تشارلز سيميك.. ذبابة السيرة الذاتية

Wednesday 18th of January 2023 12:21:15 AM ,
5350 (منارات) (نسخة الكترونية)
منارات ,

علا المصياتي

كيف يمكن لسيرة ذاتية أن تتلخص في صورة حساء فيه ذبابة؟ تلك هي باختصار سيرة الشاعر الأمريكي من أصل صربي تشارلز سيميك (1938). سيرة وشخصية يشبهان بعضهما البعض. فمن يولد في يوغوسلافيا، أو إحدى دول أوروبا الشرقية،

سيمرّ تاريخه الشخصي بكل ما هو عام وواسع في انعكاسات العالم، وستتحول تفاصيله الخاصة إلى فقاعة لامعة كمنظر ذبابة في صحنٍ من الحساء. هو تشبيه يجبرك على البحث عنه بين سرد الذكريات والوقائع التي يمتلئ بها كتاب السيرة الشخصية لسيميك "ذبابة في الحساء" (دار الكتب خان 2016، ترجمة إيمان مرسال)، ليس لأنه عنوان الكتاب بل لأنه تلخيص لحركة التاريخ التي وقعت على رأس تلك الشخصيات، وسارت معها أثناء ترحالها وهجرتها ولونت شكل وطبائع بشر كثيرين.

من الجوع يبدأ سيميك في بلدته بعد أن هجر الأب أسرته الصغيرة مطاردًا حلمه برؤية مدينة نيويورك، التي كانت أكبر من كل الأفكار، وحتى أكبر من الحرب نفسها، هكذا بدأت الأسرة تقايض ممتلكاتها بخنزيرٍ بريّ مرةً، وببطة مرة أخرى. لتلعب فكرة الطعام والحيوانات البريّة التي تُربى لتكبر، وريثما تتحول لولائم وسُفر تملأ البطون الجائعة، إلى جزءٍ من ذاكرة وطفولة الكاتب. يتحرك مالكو تلك الحيوانات في بيوت أصحاب المقتنيات يرفضون ويقبلون البدل الرسمية والفضيات والأواني والتذكارات، لتمضي سنوات الحرب الأولى ويوغوسلافيا تقايض بعضها البعض من أجل أن تأكل.

أمّا على جانب آخر من بداية تلك السيرة، فيشكل لقاء الكاتب مع أحد الشعراء الأمريكيين مفصلًا مُثيرًا للروي والتخيل، فاسحًا للقارئ البعيد تخيل تلك العاديّة التي كانت تُقصف بها مدينة بلغراد، حين أخبر ذلك الشاعر تشارلز سيميك حكايته مع المدينة، فالشاعر لم يزروها أبدًا بل قصفها مرات عديدة، إذًا كنت تقصفني أنا. تعبر السيرة الذاتية تلك الأسئلة الأخلاقية التي لم يتوقف عندها سيميك وقاصفه، أو أحد الشعراء على حدّ سواء. فتعبر زمنيًا بيوتًا مقصوفة كانت فارغة وأخرى لايعرف سكانها كيف سيمضون أيامهم جوعى.

إذا افترضنا أن الجوع ينتهي بعد أن تغادر العائلة يوغوسلافيا وتبدأ طريقها إلى إيطاليا، ومن ثم فرنسا، بهدف اللحاق بالأب المتأمرك. لتبدأ رحلة الصبا واليفاعة، صعبةً بلغة فرنسية يصعب نطقها وفهمها، أدت إلى كسلٍ وتأخرٍ مدرسيّ عند سيميك، يتذكرها بقسوة ويستدرجها عبر ساحة الشانزيليزيه التي قصدها أول مرة مرتديًا معطفه الفضفاض الذي يشي بفقر حاله، حين عاش مع أمه وأخيه عامًا في فندقٍ فقيرٍ ينام فيه على الأرض، ويستغرق وقتًا طويلًا بتأمل واجهات المحال الباريسية، بصحبة من هم مثله، مغتربين وفرنسيتهم ثقيلة لا تكاد تعينهم على مواعدة الفتيات.

تلك العادة التي ظلت معه حتى ركب البحر إلى أمريكا، التي بدت مختلفة عن أوروبا بكل ما فيها من قمامة ونفايات ولوحات طرقية وواجهات محال، شوارع وأبنية. هو الحلم الأمريكي الذي أنقذ عائلة يوغوسلافية من وابل قذائف الحلفاء الملقاة في عجلة على بلغراد.

يلعب الأب جزءًا كبيرًا من تشكّل وعي الطفل، من خلال علاقة غير تقليدية باتت مفتاحًا لفهم خبايا ذلك الصبا بكل ما منحه الأب من ثقة وتوافق أزالتا عبئًا ثقيلًا، كانت الأم تزيده قساوة خلال رحلة الهجرة والهروب، من تفاصيل صغيرة بإجباره على ارتداء معطف كبير، وامتناعها عن شراء الملابس الجديدة، أمام تبذير الأب للمال بهدف المتعة، حتى لو كان أجار البيت أو مالًا مدخرًا للضروريات.

هناك في أمريكا بدأت تأملات الشعر والفن والفلسفة، في تلك المرحلة التي تنقلب معها حياة سيميك، وصفحات الكتاب أيضًا، الأمر الذي يجعل منه كتاب سيرة ذاتية لكاتبٍ يتقن السرد الشخصي الخاص فيفرد حياته من خلال أقسام وصفحات إلى أعوام ووقائع وتفاصيل.

تتكون تأملاته من صيغة فريدة لتجارب تهجير وتهميش كأفراد غرباء في بلدٍ كبير، وكهاربين من نظام شيوعي اعتبره العالم آنذاك الجنة المرجوة. كان الفاشيون يعتبرونهم شيوعيين، والشيوعيون يعتبرونهم فاشيين، هذا ما خرجوا به من بلدٍ أكلت الحرب كل ما فيه، حتى اسمه.

حلم بممارسة الشعر لكنه لم ينعم برغد الحياة في بلدٍ منتصر، حيث ساقته ظروفه ورغبته بالاستقلال عن والديه للعمل ومجابهة أحد شروط الحلم، فلم تعد واجهات المحال وإعلانات الصحف للتسلية والتأمل، بل أصبحت شغلًا يعيش منه. اكتشف موسيقى الجاز والرسم والقراءة، حاول التقرب من المشهد الأدبي في شيكاغو ونيويورك في النصف الثاني من الخمسينيات، من خلال بحثه عن حضوره الشعري في الأمكنة التي تنقل فيها. لتنقلب الحياة والشعر والتفاصيل مرة أخرى، فتمر تجربته الشعرية بتحولات شتى وضغوط نفسية شديدة، يعاني معها مرارة ظروفٍ تكاد توازي تجربة الهجرة الأولى إلى باريس، بعودته مرة ثانية إلى فرنسا ولكن كمجندٍ عسكري أمريكي.

أصدر تشارلز سيميك بعد تخرجه في جامعة نيويورك 1966 مجموعته الشعرية الأولى "ما الذي يقوله العشب" ليبلغ عدد كتبه أكثر من عشرين مجموعة شعرية وكتب أخرى تضم مقالاته وبحوثه. من كتبه المنشورة: "محيطي الكتوم" 2005، "قصائد مختارة" 1963- 2003 وقد حصلت هذه المجموعة على جائزة جريفين الدولية للشعر عام 2004، وسرعان ما جذب الاهتمام أدبيًا ونقديًا بعد نشره لقصائد باللغة الإنجليزية وترجمات شعرية لشعراء يوغسلاف. ينوه لها في مقدمة الكتاب شارحًا لعنة التهميش والحرب التي أخفت الكثير من الشعراء والكتاب اليوغسلاف. نالت أعماله الشعرية جوائز عديدة منها جائزة البوليتزر لعام 1990 عن ديوانه "العالم لا ينتهي"، وجائزة والاس ستيفنز عام 2007 وانتخب لمنصب شاعر الولايات المتحدة في نفس العام.

تقدم هذه السيرة أفكارًا وتفاصيلَ لتجربة حياة تشكلت في انعطافاتها موهبة الشعر والكتابة وصقلتها الخبرات التي شكلت الذاكرة منبعًا غزيرًا لها، فأثمرت شاعرًا وكاتبًا له حضوره وموقعه في المشهد الأدبي المعاصر. يقول سيميك في كتابه: "علمتني حياتي أن التخطيط للمستقبل مضيعة للوقت. اعتاد أبي أن يسألني مازحًا: إلى أين ستهاجر المرة القادمة؟ ما زالت تجربة القرن العشرين في المنافي مستمرة. مَن هم مثلنا كانوا حيوانات تجارب. أغرب ما في الأمر، أن يقوم واحد من فئران التجارب بكتابة الشعر».

غالبًا ما تتضارب تفاصيل الحرب مع تفاصيل التجربة الإبداعية، التي أنتجت ذلك الطابع التشاؤمي والمزاج السوداوي لدي سيميك. كما ساعدت رؤيته للعالم التي لعبت فيها الزوايا العديدة التي رأى منها عالمه ووعيه المبكر في اكتشاف أهوال الحرب. فعلقت مرحلة الطفولة وانسحبت لتشكل نواة أساسية في العملية الإبداعية عند الكاتب.

عن موقع / الترا