من تاريخنا الاجتماعي المندرس.. الإخباري من ابن الحجامة الى جعفر اغا لقلق زادة

Thursday 26th of January 2023 12:28:57 AM ,
5356 (عراقيون)
عراقيون ,

رفعة عبد الرزاق محمد

من علامات المسرح العراقي في عهده البدائي الاول في اوائل القرن الماضي، ولجلب الكثير من المشاهدين وللتقليل من وطأة حوادث المسرحيات، ابتكر القائمون على المسارح يومذاك الفواصل الفكاهية بين فصول المسرحيات،حتى بلغ الامر ان يقدم هذا الفاصل وحده في المسارح.. وكان يطلق على الممثل الهزلي لدى البغداديين اسم الاخباري، وهو الذي يقدم الفصل الفكاهي الساخر بالتهريج والكلام البذيء والحركات الراقصة، ومنها ماهو مخل بالاداب.

وقد ذكر العلامة نعمان خير الدين الالوسي في كتابه (غالية المواعظ): ان المضحك اذا تشبه بقاض او مفت او خطيب واتى بحركات مضحكة كفر وكفر المستمعون اليه معه. وان المطابق للحال تسميته بالاكفاري وليس بالاخباري (جـ 1 ص 35(

عرف المدعو ابن الحجامة بانه كان اشهر الاخباريين في بغداد، وقال من ادركه انه الحاج جاسم بن الحجامة من محلة (العوينة) وان مساعداله يدعى منصور، وكانا يتفوهان بالفاظ غريبة بينهما لاضحاك

الناس. وكان ابن الحجامة يخفي جرابا صغيرا بين ملابسه فاذا اخطأ منصور في الاجابة اخرج رئيسه جرابه وامهال على منصور ضربا مبرحا فيكثر ضحك الحاضرين، وتوفي ابن الحجامة قبيل الحرب العالمية الاولى.

كتب الاب انستاس ماري الكرملي في مجلة المشرق سنة 1906 مقالا بعنوان (المرفع وشيوعه عند جميع الامم) قال فيه:

اما اليوم ففي الولائم و الاعراس ومجالس الافراح ولاسيما في ايام المواسم والاعياد يوجد في بغداد قوم من العامة يعرفون بالاخباريين والاخباريات وهم قوم يتشبهون بالعلماء في زيهم وعملهم استهزاء وسخرية باهل العلم فيلقى احدهم احاجي على صاحبه او صاحبته وتلك الاحاجي بذيئة، فان اجاد تفسيرها او احسن التلفظ بما عسر من الفاظها المتكررة يلقى عليه احجية اخرى حتى يسقط، فان سقط يجعل في وسطه المجلس ويرقص رقصا مخلا بالاداب. والظاهر ان الاخباري في الاصل من يروي الاخبار. وفي كتب الدين الزجر عن مجالستهم وحضور ملاعبهم، ومن ذلك ما قاله السعد في شرح النسفية: لو جلس احد في مكان مرتفع وحوله جماعة يسألونه مسائل ويضحكونه ويضربونه بالوسائد بعد اخبارهم يكفرون جميعا. ومن ذلك يظهر وجه التسمية وقد زالت تلك العادة في زورائنا.

ويضيف الكرملي في مكان آخر: (.... قوم من العامه يعرفون بالأخباريين او الاخباريات، وهم قوم يتشبهون بالعلماء، وفي زيهم وعملهم استهزاء بأهل العلم، فيلقي احدهم احاجي على صاحبه، او صاحبته وتلك الاحاجي بذيئة، فاذا جاء تفسيرها، أو أحسن التلفظ بما عسر من الفاظها المتكررة، القى عليه بأحجية ثانية، حتى يسقط، واذا سقط، يجيل في وسط المجلس ويرقص رقصا مخلا بالآداب، والظاهر ان الاخباري هو من يروي الاخبار، والظاهر ان (الأخباري) له جذور تاريخية في الوجود، لذلك نجد ان سعد التفتزاني (793 ه -1390م) في شرحه للعقيدة النفسية ينص على ان « لوجلس احد في مكان مرتفع، وحوله جماعة يسألونه في مسائل مضحكة، ويضربونه بالوسائد بعد اخبارهم، يكفرون جميعا، كذلك نجد في (غالية المواعظ) لخيرالدين نعمان الآلوسي (1317 ه – 1899 م) مايلي: - رجل يجلس في مكان مرتفع ويسألون منه مسائل بطريقة الاستهزاء، ثم يضربونه بالوسائد، فأنهم كفروا جميعا، وكذا لو لم يجلس في مكان مرتفع، وكذلك اذا تشبه المضحك المذكور بقاض او مفتي او خطيب او نحوهم، وهذا الفعل شائع في زماننا، ويسمون المضحك المذكور (بالأخباري) مع انه المطابق للحال تسميته (بالأكفاري) فانا لله وانا اليه لراجعون).

ان اشهر اخباري يقوم بالفواصل الساخرة الهزلية في القرن الماضي وبه انتهى العهد بهذا الصنف من التمثيل هو المشهور بجعفر اغا لقلق زادة. وقيل ان اصوله من بلاد قزوين في ايران ولنتقلت اسرته الى الكاظمية وسكنت فيها، ولا يعرف على وجه التحقيق اسمه الحقيقي فهل هو كامل عبد المهدي القادم من كربلاء؟ أم جعفر القزويني؟ ام سلمان الأخباري؟ ام ان له اسما اخر غير هذه الأسماء. ويعرف من اللغات العربية والفارسية والتركية والهندية. عندما كان صغيراً استرعت انتباهه فصول الاخباري البغدادي جاسم ابن الحجامة وزميله منصور، وكانا يعرضان فصلهما منذ اواخر القرن التاسع عشر وحتى قبيل الحرب العالمية الأولى في مقهى التبانة في محلة الفضل.

ومما كتب عنه: البداية كانت عام 1915م، وكان العراق تحت الحكم العثماني، حيث بدأ كامل عبد المهدي والمعروف بإسم جعفر اغا لقلق زاده يقلد حركات وكلمات راشد أفندي في دور الهبش التي يشاهدها في الليل، ويعيدها اثناء عمله في صباح اليوم التالي، وبعد ان ذاع صيته انتقل إلى مقهى عزاوي. وقد انضم إلى الجوق الذي شكله الفنان المصري حسن سلامة في ملهى الف ليلة وليلة وكان في عضوية هذا الجوق إضافة إلى جعفر لقلق زادة كل من: اليا داود وعبد الله زكي وصفاء محمد علي وعلوان خزعل وأكرم وصفي وعباس الخلوتي وإبراهيم الشيخلي، والممثلات من النساء وهن في الأصل راقصات في نفس الملهى: ماري كونكا وبدرية محمد وفوزية جيجان وأمينة سعيد. وبعدها اخذ يقدم فصوله متنقلا بين أكثر من مقهى من مقاهي بغداد في ليلة واحدة، مستصحباً معه فرقته واكسسواراته وخيله وحميره التي يستخدمها في عروضه المختلفة، واصبح اسمه مشهورا ومعروفاً وذاع على كل لسان في العراق.

في السنوات العشرة الأخيرة من حياته بدأ الناس ينفضون ويبتعدون عن نمط فنه، الذي يغلب عليه السذاجة، لأنه لم يتطور ولم يفكر بالزمن الذي تجاوزه وتجاوز فنه. فتم الاستغناء عنها تماماً بعد أن أصبحت غير مجزية مادياً. ومنذ ستينيات القرن العشرين عاش هذا الفنان وحيداً معدماً، بعد ان تنكر وأنفض عنه أقرب أصدقائه ومعارفه، وعمل لسد الرمق أعمالاً خدمية في الملاهي آخرها حارساً وبواباً في ملهى الخيام، الذي كانت تملكه المطربة لميعة توفيق التي تكفلت برعايته ومصاريفه وإيجار سكنه، وهو عبارة عن غرفة صغيرة في في الحيدرخانة، حتى وفاته في مستشفى االجمهوري عام 1972م، ودفن في مقبرة جامع براثا. في عام 1984م، اعد الكاتب العراقي عادل كاظم مسرحية بعنوان، نديمكم هذا المساء، تناول فيها حياة جعفر لقلق زاده، وكانت المسرحية من اخراج محسن العزاوي وقد لاقت نجاحا كبيرا..