في وداع تشارلز سيميك

Wednesday 18th of January 2023 12:22:16 AM ,
5350 (منارات) (نسخة الكترونية)
منارات ,

تقديم وترجمة: عبود الجابري

رحل تشارلز سيميك عن 84 عاماً، قد يبدو الموت خبراً مألوفاً لعامة الناس، لكنّ فجيعة الشعر تكمن في موت الشعراء، لاسيما من هم بمنزلة سيميك، أولى ترجماتي له كانت عام 2012، وبعد ذلك استمرت قراءتي له وتواصلي الخجول معه، لذلك سأحتفي بذكراه هنا، عبر نشر مجموعة من النصوص التي ترجمتها في أوقات متفاوتة.

أحبُّ سيميك لأسبابٍ ذاتية تجعلني قريباً من نصوصه الشعرية، وتلك الأسباب هي ذاتها التي قادته الى أن يكون شعره وليد التجارب التي عاشها أو مرت عليه، بدءاً من هجرته صحبة والدته الى أمريكا، وذلك يعني فضاءً لغوياً جديداً عليه أن يغامر في السباحة أو السياحة في أمواجه، مغترباً عن لغة مسقط رأسه، الأمر الثاني هو الانخراط في الخدمة العسكرية في الجيش الأمريكي شابّاً، وهو نوع من الإكراه القسري الذي تفرضه قوانين الخدمة الالزامية، وما يصاحب هذه الخدمة بالنسبة لمهاجر، من صراعات نفسية بين الولاء للوطن الأم والوطن الحاضنة، والصمت الاجباري الذي قد يكون من هو بمثل سيميك عانى منه تبعاً لوعيه المبكر وشاعريته المبكرة، كذلك أجدُ فيما عاناهُ سيميك من عسر في الحياة وفقدان سكينة معيشة جعله يتنقل بين مهنٍ كثيرة لتأمين قوت أيامه، أجد فيه عاملاً آخر أسهم في تنوّع مواضيع قصيدته، الأمر الذي جعل بعض النقاد يصنفون بعض قصائده ضمن الشعر اليومي الذي يلتقط التفاصيل الصغيرة ويشعل في اهابها روح الشعر، لكنَّها روح سيميك التي لايمكنُ سبر أغوار لغتها بالسهولة التي تمتاز بها القصيدة اليومية، فهو أستاذ لغة، ويمكنني الاعتراف كذلك أنَّ ماقادني لمحبّة سيميك بشكل أعمق هو بعدُ قصائده عن الحشو اللغوي الذي تمتاز به بعض قصائد من جايلوه من الشعراء، ربّما لميل شخصي الى القصيدة التي تحملُ معاني مضلّلةً تصلح لتأويلات متعددة بعيداً عن سمة التطويل الذي يأخذك في رحلة متعبة لامعنى لها، من أجل الوصول الى قلب المعنى، وفي النهاية أجدني مشدوداً اليه شاعراً كبيراً يعمل بدون صخب أو ضجيج، بيدَ أن قصيدته تمضي بعيداً لتوقظ الغافلين عن الجمال... إنَّه انتصار المرء حين تكون حياته دافعاً لرسم صورة أخرى لحياته عبر النأي بذاته عن الادّعاء..

كيف يعمل الموت.. ؟

لا أحدَ يعلم

في أيِّ يوم طويل سيحطّ رحاله

الزوجةُ الوحيدة دائماً

تكوي غسيلَ الموت

البناتُ الجميلات

يقمن بأعداد طاولة عشاء الموت

الجيرانُ يلعبون الورقَ في الفِناء الخلفي

أو يكتفون بالجلوس على العتبات

ليحتسوا البيرة

وفي غضون ذلك

وفي جزءٍ غريب من المدينة

يبحث الموتُ عن أحدٍ يسعل بشكلٍ رديءٍ.

غير أن العنوانَ مضلّلٌ نوعاً ما

وحتى الموت لم يستطع الإهتداء إليه

بين تلك الأبواب المقفلة جميعها

وحيث يشرع المطر بالهطول

في ليلةٍ عاصفة

هكذا

يموتُ بدون حتى جريدة تغطي رأسه

ودونما قطعة نقدية تمكنه بالاتصّال بمن يغيثه

متثاقلاً يتعرّى على مهله

ويوثقُ عارياً إلى جهة الموت في السرير

(ضـــد الشتـــاء)

الحقيقة داكنة تحت جفنيك

فماذا ستفعل بشأنها.. ؟

الطيور صامتةُ

وما من أحد تسأله

ستمضي طيلة النهار محدّقا بالسماء الرمادية

وحين تعولُ الريح

سترتجف مثل قشة

وسينمو لك صوف،مثل حملٍ ذليل

منتظرا أن يطاردوك بمجزّاتهم الهائلة

الذباب يحوم حول فمٍ مفتوحٍ

وما يلبث أن يهوي

كما الأوراق

تتبعها الأغصان العارية

بغير جدوى

الشتاءُ.. يحلّ

مثل بطلٍ أسطوري في جيش مهزوم

بينما تظلّ في مكانك

كاشفا رأسك لنديف الثلج الأول

لحين وصول جارك

الذي يصرخ بك

أنت أكثر جنوناً من الطقس.. يا شارلي

(يوم عاصف)

زوج ٌمن الملابس الداخلية

أحدهما أبيض والآخر وردي

يطيران صعوداً ونزولاً على حبل الغسيل

يخبران العالم كلّه

أنّهما يحبّان بعضهما بجنون

(ثلج)

لاشيء أكثر هدوءًا

من تساقط الثلج بهدوء

ندفةٌ تدلّل أختها

كي تتأكَّد

أنّها لن توقظ أحداً

(شوكة Fork)

لابدَّ أن هذا الشيء الغريب

قد تسلل الآن من الجحيم

إنّها تشبه قدم طائر

يضعه في عنقه آكل لحوم البشر

وعندما تحملها في يدك

و تطعنُ بها قطعة من اللحم

يمكنك تخيُّل ما تبقّى من الطائر:

برأسٍ مثل قبضة يدك

كبيراً، أصلعَ، بلا منقار، وأعمى

(كنتُ هناك)

لم يرني أحدٌ في شوارعكم

على الرغم من أنّني

ما زلت هناك

أتسكّع

وأتوقّف لإلقاءِ نظرة خاطفة

على المتاجر الفارغة

وأتحدَّث إلى حمامة وحيدة

(العاشق)

عندما كنت أعيش في مزرعة

كتبتُ رسائل حب

لدجاجاتٍ يمارسن النقيق في الفناء

أو كنتُ أجلس في الغرفة الخارجية

أكتب رسالةً لعنكبوت

تحوكُ شباكها فوق رأسي.

كان ذلك عندما حلّقتْ زوجتي مع ساعي البريد.

الجيران كانوا يغادرون كذلك

الخنازير وصغارها تصرخ

راكضةً خلف الشاحنة المتحركة

وحتّى تلك الفزّاعة

التي ربطتُها ذات مرة بشجرة

لذلك يتوجّب عليها أن تصغي إليّ.

(الفقيدة)

الآن بعد أن أصبح الجو دافئًا

يصلحُ للجلوس على الشرفة ليلا

تصادف أن يتذكر شخصٌ ما

إحدى الجارات،

على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عامًا

منذ أن ذهبت

في نزهة قصيرة بعد العشاء

ولم تعد أبداً

لزوجها وأولادها

(جنون)

ندفة الثلج ذاتها

ظلَّت تتساقط من السماء الرمادية

طيلة وقت ما بعد الظهيرة،

تتساقط وتتساقط

ثمَّ تنأى بنفسها

بعيداً عن الأرض

، ثمّ تعاود السقوط

ولكنها الآن تمارس الكتمان

بحرص أكبر

كلَّما مرَّ الليل

لمعرفة ما يجري

(حجر)

أمضي إلى باطنِ حجرٍ

ذلك ماسيكون عليه طريقي

تاركاً لسوايَ أن يكونَ حمامةً

او صريراً في نابِ النّمر

و يسعدُني أن أكونَ حجراً

فالحجرُ في ظاهرِه أُحجيةٌ

لا أحدَ يستطيعُ الإجابةَ عنْها

مع ذلكَ

عليهِ أنْ يكون بارداً

وهادئاً

حتّى إنْ داستْ عليه بقرة ٌ

بكاملِ وزنِها

حتّى وإنْ طوَّحَ بهِ طفلٌ الى النهر

الحجرُ يغطسُ على مهلِه

إلى قاعِ النَّهر

دونما ارتباكٍ

حيثُ الأسماك التي تأتي

كي تربتَ عليه وتصغي

لقد رأيتُ الشَّرر يتطايرُ

من احتكاكِ حجرين

فلعلَّه بعد ذلك

لايكونُ معتماً من الدّاخل

ربَّما يكونُ هناك قمرٌ يشّعُّ

في مكانٍ ما

كما لو أنَّهُ وراءَ التّلال

فقطْ مايكفي من الضّوءِِ

ليغازلَ الكتابات الغامضة

ومواقعَ النّجومِ

على الجدرانِ العميقة

(القصيدة)

قطعة من اللحم

يحملها لصّ

لصرف انتباه كلب الحراسة

(الدرس الأخير)

سيكونُ عن لاشيء

ليسَ عن الحبِّ

أو عن الله

لكنّه عن اللّاشيء

ستكون شبيهاً بطفلٍ مستَجِدٍّ في المدرسة

يخشى النظرَ إلى المعلّم

بينما يجاهدُ كي يدركَ

ماذا يقولون

عن هذا اللّاشيء الماثل