المستشرق الألماني كارل بروكلمان وتاريخ الأدب العربي

Tuesday 7th of February 2023 11:56:25 PM ,
5365 (منارات) (نسخة الكترونية)
منارات ,

د. نجيب محمد الجباري

لايجادل أحد في أن اتصال ألمانيا بالشرق كان منذ الحروب الصليبية الأولى، وأنها انشقت بعد ذلك عن الكنيسة الكاثوليكية إثرحركة مارتر لوثر، ولكن رغم كل ذلك فإن الدراسات الألمانية المتعلقة بالشرق لم تزدهر إلا في القرن الثامن عشر الميلادي متأخرة في ذلك عن بقية الدول الأوروبية، وبقي العلماء والباحثون الألمان في منأى عن الدراسات العربية حتى دخول الأتراك في قلب أوروبا التي كانت بصدد الاهتمام بدراسة لغات العالم الإسلامي.

ولعل أهم ميزة يمتاز بها الاستشراق الألماني بُعده عن خدمة الاستعمار وأهدافه الدينية التبشيرية والاستلاب الحضاري الذي ميز بعض الدراسات الاستشراقية الأخرى، كما هو الحال مع سائر الدول الأوروبية المستعمرة كفرنسا وإنجلترا وهولندا التي كثيراً ما كان يشكل مستشرقوها طلائع الجيوش الاستعمارية، فضلاً عن اتسامه بالعمق والموضوعية والجدية في التناول.

جهود وأعمال الاستشراق الألماني

ساهم المستشرقون الألمان أكثر من سواهم فرادى وجماعات بمجهودات فردية أو تابعة لمعاهد ومنظمات؛ في نفض الغبار عن عدد هائل من التراث العلمي الذي أنتجته الحضارة العربية الإسلامية والذي كان مغموراً ومطموراً في المكتبات الخاصة والعامة، وفي جمع ونشر وفهرسة المخطوطات وأمهات الكتب والأصول المهمة، وفي وضع المعاجم العربية. وقد وجدت آلاف المخطوطات العربية والإسلامية طريقها نحو المكتبات والخزانات الألمانية كمكتبة برلين الوطنية التي يوجد بها أكثر من عشرة آلاف كتاب، ومكتبة جامعة جوتنجن جنوب ألمانيا التي يوجد بها ثلاثة آلاف كتاب.

وقد حقق المستشرقون الألمان عدداً لا يستهان به من أمهات التراث العربي، كالكامل للمبرد، وتاريخ الطبري، ومؤلفات البيروني، وبدائع الزهور لابن إياس، وطبقات المعتزلة لابن المرتضى، ومقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، والفهرست لابن النديم، وعدد كبير من دواوين الشعراء القدامى.

كما ساهمت المدرسة الاستشراقية الألمانية في تأليف الموسوعات التي كان لها تأثير عميق في نهضتنا الحديثة، وتعد مكسباً مهماً خدم ثقافتنا ومد جسور العبور والتواصل الحضاري مع أوروبا المعاصرة مثل دائرة المعارف الإسلامية وغيرها.

أما على المستوى الأدبي فلا يمكن لأي دارس أو باحث في الأدب والنقد العربيين أن يتجاهل أعمال مستشرقين ألمان كبار، وفي طليعتهم كارل بروكلمان صاحب كتاب تاريخ الأدب العربي الذي يعد موسوعة لا غنى عنها لأي باحث في مجال الدراسات الإسلامية.

كارل بروكلمان وتاريخ الأدب العربي

بدأ كارل بروكلمان دراسته للغة العربية وهو مازال في المرحلة الثانوية، ودرس في الجامعة بالإضافة إلى اللغات الشرقية اللغات الكلاسيكية اليونانية واللاتينية، وأخذ العلم على يد المستشرق الشهير نولدكه. كما اهتم بروكلمان بدراسة التاريخ الإسلامي، وله في هذا المجال كتاب مشهور وهو تاريخ الشعوب الإسلامية، لكن أشهر مؤلفاته كتابه (تاريخ الأدب العربي) الذي ترجم في ستة أجزاء، وفيه رصد لما كتب باللغة العربية في العلوم المختلفة من مخطوطات ووصفها ومكان وجودها. ظهر الجزء الأول من الكتاب أواخر القرن 19، وقد عمل عليه طوال نصف قرن من الزمن، ونقله إلى العربية بتكليف من جامعة الدول العربية عبدالحليم النجار، ونشرته دار المعارف في مصر. يقول ناشر هذا الجزء في مقدمته: (كان تعريب كتاب تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان أملاً يراود كل قارئ بالعربية، حينما يبحث في علوم العرب وآدابهم، أو يحاول سبر جهود العلم العربي ومتابعة خطواته في تأسيس ثقافة العالم الجديد وتنمية حضارته، أو يريد حصر ما تشتت وإحصاء ما تفرق من تراث الفكر العربي في مكتبات العالم وخزائن الكتب، ليتخذ من ذلك آيات بينات للفخر والاعتزاز، أو عدة ومدداً للبعث والإحياء، أو يتطلع أخيراً إلى معرفة ما ترجم إلى لغات العالم من ذلك التراث الخالد، وما أثير حوله من بحوث وصنف من دراسات قدمت خطى العلم والأدب ودفعتهما إلى الأمام في الشرق والغرب؛ وهذه هي المقاصد الكبرى التي وضعها بروكلمان نصب عينيه في تاريخ الأدب العربي، ويغلب عليه في هذا العمل الاتجاه الإنساني العالمي الشامل).

ينتمي كتاب بروكلمان في الواقع إلى الاتجاه الموسوعي التراثي قراءة وتحقيقاً ونقداً وتحليلاً، فهو عمل بيبليوغرافي فهرسي، يؤرخ لتاريخ الأدب العربي من وجهة نظر أجنبية لا عربية بحتة محددة بحدود الزمان والمكان، كما عهدناه عند الكتاب والعلماء العرب الذين تناولوا تاريخ الأدب العربي تناولاً تعليمياً هادفاً إلى تنمية الذوق الأدبي وتربية ملكة النقد، بل هو يحاول أن يسجل الدور العالمي الذي اضطلع به الأدب العربي في دفع عجلة العلم وحث ركاب الثقافة والحضارة العربيتين وهداية المجتمع البشري إلى قيم الحق والخير والجمال.ومنذ ظهور كتاب بروكلمان أخذت كتب تاريخ الأدب العربي تصدر تباعاً في الشرق والغرب متأثرة بكتابه هذا مقتدية بمنهجه في تناول تاريخ العرب من الزوايا العقلية والعلمية البحثية والأدبية الخاصة.

لقد ألقى بروكلمان نظرة الفاحص الخبير على الأدب العربي في مختلف أزمنته وأمكنته وفنونه، منذ نشأته إلى هذا العصر الراهن، ففي جزئه الأول تتبع منحى تاريخ الأدب والكتب السابقة إلى تناوله، وأهم المصادر لتراجم المؤلفين والمؤلفات، والمحاولات الأولى لتاريخ الأدب العربي، وذلك في ثلاثة أبواب وعشرة فصول. أما الجزء الثاني فقد تناول فيه عصر النهضة العربية منذ نحو 750 إلى 1000م، وذلك في أربعة أبواب تطرق فيها إلى شعراء بغداد والجزيرة العربية والشام وشعراء مصر من العصر العباسي، ثم انتقل إلى دراسة النثر الفني، وعلم العربية ومدارسها في كل من الكوفة والبصرة وبغداد وفارس وبلاد المشرق.

أما في الجزء الثالث فقد تناول في أبوابه الثمانية أولية التاريخ وعلم الحديث وكتب المساند وعلم الفقه والمذاهب الفقهية، معرجاً في جزئه الرابع إلى بحث أثر القرآن في توجيه الأدب وبعث الثقافة وإحياء العلوم، متوقفاً عند القراءات وتفسير القرآن والعقائد والتصوف والفلسفة والرياضيات وعلم الفلك والتنجيم والجغرافيا والطب والعلوم الطبيعية. أما الجزء الخامس فقد خصصه لعصر ما بعد الفترة القديمة للأدب الإسلامي من نحو سنة 1010م إلى 1258م، وفيه ثلاثة أبواب اختص كل منها إما بالشعر أو بالنثر الفني والبلاغة أو علم اللغة. وختم بروكلمان تأليفه هذا بالجزء السادس المتعلق بتواريخ الدول والرجال وكتب الأنساب وتواريخ المدن والأمصار وتواريخ الأنبياء منتهياً إلى أدب السمر والنثر.

لم يكتف بروكلمان في أجزاء كتابه الستة بعد أسماء الأدباء من كتاب وشعراء وعلماء وفلاسفة، على طريقة كتب الطبقات ونمط التراجم، أو على منهجية السجلات الإنجليزية أو الأمريكية في أحسن الأحوال، ولا بسرد أسماء المصنفات والمؤلفات العربية في مختلف العلوم والمعارف والآداب؛ بل تناول الحياة العقلية كافة بالوصف والنقد والتحليل، وجعل الصور المتكاملة لحيوات جميع العلوم والفنون وتراجم مشاهير العلماء والأدباء في دراسة مفصلة مقارنة مصحوبة بكل ما وقف عليه من آثار وتواليف في كل المكتبات والخزانات بالمشرق والمغرب، مشفوعة بكل ما علمه من وجوه التأثير المختلفة لهذه الآثار من ثقافة العالم وحضارته، وما بني له من ترجمات وما أثير حوله من بحوث ودراسات.. كل ذلك بنفاذ بصيرة وصواب تقدير وحرص وموازنة وإحاطة شاملة وسعة أفق وقوة ملكة، مكنته من مختلف اللغات والثقافات والفنون، وتخصص عميق بجوانب الثقافة الشرقية على العموم والعربية على الخصوص.

ولم يقتصر نتاج بروكلمان العلمي على إخراج تاريخ الأدب العربي في هذا القالب الموسوعي الذي استوعب حياة طويلة وكاملة وحافلة، بل للرجل قائمة دراسات وأبحاث تعد بالمئات.

على سبيل الختم

وفي أثناء هذه الرحلة الطويلة الحافلة التي أخرج فيها بروكلمان أجزاء كتابه هذا وملاحقه لم يفتأ مخلصاً لعلمه مثابراً على بحثه ومحافظاً على نشاطه يعدل ويصحح ويثقف ويغير حتى اجتمع له من ذلك مقدار كبير اقتضاه إعادة طبع الجزءين الأولين مصححين مهذبين سنتي 1943 - 1949.

ومهما قيل عن كتاب بركلمان وعن الأخطاء والزلات التي وقع فيها والتي حاول بعض الدارسين العرب أن يتداركها عليه بالتصحيح والتصويب، إلا أنه يبقى لهذا الكتاب فضل السبق في التعريف بالتراث العربي الإسلامي المخطوط في جميع مكتبات العالم، لأنه جهد فردي بإمكانات محدودة لم تستطع حتى بعض المؤسسات والهيئات الرسمية وغير الرسمية القيام به آنئذ.