعتها محاولات أخرى وحتى يومنا هذا. سالم الدباغ قبل التحدي هذا منذ أكثر من أربعة عقود زمنية ولا يزال. فأية صلابة إرادة امتلكها.

ما هو السر الذي جعل سالم الدباغ يختار الأسود مجالا واسعا لاشتغالات أعماله. هل هو نفس السر الذي دفع الهندي البريطاني(انيش كابور) لأن يختار الأسود ثقبا, أو نفقا يقود للمجهول. وان كانت تقليلية كابور ثقبا أرضيا, فهي عند سالم ثقب السماء بكثافة طبقاتها الافتراضية. فهل الأسود هو مجرد مادة صماء, بما انه لا لون له, كما تدعيه الفيزياء اللونية, أو كما تفصح عنه مجرد خفاء, على الضد من الأبيض تماما. لكنها, وكعلم صرف. تقصي الظاهرة الصبغية التي تعج بها بيئتنا وعمارتنا ومستلزماتنا الشخصية الأخرى. ومنها استقصاءات الطباعة الرقمية(من ضمن استقصاءات أخرى), والتي تقر بوجود خمسون ظلا للأسود. كما ان لكل خامة صبغية(بما إننا نتناول نتاج فنان صباغي) أسودها الخاص الذي تختلف درجاته عن الأسود الأخر, ولكل صبغة معدنية أسودها الخاص. فالصبغة السوداء اللامعة, ليس كما الصبغة السوداء الكابية. وعالمنا يعج بالألوان السوداء, والتي لكل منها تأثيراتها العاطفية والوجدانية الخاصة. وهكذا يبدو أن سالم الدباغ لم يضيع دربه خلال مسالك الأسود التعبيرية التي كنا نضن بأنها ضيقة لحد الاختناق. ويبدو انه خبر جل مسالكها خلال بحثه الفني المضني للبقاء ضمن وفائه لعوالمها التي لا تبوح بإسرارها إلا لمن تدرب على اكتشاف مسالكها التعبيرية السرية.

المستطيل, مربع ممدود, فالأصل فيه هو المربع. والمستطيل أو المربع هو كادر الصورة والتصوير. وبلغة الفن, هو(مساحة استيعاب لما لا يستوعب). ورسوم سالم الدباغ, إن صح تسميتها رسوما, وربما صورا كرافيكية, هي, وكما أرى, لا اعتقدها كذلك. بل هي مساحات معمارية مشغولة بهاجس استدراج صفات هيئاتها المعمارية(مربع ـ مستطيل) لاشتغالات فنية, في عملية تحويلية وتحولية. بمعنى الإقصاء تغريبيا, ثم الإحالة على عمليته التعبيرية التقليلية, فهي لا تلغي الأصل المعماري, بقدر ما تسحبه لعوالم ذهنية. ليس غريبا ان ينتبه المزوق العربي القديم, لقيمة الهامش خطيا في المخطوطة, تفسيرا إضافيا, لكن تزويق الهامش هو ما إضافة طرافة لشكله التصميمي. هوامش سالم هي الأخرى تحمل طرافتها. لكنها من نوع خاص. فهي وكما تبدو دوما, حواف العالم الذي غمره الضوء لحد خفائه وباتت مساحته تضيق بصلابة مادتها السوداء, كما هي أيضا حواف تتماس و فضاءاتها الخارجية المعلومة أو المجهولة. مثلما تجلت مهاراته الفنية في اللعب على هذه المناطق, أو المسالك الخارجية الضيقة. التي غالبا ما جعل منها مركز للشد, أو الجذب و الانبساط, عاطفة تلملم شظاياها وتخبئها ضمن مدارج فضاءات تتدرج رماديتها حتى الانمحاء, في عوالم محكومة بصرامة خطوط تماسها. وتراكمات أثار ملونتها.

في الثقافة الصينية(تتفق الألوان مع العناصر الخمسة الأساسية، و الاتجاهات، و الفصول الأربعة. وارتبط اللون الأسود مع الماء والشمال، وفصل الشتاء). وكما يخبرني الصديق الفنان يحيى الشيخ بأنه يسكن في الشمال النرويجي, في منطقة تعمها الظلمة ليل نهار(تأكيدا للمثل الصيني) أعمال سالم الأخيرة, اشعر بها مغرقة في فصول السنة. فهي تكتنز رطوبة الشتاء, ورياح الربيع وجفاف الصيف. وفي كثافة خطوطها المدارية(حواف العمل) تعلن انتمائها(ضمنيا) لأعمال البيئة. فهل تحققت النبوءة الصينية. ربما هي كذلك, بما أنها مشغولة بتفاني سلوكياته الشعورية.

مثلما أغرت علامات الجدران المرحوم شاكر حسن أل سعيد. السبورات السوداء هي الأخرى أغرت(جوزيف بويز) أعمالا فنية منذ أكثر من أربعة عقود زمنية. (رودولف شتاينر) الأحدث زمنا من بويز. جعل من قوة الفكر في معادلاته المدونة على سبوراته, أعمالا فنية بامتياز(حفظت أكثر من 1100 صورة لسبوراته خلال محاضراته) وكأعمال فنية. وهناك فنانون آخرون لا يزالون يبيضون سبوراتهم السوداء مدونات وعلامات ورسوم خطية, وينتجوا مشهديتهم الفنتازية التي لا تختلف كثيرا عن أعمال التجريد الجديدة (المعاصرة). ولم تكن ثمة نزوة خلف إنتاج كل هذا الكم من السبورات الفنية. فالوثيقة(مفاهيميا) هي أيضا عمل فني. وهذه السبورات هي الأخرى وثائق وأعمال فنية في نفس الوقت. ولسالم الدباغ وثاق من نوع خاص. وحتى لو كانت تقترب من كونها سبورات افتراضية(في بعض من مناطق تكنيكها) فهي ودائما ما تنأى عن العلامات أو الإشارات, كما في الأعمال التشكيلية العربية بشكل عام. هي تنبني على إشباع صبغة نسيجها ألتقليلي لوحده كعلامة متقشفة مستقلة, لكنها لا تبتعد كثيرا عن جذرها العربي الإسلامي, ليس في منطقة الارابسك. بل ضمن مجال ذهني تصوفي هو أعمق غورا. والصفاء الذهني من أهم مقومات إنشائها, واشتغالاتها. وان كان جسد المتصوف لا يستره سوى خرقته. فان اعمل سالم هي أيضا الخرقة والجسد في آن واحد, متلبسين بورطة توحدهما, كائن لا يستر كائن, إلا بما يشف من رهافتهما الأثيرية.

حينما اطلعت على عمل سالم الدباغ الذي رسمه تأبينا لفقيدنا الفنان(ياسين عطية), تذكرت عمل الفنان التجريدي المعروف(روثكو) الذي نفذه باللون الأسود لمطعم الفصول الأربعة في مانهاتن من نيويورك, وتعليقه على عمله الذي ورد فيه(إنه مكان حيث تأتي أغنى الأوباش إلى نيويورك لملء البطون و للتباهي. آمل في تدمير شهية كل ابن عاهرة من الذين يأكلون في تلك الغرفة) روثكو إذا يعلم جيدا كم يمتلك لونه الأسود من قوة تدميرية, وما على الفنان إلا استدعاء تلك القوة وإيداعها عمله. واعتقد أن سالم الدباغ فعل نفس الشيء, فانا, وكلما أتمعن بعمله هذا ازداد ضيقا, وأتذكر زنزانة ضمتني منذ زمان, أصبح الآن قصيا, لكن هذا العمل أعادني إليه عنوة. فيا لهول اللون الأسود وتضاعيفه.

منذ إعجاز الروسي(ماليفتش) في عمله مربع اسود داخل مربع اسود. واللون الأسود ينصب فخاخه لمعظم الفنانين, وخاصة التجريديين بالذات. ما دام حبر الطباعة لم يجف منبعه. وسالم تدرب على الطباعة الكرافيكية عمره كله. وما أعماله بمجملها إلا بعضا من صناعته الكرافيكية بخلفية أحبارها السوداء. خاماته الصبغية كلها تدور في فلك أحباره الطباعية الاولى. وحساسيتها هي بعض من حساسية آلة الحفر الدقيقة, وهو لاعب ماهر في تنفيذ حساسية خطوطه التي تلامس مسالكها الحواس الخمس. خبرته من الدقة بحيث تجاري دقة هذه الآلة الحادة, وبالذات حينما تطاوع أنامله مساراته الذهنية و تحفر مسالكها البنائية ضمن طيات تراكم سطوحها, أو خفتها, وبما يوازي بوحه الذاتي.

بعيدا عن اللون والصور, غمر سالم الدباغ ذاته الابداعبة في عالمه الذي حددته اتجاهاته الأربع. هندسة مصائر جغرافية. سادرة في عوالمها, لعبة مستطيلات أو مربعات شطرنجية. ولا مكان للانحناء(الانحناء,قوس لين ـ أنثوي), لكن بالرغم من صلابة أعماله, بعتمتها التي تزيد من صلابتها. إلا أن ثمة أنثى من صنف ما تختبئ ضمن تلافيفها. هي رقة من نوع ما, ربما كسبها سالم الدباغ من جلده الدائم للعوم فوق أزمنته, ولينجو من تقلباتها الكارثية. وان بدت رسوم(الفنان الأمريكي ريتشارد سيرا) حساسة مثل الشمس السوداء. وهو المعروف بمنحوتاته التقليلية بصفائحها الملتوية. فان رسوم الدباغ هي الأخرى سعت لامتصاص الضوء, لكن من اجل بثه مرة أخرى, وكما نوتة الموسيقى الناعمة, لكنها الأكثر جذلا وإثارة للحواس. فهل حقق سالم الدباغ نبوءته الأولى لدخول بؤرة الضوء والعوم في فضاءاتها, كائن أثيري لا يمتلك غير أداته التعبيرية, وجذوة من شباب عمره الدائم.