من تجاربي في تحقيق المذكرات الشخصية..كيف تم العثور على مذكرات الدكتور صائب شوكة؟

Sunday 5th of February 2023 11:57:41 PM ,
5363 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

د. عماد عبد السلام رؤوف

على الرغم من صداقتي للفنان النحات خالد الرحال، التى بدأت في أخر السبعينات إلا أني لم يخطر ببالي أن أسأله عما إذا كان يحتفظ بمذكرات كتبها، أو وثائق يحتفظ بهاء حتى إذا ما توفي رحمه الله (سنة 1986) سألت ولده محمد، وهو صديق لولدي رؤوفء السؤال نفسه،

فأخبرني أن لأبيه مذكرات شخصية كتبها بالإيطالية في أثناء سنوات دراسته في روما، والمهم أنه يحتفظ بمذكرات كتبها جده مهدي بن صالح الرحال في أثناء مشاركته ضمن الجيش العثماني» في الحرب العالمية الأولى»، فطلبت منه أن أطلع عليها، فلبى طلبي مشكورا، وإذا بالمذكرات قد كتبت في دفتر كبير» شاغلة منه عددا من الاوراق» وحينما شرعت بقراءتها أدركت أني أمام مذكرات فريدة لضابط عراقي شجاع شارك في جبهات السويس وأدرنه وغزة ثم منطقة (جناق قلعة) في (كاليبولي) ثم في الجبهة الأوربية. » وأنه بعد اعلان الهدنة» انسحب إلى استانبول فحلب وشارك في جيش الثورة العربية المسمى (الجيش العربي السوري»،» وارسل في مهمة خاصة إلى بغداد» ثم مشاركته في تأسيس الجيش العراقي سنة 1921.

والمذكرات؛ على قلة أوراقها إلا أنها تحتوى على أسرار لم تعرف. وشهادة لم تدون. فصورت منها نسخة ظلت عندي، ثم أنني حققتها، ونشرتها في مجلة (ميزوو) التى تصدر عن جمعية المؤرخين في كردستان (العدد 15..)

مذكرات الدكتور صائب شوكة

اتصل بي ذات يوم صديق كريم من أهل الكاظمية وأخبرني أنه حصل على مذكرات الدكتور صائب شوكتء طبيب الملك فيصل الأول»وأقرب أصدقائه إليه» واقترح علي أن اقصده للإطلاع عليها، شكرته وذهبت اليه فوراً حيث أطلعني على نحو عشرين ورقة خفيفة من أوراق الرسائل الأزرق اللون» قد كتب عليها بقلم حبر» سطرا بعد سطر، وقرأت بعض الصفحات فتأكد لي انها لصائب شوكت فعلا، فأسلوبه أعرفه. وكذلك املاؤه، فهوضعيف وكثير الهفوات. وفيه تأثر شديد باللغة التركية التي كان يتقنها. وسألت

الصديق الكاظمي كيف حصل عليها؟ فأخبرني انه اشترى (مزهريتين) من بائع انتيكات» وحينما أخذها إلى البيت وتفحصها رأى في إحداها لفافة من هذه الأوراق» وعرف انها للدكتور المذكور، وأن بائعها لم يرها عندما باعها إليه. وإلا لزاد في ثمن ما باعه.

صورت المذكرات على الفور، وعدت لأقرأها بتمعن. ولاحظت أنها تكشف أسرارا خطيرة، منها شكه الصريح بالأسباب التي أعلنت في حينه عن وفاة الملك فيصلء فقد ذكر ان الملك لم يكن يشكو من آلام تستحق تسفيره إلى خارج العراق، وأنه يقرر ذلك بصفته طبيبه الخاص وأنه حينما ذهب لرؤية الملك كالعادة، منع من الدخول اليه بحجة ان الملك لا يريد رؤيته. وان الذي منعه هو الطبيب السوري أمين رويحة، وأن وفاته المفاجئة لم تكن مبررة طبيا. ثم أنه عرَّج على وفاة الملك غازي، وقرر أنها كانت اغتيالا مدبرا وأن اثنين من صائدي الفراشات الانكليز كانا موجودين في مكان ارتطام سيارة الملك بالعمود الذي اودى بحياته قبل الحادثة بيوم واحد، فإن العمود كان جديدا نظيفا إذا ما قورن بسائر الأعمدة على الطريق الذي سلكه. وأسراراً أخرى من هذا النحو وكنت مزمعا نشرها فأخبرت برغبتي الصديق المحامي علي السويدي محامي العائلة المالكة في العراق عنها وكان في زيارة الى بغداد بوصفه كان صديقا لصائب شوكت. ولما أريته إياها أكد أنها لشوكت على وجه اليقين، وانه مستعد ليكتب مصادقته على هذه الشهادة.

وبلغ نبأ عثوري على المذكرات زوجة صائب شوكت، فما كان منها إلا أن انكرتها بالكلية، مع أنها لم ترها أصلا، ثم علمت من المحامي السويدي أنها إنما فعلت ذلك لخشيتها من أن تكون هذه المذكرات تضم أمورا شخصية تخص حياتهما المنزلية، فلما تأكد لها ان المذكرات سياسية بحتة ولا علاقة لما بما ظنت، عادت فاعترفت بأنها بخطه وأنها مذكراته فعلا. ومع أني لم أنشر هذه المذكرات؛ لكنى كنت أضرب بها مثلا لطلابي في مادة (الوثائق) خلال مرحلة الماجستير، فأقول ان على الباحث أن لا يصدق دائما القول (الاعتراف سيد الأدلة) لأنه يجوز ان ينكر شاهد شهادته اذا ما تصور انها تسيء اليه. أما كيف وصلت (لمزهرية) الى بائع الانتيكات؟ فقد علمت أن أحدا من الأسرة باع بعض تحف البيت الى ذلك البائع دون ان يلحظ حقيقة ما باعه.

وما له تعلق بهذا، أن جرس الهاتف الأرضي رن في داري منتصف ليل أحد ايام 2006، ولما رفعت السماعة جاء صوت الدكتور حسين امين فاستغربت أن يتصل بي في ذلك الليل البهيم، وقبل أن اسأله عن جلية الأمر بادر هو فأخبرني أنه فرغ على التو من كتابة مذكراته، وقد أودع فيها خلاصة تجربته في الحياة. وأعلمني أنه اخبر أسرته بأنه يوصي بهذه المذكرات الي! وأن لي قرار نشرها من عدمه، وعلى وفق الطريقة التي أراها، بل انه كتب تلك الوصية كتابة وأعلم بها أهله، تملكتني في تلك اللحظة رعدة. واحتبست دمعة كبيرة في عيني، فلقد أحسست أن الرجل منحنى عصارة خبرته في الحياة كلها، وأدركت مقدار ثقته بي ومرت السنون، ثم شاءت الأقدار أن نلتقي في السليمانية بعد سنوات، حيث كنا أعضاء في لجنة مناقشة أحد الطلبة لنيل شهادة الدكتوراه. فأكد لي ما أوصى به وشكرته. وفوجئت في مساء يوم 4 أيار سنة 2013 بأحد الصحفيين يتصل بي هاتفيا، ينعى لي الدكتور أمين طالباً مني ان أؤبنه في كلمة لتذاع في الراديو، فهاجت عبراتي؛ وأمليت عليه- على الفور- كلمة تضمنت كل ما اختزنته في وجداني من مشاعر، ثم اتصل بي بعض الأصدقاء يسألنى عن خبر المذكرات ومتى ستظهر للقراء،فأخبرته بوصية المرحوم؛ واني انتظر من أسرته أن ترسل بها الي لأتولى العناية بها ونشرها،واتصلت فعلا بالسيدة زوجته؛ أذكرها بأمر الوصية فأخبرتني أنها تعمل الان على ترتيب مكتبته، ثم أخبرتني بإنها وجدت المذكرات، وأنها ستقرأها اولا قبل ان ترسل بهاء وكررت طلبي فتكرر اعتذارها بأسباب مختلفة ثم احترمت رغبتها في عدم نشرها. ولم أعد أتصل بها، ولم أدر ما فعل الله تعالى بتلك المذكرات التى أتوقع أن تكون مهمة فعلا في رصد حياة مؤرخ واسع التجربة، وشهادته على عصر امتد على اكثر من سبعة عقود عددا.