ناجية غافل مراني .. ذكريات

Thursday 5th of January 2023 02:19:55 AM ,
5341 (عراقيون)
عراقيون ,

فهيم عيسى السليم

لا أدري من أين أبدأ الحديث عن هذا الإنسان الرائع المتميز بما في الكلمة من معاني ولأن المتميزين كما هو معروف كثيرون فلا بد هنا وحتى أفيها بعض حقوقها أن أسطر بل أحاول أن أسطر ما يميزها عن باقي المتميزين ويجعلها تقف في الصف الأول من النساء العالميات العربيات العراقيات المندائيات بنات الجنوب العراقي الحبيب.

السيرة الذاتية المختصرة

الإسم الكامل:ناجية غافل مران المراني

محل وتأريخ الولادة:العمارة 1918

التخصص:الأدب الإنكليزي المقارن

التحصيل العلمي الجامعي

· دار المعلمات الإبتدائية 1935(معلمة ومديرة مدرسة ل 27 عاماً)

· الإعدادية الفرع الأدبي 1949 حيث درست (وهي معلمة) في المدرسة المسائية .

· بكلوريوس أدب إنكليزي(كلية الآداب جامعة الحكمة) 1969

· ماجستير أدب إنكليزي مقارن(الجامعة الأميركية بيروت) 1974

· مرحلة في دراسة الدكتوراه في الأدب العربي من نفس الجامعة إنقطعت 1975

· تفرغت بعد ذلك للكتابة في عدة مجالات سنتطرق لها كل في محله

الشخصية المستقلة الواثقة المتأنية

ثانياً:حب الحياة والجمال والهدوء والوداعة وفي نفس الوقت كره وتجنب الملكية الشخصية والإبتعاد عن أي طمع شخصي فلم تحاول مطلقاً أن تملك أي شيئ مما يطمع به الآخرون كالمال والذهب والأملاك وفي المقابل كانت تلبس دائماً الجميل المهندم الغالي من الملابس مما يضفي على شخصيتها مهابة وجلالاً متميزين.

أحب الغناء أحب القصيد أحب الحياة إحتفاءً وعيدْ

أحب الأريج بثغر الزهور أحب الربيع بهيجاً سعيدْ

أحب الجمال غذاء النفوس وسر الحياة ودربُ الخلودْ

خلقت ألوفاً أحب الجميع وبؤس البرايا عدوي الوحيدْ

وحين سألها أحدهم عن بيت تملكه كتبت

ليس لي بيت ولكن لي هاتيك البيوت

ناطقاً بالود في أحنائها حتى السكوتْ

إن من كان محباً أو حبيباً لا يموتْ

ثالثاً :المنهج العلمي التحليلي المعرفي: الإكثار من التعلم والغوص في التحليل والبحث الأكاديمي المتجرد والبحث عن الحقيقة والعثور عليها يشبه عثور الغواص على درة ثمينة ونذرت نفسها للعلم والبحث العلمي .

رابعاً: في الوقت الذي كانت فيه تكتب وتؤلف وتحلل لم تنقطع أبداً علاقتها بالناس وهم أنواع وحلقات من المريدين الذين يجعلهم حضورها متهيبين لسبب مجهول فمجرد حضورها يحيل المكان الى قاعة للدراسة والأدب والشعر ويتطلع الموجودون دائماً لسماع الجديد فهي تعكس عند وجودها الجديد الذي توصلت إليه .

كل عمري لم أجلس مرة في مجلسها وكان الحديث عادياً فلابد من قضية أدبية أو شعرية أو لغوية .

خامساً:لم تتزوج ولكن الكثيرين وأنا منهم يعتبرونها أمهم بل وعرّابهم ومربيهم وأرى فيها دائماً الصورة المثقفة الملهمة لأمي .

ونحن الحلقة الأقرب لها لم تعاملنا أبداً بشكل متساوي حتى وإن كنا جميعاً على مستوى واحد من القرابة .كان لديها علاقة خاصة مع كل واحد منا تعتمد على هوى ومشارب ونشاطات وقابليات ذلك الواحد منا تأخذ منه ما يحب هو أن يعطيها من المعلومات والأفكار وتعطيه ما تعتقد هي أنه يضعه في مرتبة أفضل من التي هو فيها.

تعلّم بلا تعليم وتوجه بلا توجيه وتنصح بلا نصيحة .غير مباشرة أبداً .

تقدّم المثل الصالح الجميل بلا مقابل وتدعوك الى وجبة ثقافية مجانية مع كل جلسة ممتعة.

ومن العجيب أننا جميعاً أولاد وبنات أخويها وأختها وزوجاتنا وأزواجنا عاملتنا بما يرضينا ويرضي غرورنا دون أن يغار أحد من أحد فعلاقاتها دائماً ذات وجهين المهم فيهما ذلك الوجه غير المرئي للآخرين إنه محراب العلاقة الخاصة ذلك الحبل السري الذي تغذيه هي بما تعتقد أنه ينمّي ويطور جزء من روحها داخل ذلك الإنسان وهذا ما حصل لي وأظن أنه حصل للجميع وبشكل متفاوت.

سادساً:الزهد في المناصب والمواقع أياً كانت وحين طلب منها ترؤس مجالس طائفة الصابئة المندائيين في العراق إعتذرت بل وكتبت قصيدة عبرت فيها عما يعتمل في داخلها من رغبات لا تعنى بموقع أو منصب دنيوي وهذا يحيلنا الى صلب الديانة المندائية الغنوصية المعرفية التي تتطلب أن يرتقي الإنسان في الحياة وفي تقربه من الخالق عن طريق المعرفة والكشف والإكتشاف.

سابعاً : رغم وطنيتها وإعتزازها الكبير بالعراق وأرض العراق وحماسها للحركة الوطنية العراقية وهي القائلة في أوائل الخمسينات حين رشح المرحوم عبد الرزاق زبير نفسه للمجلس النيابي قصيدة مطلعها

نسري بنور جبينك الوضاح ياإبن الزبير فديتَ بالأرواحِ

إلا أنها لم تتدخل بالسياسة ولم تمارس أي نشاط سياسي وبقيت الى النهاية مخلصة لعلم العراق ونهريه وسماءه عراقية الهوية والمذهب.

سابعاً:الشجاعة والثبات في مواجهة الموت

كانت الخالة ناجية دائماً تتناول موضوعة الموت ومواجهته وتتحدث عنه بواقعية وهي متهيئة نفسياً لمواجهته وكدليل على ذلك كتبت وصيتها شعراً ونشرتها منذ سنين قائلة

في غــدٍ يا أهــلُ إن حُــمَّ الرحيلْ وانثنــى خِـــلٌ لتوديـــع الخليــــلْ

واستقــرتْ خفقـــة في جانحـــي واهتدت روحي إلى النبع الأصيل

اذكروني وابسمــوا لاتحجــمـوا إنمّــا الذكـرى عــن اللقيا بديــــل

واحفظـــوا الــودَّ الــذي خـلـَفتـه في كتــابٍ عندكم حفـــظ الجميل

في غــدِ يا أهــلُ إن عــزّ اللقــاء اذكـــروني مـــعْ تراتيـــل المساء

في ثنايا الروض إن طاب الشذى في التجلـــي واستجابــات السمـاء

اذكروا حبـــاً كينـــبـوع الصّفـــا لـم يهــُنْ يومــا ولم يســـأل جزاء

اذكروني وابسمـــوا لاتجزعـوا فأنـــا أرجـــو ابتسامــا لارثـــاء

سامحــوني واحجبــواعني البكا أنا تـــؤذينـــي دمـــوع الأبريـــاء

وغـــدا يا أهـــلُ إن شطّ المزار اذكـــروني مع تبـــاشير النهــــار

عنــدما تصحو أزاهيــرالرُّبــى حينمـــا تعلـــو أغــاريد الهـــزار

في التـــرجي وابتســامات المنى عندمـــا تحلــو أهازيج الصغـــار

إسألــوا عنـــي فـــي أسمـــاركم لا تنـــاجـونيَ في بُـــكمْ الحجـــار

أنـــا أحيـــا كلـمــــةً شاعــــرةَ وإبتهـــالاً طيبـــا فــــي كــل دار

في غـــدٍ يا أهــلُ إن حُمَّ الرحيل وانثنـــى خـلٌّ لـتـــوديع الخليــــل

انثروا حـولي زهـــورَالياسمين واجعلوا قبــــري في ظلّ النخيــل

قليلون من يكتبون وصاياهم وأقل منهم من يكتبون وصاياهم قبل فترة طويلة من دنو الجل او إقترابه.

الإنسان العظيم المتجرد من أسمال الدنيا وعالمها الأرضي المظلم هو من يفعل ذلك وليته فعل فقط بل فصل وصيته شعراً جميلاً مسترسلا واضحاً بحيث لم يترك شيئاً مهماً إلا وتناوله

التقديم

في غــدٍ يا أهــلُ إن حُــمَّ الرحيلْ وانثنــى خِـــلٌ لتوديـــع الخليــــلْ

واستقــرتْ خفقـــة في جانحـــي واهتدت روحي إلى النبع الأصيل

في بيتين جميلين كتبت الفقيدة مسار رحلتها الأبدية ونهايتها المعروفة مع معرفتها الكاملة غير المشكوك فيها بإهتداء روحها الى النبع الأصيل وهو تعبير راقي عن عودة الروح الى بارئها.

الوصايا

· أوصت أهلها ولم توص الغرباء

· إذكروني وإبسموا

· إحفظوا الود الذي خلفته مكتوباً لديكم في كتاب

· حفظ الجميل

· طلبت أن تذكر مع تراتيل المساء/في ثنايا الروض لو طاب الشذى/في التجلي/في إستجابات السماء.وكلها مطالب روحية من الأهل لا دنيوية فهي تريدهم أن يستخدموا ذكراها لترتفع نفوسهم مرتبة في عالم الروح.

· أوصت أن يذكروا الحب الصافي الذي لم يهن يوماً ولم يطلب جزاء ولا شكورا

· أوصت أن نبتسم حين نذكرها ولا نجزع

· أوصت أن لا نرثيها بل أن نبتسم بدل الرثاء

· طلبت أن نسامحها لما أصابنا بسبب وفاتها ونحجب عنها البكا وهي بهذا اعلنت وجودها بيننا بعد رحيلها وأردفت أن دموع البرياء تؤذيها وهي في العالم الآخر كما كانت تؤذيها وهي بيننا

· طلبت أن نذكرها مع تباشير النهار/عندما تصحو أزاهير الربى/وتعلو أغاريد الهزار ومرة أخرى كل المطالب روحية فهي تدري أن أهلها حين يذكروها بهذه الطريقة فهي تمدهم بالإسناد الذي يحتاجوه بعد فراقها وأيما حاجة

· واردفت أن نذكرها في الترجي/في إبتسامات المنى/وعندما تعلو أهازيج الصغار

· أن نسأل عنها في أسمارنا ولا نناجي قبرها وهو الحجارة البكماء الصماء.

(مستل من مقال طويل عن الراحلة المراني)