صلاح فضل: حرّك مياه النقد الراكدة ورحل

Wednesday 11th of January 2023 01:46:45 AM ,
5345 (منارات)
منارات ,

بروين حبيب

يضع القدر في طريقنا أشخاصا يتركون بصمتهم فينا، ويكونون أدلاء على الطريق يصوبون مسيرتنا ويوجهوننا نحو الأفضل وتجاوز الذات، وفي الوقت نفسه يكونون أشبه بصوت الضمير حين نغفل عن أهدافنا، أو نتعب من ملاحقتها، أو نعجز عن تحقيقها ببساطة. قد نعدّهم على الأصابع غير أن أثرهم فينا مفصلي.

وقد فجعت قبل أيام بغياب أستاذي وصديقي وأبي الروحي صلاح فضل، ورغم أنني زرته وهو في العناية الفائقة ورأيت كيف ينطفئ من كان لا يتعب من النشاط الدائم تأليفا وتدريسا ومشاركة في الندوات وتحكيما في الجوائز، ورغم أن غيابه كان متوقعا بحكم مرضه وسنه إلا أنني كنت أطمع أن يمهله القدر لأهله ومحبيه وتلامذته قليلا. كان صلاح فضل «عرابي» كما يحلو لي أن أسميه، فمنذ أكثر من ثلاثة عقود كان البوصلة التي تعيدني دوما إلى الوجهة الصحيحة، وتكبح جماح مغريات النجومية والضوء ولهاث وسائل التواصل لحساب الدراسة والبحث والتدريس، وفي كلمة واحدة لحساب العلم.

قبل تعرفي على صلاح فضل وتتلمذي عليه، كنت طالبة مولعة بالأدب أنتمي إلى ما اصطلح عليه بالجيل التسعيني في البحرين، أدين لعلوي الهاشمي بتشجيعي، حين نشر لي أولى محاولاتي الأدبية في صفحة «حقيبة الأدب» في مجلة «هنا البحرين» كما أدين للشاعر قاسم حداد بفتح مسالك لنا لم نألفها، وتذكيرنا بإبداعه، أن الشعر ليس ما تقدمه لنا المقررات الدراسية فقط، بل أوسع وأعمق وأجمل، فنحن الجيل الذي خرج من عباءته. وقد كتبت قبل سنوات في كتابي «دنتيلا.. أقل من صحراء»: «أتذكر ديوان قاسم حداد (قلب الحب) .. قاسم لعب دورا مهما في تكريس تقاليد لكتابة وتذوق واستقبال واحتضان الشعر الجديد في البحرين». كنت أنتمي إلى الملتقى الشبابي بأسرة الأدباء والكتاب البحرينيين، وأكتب قصيدة النثر رافعة شعار «الجمهور فكرة حمقاء» متأثرة كأبناء جيلي بكتاب أدونيس الباذخ «الثابت والمتحول» خاصة جزءه الثالث «صدمة الحداثة» ومولعة بمحمود درويش، وإن كان نزار قباني لم يتنازل عن عرشه في قلبي لأحد. أما تكويني النقدي آنذاك فكان ثقافيا لا أكاديميا، تحكمه قراءات مبنية على تتبع الجديد من الكتب وتوصيات الأصدقاء الأكبر تجربة، وحين وصلني كتاب «جدلية الخفاء والتجلي» للناقد كمال أبو ديب ـ وكان قد صدر في بداية الثمانينيات ـ أخذ بيدي كـأليس في «بلاد العجائب» إلى حديقة سحرية اسمها «البنيوية» فترك الجرجاني والجاحظ وابن رشيق أماكنهم لرومان جاكوبسون ورولان بارت وتودوروف.

من حظ جيلي وفرة الترجمات في النقد الغربي إلى العربية، فكتاب دو سوسير المرجعي في اللسانيات تُرجم خمس ترجمات في بلدان عربية متعددة خلال سنتين فقط (85-87) وبقدر ما مثلت ترجمة الكتب النقدية ظاهرة صحية، كان عدم استقرار المصطلحات بالعربية يسبب لنا إرباكا وأحيانا صعوبة في فهم النصوص، فكان لا بد لي من دليل يقودني في دروب غابة النقد الحديث المتشابكة. ومن حظي أن جاءنا صلاح فضل أستاذا زائرا إلى جامعة البحرين. ومع دخولي الجامعة ووجود صلاح فضل فيها، بدأت مرحلة جديدة في حسي النقدي وتكويني الأكاديمي، فما كان أشتاتا متباعدة وشذرات متفرقة من القراءات النقدية، انتظم في سلك واحد، ولم أعد أخشى الغرق في تنظيرات الشكلانيين الروس ولا تفكيكية دريدا، فربان السفينة ماهر، بل ساهم في صنعها من خلال تعريف القراء المبكر بمدارس النقد الغربية.

درسني صلاح فضل مادتيْ التحليل الأدبي وعلم الأسلوب، ومن أصلح منه لتدريس هذه المادة وقد كتب فيها كتابه «علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته» ولا يزال بعد قرابة أربعين سنة من صدوره سنة 1984 مرجعا لا غنى عنه لأي طالب أو باحث في الموضوع. كما درستُ عنده مادة الأدب الأندلسي، وهو من رواد هذا التخصص فلم أقطع صلتي بالتراث العربي وإن كان أندلسيا. كان همي مشغولا بفهم المدارس النقدية الغربية، خاصة هذا الغول الجميل المسمى البنيوية فقد كانت لغة كتب البنيوية «عسيرة ومستعصية، بمصطلحاتها الجديدة، وتقنياتها غير المألوفة، وكان كثير من النقاد الجدد يزيدون أمرها صعوبة باللجوء إلى الجداول والرسوم البيانية» فجاء أستاذي في كتابه عنها فـ«اصطنع لغة جديدة تجمع بين الدقة المنهجية وروح العلم وشعرية الإبداع في سبيكة نقدية مصهورة» كما ذكر في سيرته النقدية (عين النقد(.

كان معلما حقيقيا موهوبا في التدريس اجتمعت فيه الثقافتان الأزهرية التراثية والغربية النقدية في امتزاج فريد، إلى الآن أذكر تحليله لقصيدة أبي تمام التي مطلعها: «رَقت حَواشي الدَهرُ فَهيَ تَمَرمَرُ» كان الأمر أشبه بتقشير برتقالة لنتجاوز القشرة إلى اللب، في تطبيق لافت للمناهج النقدية الحديثة على قصيدة عمودية عباسية. وهذا الولع بالنقد التطبيقي كان هاجس أستاذي الدائم، ومن ذلك مقال نشره في مجلة «فصول» الشهيرة التي كان من مؤسسيها ونائب رئيس تحريرها بعنوان «نص شعري وثلاثة مناهج نقدية» هي المنهج التاريخي الاجتماعي، ومنهج التحليل النفسي، والمنهج الدلالي الذي ليس في حقيقته سوى المنهج البنيوي مقنعا. نقل إلينا صلاح فضل هذا الولع، ووجدت فيه نفسي، فحبي للنقد وميلي إليه يطغى في أحيان كثيرة على الجانب الإبداعي في كتابة الشعر. كان يحثنا بطريقة غير آمرة وغير مباشرة على امتلاك الأدوات النقدية من خلال القراءات المكثفة، وما كان يذكر كتاباً إلا وبادرت إلى الحصول عليه وقراءته والرجوع إلى أستاذي ليفكك لي ما استعصى عليّ. فبإشارات منه قرأتُ لمحمد برادة وعبد الفتاح كيليطو ويمنى العيد وخالدة السعيد زوجة أدونيس، التي كانت تحمل مشروعا نقديا كبيرا، لكن للأسف لم يكتب له الاستمرار. وكنت محظوظة أيضا أن درسني عبد السلام المسدي العالم الألسني الكبير في مرحلة الماجستير فأسهم في بناء وعيي النقدي.

ميزة صلاح فضل تبنيه للطلبة الذين يتوسم فيهم الجد الأكاديمي والوعي النقدي، فعلَ ذلك مع الباحث محمد البنكي، رحمه الله، وكان رهان النقد في البحرين غير أنه توفي شابا وهو في عز عطائه العلمي، وفعل ذلك معي حين أصر عليّ أن أكمل الماجستير في القاهرة، وحين تحججت في إمكانياتي التي لا تسمح، قال لي بلهجته الأبوية المحببة «قوي قلبك بيعي السيارة، وحين تحصلين على الشهادة تعرفين قيمة ما أقول لك». ونصحني بدراسة شعر نزار قباني حتى أخفف من (تهوسي) به كما وصف ذلك في مقدمته للرسالة حين طُبعت كتابا.

وحين عملت في تلفزيون دبي خشي عليّ من الأضواء وتبعات النجومية أن تصرفني عن البحث العلمي ومسار النقد الأكاديمي، فألح عليّ أن أتسجل للدكتوراه بإشرافه، وبفضل صلاح فضل ناقشت أطروحتي في موضوع محبب إليّ وهو «شعرية المرأة في الخليج» فأتاح لي فرصة تطبيق المناهج النقدية الحديثة على مدونة القصيدة المؤنثة الخليجية.

بعد فترة التتلمذ على يديه في الماجستير والدكتوراه تحولت العلاقة بيننا من طالبة وأستاذها إلى صداقة علمية وشخصية، فكان يلفتني دائما إلى عدم إهمال البحث والعمل الأكاديمي ويكرر على مسامعي دوما «المذيعة مثل لاعب كرة القدم عمرهما المهني قصير» ويحثني على التواصل مع الوسط الجامعي، كنت آخذ عليه مجاملته لبعض من لا يستحقون في رأيي ما كان يسبغه عليهم من أوصاف فيجيبني بابتسامة مصحوبة بصمت يقول الكثير. وحين نما الريش في جناحي وصرت قادرة على الطيران خالفته في بعض آرائه، دون أن نختلف يوما فكان يفرح بالمخالفة أكثر من فرحه بالموافقة، وهي خصلة نقدية لطالما اتصف بها حيث تهمه الأسئلة أكثر من الأجوبة لأن الوصل نهاية. والطريق عنده أهم من الوجهة.

استضفت أستاذي في برنامجي «أهل المعرفة» مرارا، وكنت أبذل جهدا مضافا في تحضير حلقته لأستخرج منه ما لم يقله سابقا، لاسيما أنه كان إلى موسوعيته التي فتح آفاقها إتقانه الكبير للغة الإسبانية، قارئا نهما ينصحني بما يجد في عالم النقد، وألفت نظره إلى الروايات المميزة التي أطلِعُ عليها بحكم متابعتي ومشاركتي في تحكيم الجوائز كالبوكر العربية وجائزة الشرقي.

رحم الله أستاذي صلاح فضل فقد رحل في صمت وشيعه إلى مثواه الأخير قلة من الناس بعد أن كان مالئ الدنيا وشاغل الناس.

عن صحيفة القدس العربي