الملا عثمان الموصلي والمقام العراقي

Thursday 2nd of February 2023 12:22:13 AM ,
5361 (عراقيون)
عراقيون ,

حبيب ظاهر العباس

ظهرت بوادر العلوم والآداب والفنون في مدينة الموصل في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة، وازدهرت تلك النهضة في القرنين الثاني والثالث عشر للهجرة، وذلك بسبب موقعها الاستراتيجي،

إذ تقع الموصل القديمة مدينة الربيع والجمال على الساحل الأيمن من نهر دجلة، وترتبط في التقاءات طرق رئيسية برية بين القسطنطينية (استانبول) وحلب وبغداد، ويسكن فيها مئات الآلاف من البشر بقوميات واديان ولغات متنوعة، ينتظمون في قرى محفوفة بالبساتين ومطوقة بالآثار القديمة التي تؤرخ وتوثق تلك البقعة من الأرض، ولعل هؤلاء الناس الذين من نسل أشور على الأرجح قد احتفظوا ببعض المهارات الثقافية والفنية التي توارثتها الأجيال اللاحقة، فكانت تلك الثقافات المتنوعة والحال هذا تأتيها(أي الموصل) من كل صوب وجانب، فالثقافة الشامية تأتيها عن طريق حلب، والعراقية تأتيها عن طريق بغداد، والتركية تأتيها عن طريق استانبول، فضلا عن الفنون الموصلية المختلفة التي اجتاحت البلاد منذ العصور العباسية المتأخرة الى حين الاحتلال العثماني رغم أن الحياة الثقافية والاجتماعية أبان الحكم العثماني للعراق لم تكن تضاهي ما عرفه العراق خلال العصور الذهبية بسبب قلة الدراسات والبحوث، إذ أن أكثر الذين كتبوا عن تاريخ العراق الحديث يقفزون فترة الحكم العثماني بذريعة إنها فترة انحطاط أو إنهم يكتفون بالإشارة إلى بؤسها وهذا لا يعني إن تلك الفترة قد خلت من بعض الدراسات الثقافية والنشاطات الفنية، إذ إن الدراسات الحديثة للباحثين المعاصرين قد ساعدت على الكشف عن أنماط لعلاقات موسيقية وثقافية كانت قائمة خلال العصر العثماني الأخير في العراق حافظت على الأساليب المحلية لتلك الثقافات، يضاف إلى ذلك اتساع رقعة الإمبراطورية العثمانية وسعة نفوذها في الوطن العربي والذي ساعد على التبادل الثقافي والتلاقح الفني بين الشعوب المحتلة وخاصة (بغداد، والقاهرة، وحلب).

بهذا التاريخ الحافل بالأمجاد الثقافية أنجبت مدينة الموصل فيالق من الأدباء والمفكرين والفنانين حيث يطل علينا في العصر العثماني الأخير (1850م – 1917م) فنانٌ ألمعيُ هو الملا عثمان الموصلي يقدم لنا نماذج فنية فريدة من نوعها ليختصر لنا السرد في الغرائب والعجائب من الأنباء والحكايات والنوادر التي شهدتها تلك الحقبة الزمنية ويسجل لنا أيضاً عبر تاريخه الفني إنجازات فنية وثقافية وفكرية ودينية تنوعتْ و ارتبطت بثقافات الدول المجاورة مضافاً إليها الثقافات المحلية.

المقام العراقي:

بعد أن اتسعت مدارك الملا عثمان الفنية في الموصل وهو الشاب الموهوب واستوعبت ذاكرته السمعية ألاغاني الموصلية وقراءة المقام العراقي ومخلفات التراث، تلك الفنون التي يتداولها الاسطوات وأصحاب المهن في المقاهي القديمة في الموصل وخاصة مقهى بابان ومقهى القزازي، انتقل بعد هذه المرحلة إلى بغداد ليمضي فيها أطول وأخصب فترة عاشها قياسا بالمدن والأقطار التي اقام فيها، حيث كانت النظرة الى الموسيقى والغناء في تلك الحقبة الزمنية نظرة احترام وتقدير كونها (الموسيقى والغناء) امتزجت بالطقوس الدينية المتمثلة بحفلات المولد النبوي والذكر تلك الطقوس المعبأة بالتنزيلات والأناشيد الدينية والتي انتشرت من خلال حركات التصوف وطقوسها الفنية التي جمعت بين العالمين الديني والدنيوي والتي كان يمارسها اغلب أهل المدن خلال العصر العثماني الأخير، يقول الشيخ جلال الحنفي (المواسقة والآلاتية في بغداد عرفوا واشتهروا بالعراق على الجالغي البغدادي في القرن الماضي أنهم من المسلمين جميعا ثم تراجعوا عن ذلك لليهود). من هنا يمكننا الاستنتاج بأن العلاقة الفنية بين نهج وأسلوب الغناء الديني والدنيوي تكاد تكون مشتركة أو تلتقي كثيرا من حيث الأنغام وبعض النصوص الأمر الذي سهل تنقل مؤدي الغناء بين العالمين، وقد مهد هذا الحال الطريق أمام مؤدي المقام للاشتراك في قراءة المقام في تلك الأجواء المتقاربة، والملا عثمان الموصلي الذي تتلمذ على يد قارئ المقام عبد الله الكركوكلي في الموصل وأكمل تعليمه في بغداد على يد (رحمه الله شلتاغ) وأمين اغا إضافة إلى اتصالاته بقراء جيدين ظهروا في تلك الفترة كان علامة مضيئة في تلك المرحلة والأوساط وما يدور فيها من فنون، يتوجب علينا هنا الوقوف قليلا للتدقيق في إثره وتأثيره بالمقام العراقي ذلك الفن الذي كان الأكثر أهمية وانتشارا قي العراق بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر والذي كان يقرا على شكل مسلسل متوالي ينظم بمجاميع مقامية تسمى بالفصول وهي ثلاثة (فصول الذكر وفصول المولد النبوي وفصول الجالغي البغدادي).

ومن خلال ترحال وتجوال الملا عثمان إلى الدول التي قام بزيارتها كان رسولا أمينا في اقتباس ونقل الصيحات الغنائية ذات الطبقات الصوتية العالية والتي لم تألفها الساحة الغنائية البغدادية ضمن أجوائها الفنية وتضمينها في دواخل بعض المقامات العراقية والتي أصبحت بعد حين جزءا أساسيا من تلك المقامات سميت بالميانات والتي تتطلب مهارة عالية في الأداء، مضاف إلى ذلك فقد ادخل بعض القطع والأوصال التي تلقنها في الطقوس الدينية التي كان يمارس أداءها، كما وذيل بعض المقامات بتنزيلات حور كلامها فيما بعد لتصبح بستات ارتبطت بغناء المقام العراقي وأصبحت جزء مكملا له. تدل جميع هذه المساعي على إن الملا عثمان كان ذا مستوى راق في علمه للموسيقى وأصولها، يقول البكري (للموصلي إسهامات في مجال المقام فمن ناحية ادخل إلى خزين المقامات العراقية مقامين جديدين من تركيا هما النهاوند والحجاز كار، كما ادخل على مقام الحجاز- الديوان العراقي عناصر من مقام الديوان التركي الذي يغنى في الموصل).

ومن خلال تواجده في تركيا التقى بالموسيقار جميل بك الطنبوري وقد سجلا معا بعض الاسطوانات التي تحتوي على غناء الموصلي باللغة التركية يشاركه الموسيقار جميل بك الطنبوري عازفا على آلة الطنبور. وبعد إن احتل الملا عثمان مكانة رفيعة بين الفنانين الأتراك عينته الحكومة التركية مدرسا للموسيقى في احدى مدارسها في استانبول، وتتلمذ على يده كبار الفنانين الاتراك كالموسيقار سامي بك والمغنية (نصيب) فاخذوا عنه الموشحات والتنزيلات الدينية ومزجوها بموسيقاهم.

جالس الملا عثمان رجال الأدب والفن والثقافة من خلال سفراته المتعددة وكما ذكرنا سابقا جامعا بين التعلم والتعليم، حيث نظم الشعر وكتب القصائد الدينية والتنزيلات والموشحات، كما كتب في التصوف والتاريخ والأدب إضافة إلى موهبته المعروفة في الخطابة وفنونها في أكثر من لغة ومارس الكتابة في الصحافة وأصدر مجلة باسم (مجلة المعارف) أصدرها في مصر خلال أقامته فيها. ومن مؤلفات الموصلي (الأبكار الحسان في مدح سيد الأكوان، سعادة الدارين، المراثي الموصلية، مجموعة التخميس، تحقيق ديوان عبد الباقي العمري، نشر كتاب التوجع الأكبر بحادثة الأزهر بمصر، نشر كتاب الطراز المذهب في الأدب، نشر كتاب الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية، نشر كتاب خواتم الحكم للشيخ علي درة).

مستل من بحث بعنوان: أضواء على حياة وإنجازات الملا عثمان الموصلي الدينية والدنيوية.