فولتير.. العقل مرشداً

Wednesday 15th of February 2023 12:31:46 AM ,
5370 (منارات) (نسخة الكترونية)
منارات ,

علي حسين

لم تكن ولادته أمراً طبيعيا، فقدت جاء الى الدنيا وسط العويل والبكاء، ماتت أمه اثناء الولادة، واعتقد الاطباء انه ولد ميتا، لكنه سيخدع هذا العالم ويعود الى الحياة، كانت الممرضة التي سهرت على ولادته قد اخبرت والده ان ابنه لن يعيش اكثر من ساعة بسبب ما كان عليه من ضعف شديد. ولسوف يقول ساخر: " ولدت قتيلا ". وكان عند ولادته اضعف من ان يتمكنوا من تعميده. وذلك ما اتاح له ان يقول انه عاش في خصام مع الكنيسة منذ لحظة ولادته.

ولد فرانسو ماري آروويه في باريس في " 21 " من تشرين الثاني عام 1694 من أبوين من طبقة الاثرياء، فقد كان والده كاتب عدل مدينة باريس، وأمه من الطبقة الأرستقراطية الفرنسية المعروفة بثرائها وبذخها، كان فرانسو الصغير على الرغم من ضعفه وهزال جسمه والامراض التي ترافقه، ولد ذكيا وعلى درجة من الحيوية والجرأة، وكان والده ينظر اليه بقلق فقد كان الصبي ينموا بشكل مبكر، وسيكتب احد مدرسيه ان هذا الصبي لديه " عطش الى الشهرة ومتلهف عليها ".في المدرسة يكتب قصائد عاطفية اعجب بها الطلبة واثارة حفيظة الاساتذه، وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره اعلن انه سيصبح أديبا، مما اثار حفيظة الاب الذي اعتبر القرار احمق ومخجل وسيرد على ابنه بكلمة قاسية قائلا:" انها حال رجل يريد أن يكون عديم النفع في المجتمع، وان يتحمل اهله أعباء الانفاق عليه، ويرغب في ان يموت جوعا ". يرفض عرض والده ان يصبح كاتب عدل:" قولوا لأبي إني ارفض رفضا قاطعا كل اعتبار يمكن شراؤه. ولسوف أعرف كيف أُقيم لنفسي اعتبارا لا يكلف شيئا "، ظل طوال حياته رافضا الانصياع للآخرين وسوف تصبح كلماته شعارا للثورة عندا اطلق مقولته الشهيرة:" قولوا للملك إننا هنا بارادة الشعب ". ذلك الرجل سيكون اسمه " فولتير" ويعيش لأكثر من ثمانين عاماً، ألّف فيها اكثر من مئة كتاب ورسالة فلسفية، سلّم في نهايتها برميل الثورة المتفجر الذي ظل يصنعه لأعوام طوال، الى كل من روبسبير ومارا ودانتون، ليفجروه صبيحة يوم 14 تموز عام 1789،. وقد استمدت الجمهورية الفرنسية افكارها من كتابات فولتير وروسو، فكانت اول ثورة تقرر فصل الدين عن الدولة والمساواة وحرية التعبير، وتلغي الإقطاع وامتيازات النبلاء ورجال الدين، وتضع اموال الكنيسة تحت تصرف الدولة، وتنشر مبدأ مجانية التعليم، ومشاريع العدالة الاجتماعية.

كثيرا ما يطرح سؤال: هل كان فولتير فيلسوفا؟ ام اديبا اتخذ من الاحتجاج مسارا لحياته؟.بعض كتاب سيرته يؤكدون انه قاوم إرادة الاشتغال بالفلسفة، في مرات كثيرة كان يسخر من الذين ينادونه بلقب الفيلسوف، مؤكدا عدم ثقته بالفلاسفة:" يخطئ الفلاسفة حين يعتقدون انهم عندما يتناولون مسائل نظرية صرفة، يَحلون على الفور مشكلات الواقع." كان يقول ان حلم تغيير العالم يجب ان يقوم به الناس البسطاء، لا أصحاب كتب المنطق، وكثيرا ما كان يسخر من صورة الفيلسوف المتجهم الوجه:"ويل للفلاسفة الذين لايستطيعون إزالة تجاعيد وجوههم بالضحك، انني انظر الى الوجوم الذي يسيطر على الفلاسفة نظرتي الى المرض." وعلى الرغم من نأي فولتير بنفسه عن الفلسفة، إلا أن مكانه الشرعي بين الفلاسة الذين صنعوا فكر التنوير يحتل مركزاً متقدماً يفوق كثيراً من ابناء عصره، اولاً، لأن انتقاداته لعمل الفيلسوف لم تمنعه من ان يصبح بالاضافة الى جان جاك روسو وديدرو، ابرز الذين شقوا تاريخ الفكر الفلسفي الى نصفين، ما قبل فولتير وما بعده، فضلا على انه كان الأكثر حسماً في حدوث الانقلاب الحقيقي الذي انتقلت به اوروبا من عقلية القرون الوسطى الى عقلية العصور الحديثة، وبفضل كتاباته وكتابات زملائه خرجت البشرية من مرحلة الطائفية الهمجية لتدخل مرحلة العقلانية الحضارية، الأمر الذي دفع فيلسوفاً بحجم نيتشه ان يهدي إليه كتابه الشهير "في ماوراء الخير والشر"، قائلا: " الى فولتير، أحد كبار محرري الروح البشرية».

آمن فولتير باهمية الدفاع عن الحق " ليس هناك اجمل من الحق " ووجد ان مهمة الفيلسوف ان يتصرف في كل شيء وفقا للعقل، ويتقبل كل راي باسم العقل.كان فولتير في بداية مساره، كاتباً مسرحياً، وقد انتقل من سجن الباستيل الى الشهرة في زمن قصير جداً، حين قُدمت له عام 1718 مسرحيته الخالدة "اوديب"، وقد حظيت بإقبال كبير حتى انها عدت آنذاك واحدة من درر المسرح الفرنسي، وقد عادت عليه بأموال كثيرة، جعلت والده يقتنع ان الأدب يمكن ان يجلب المال، فكان يقول لأقاربه وهو سعيد:" فرانسو هذا ولد خبيث استطاع ان يجني المال الوفير من ضحكات الناس ودموعهم." بعد "أوديب" قدم عدداً من الأعمال المسرحية اشهرها بروتوس، موت القيصر، الابن البار، زوليم، محمد، ميروب. وفي القصة كتب الكثير غير أن قصة زاديغ التي ترجمها طه حسين كانت الأشهر. أما رواية "كانديد"، فكانت تمثل خلاصة وجهة نظره بمستقبل أوروبا، وقدمت عبر بطلها ما يشبه السيرة للكاتب. عرفت كانديد شهرة واسعة خاصة أن فولتير، وبعد أن تطرق للأزمنة الماضية وسرد أحداث التاريخ وتطوره، قدم نظرته للعالم الجديد الذي انطلق بعد الحروب التي وصفها فولتير بقوله: "هذا القرن شبيه بحوريّة البحر، النصف الأول منها جميل مثل أسطورة والنصف الآخر قبيح ومخيف في شكل ذيل سمكة." وحين كتب كانديد قرر الابتعاد عن العالم الخارجي وعن صخب المجتمع الذي كان يستهويه، وعزل نفسه: "أريد أن أمتلك الأرض بكاملها أمام عيني في عزلتي».

عاش فولتير ظروفا صعبة وكلفته جرأته وصراحته الكثير من التضحيات حتى أنه وضع وصفا طريفا لحياته: "في فرنسا يجب أن تكون السندان أو المطرقة. أنا اخترت أن أكون سندانًا"، وكان يسعى لان تصبح الحياة من حوله اكثر حيوية وقوة: "كل من ليس حيوياً ومستعداً للمواجهة فهو لا يستحق الحياة وأعتبره في عداد الموتى". عُرف فولتير أيضاً بلهجته القاسية واللاذعة وبحسّه الساخر الممزوج دائماً برغبة في التغيير، وشكَّل ظاهرة فريدة في الفكر الفرنسي، انتقلت عدواها الى عواصم ثقافية أخرى فتأسس ما يشبه "المدرسة الفولتيرية الفلسفية" التي بدأت مظاهرها تتوضح اكثر من خلال كتابه الشهير "القاموس الفلسفي" – ترجمه الى العربية يوسف نبيل -. ويعتبر قاموس فولتير اهم عمل انتج خلال عصر التنوير، ففيه نقد للطغيان وفيه كراهية للتعصب، وفيه ادانة للكنيسة عندما وقفت بوجه العلم: " أيها البشر البائسون، سواء أَرْتديتم أردية خضراء، أم عمائم، أم أرديةً سوداء، أم أردية كهنوتية، أم عباءات وأشرطة حول الرقبة، لا تسعوا أبدًا إلى استغلال السلطة حيثما تكون هناك مسألة للعقل وحده، أو ترضوا بأن تكونوا محلَّ ازدراء عبر كل القرون كأكثر الناس صَلفًا، وأن تُعانوا كراهية الجماهير مثل أكثر الناس ظلمًا. حدَّثكم المرء مئات المرات عن السخافة المتغطرسة التي أدنتم بها جاليليو، وأُحدِّثكم للمرة الحادية بعد المائة، وأتمنى أن تُحافظوا على ذكراها السنوية إلى الأبد. أتمنى أن يُكتَب على ضريحكم المقدس: هنا يَرقد سبعة كرادلة يُساعدهم بعض من الإخوة الأدنى رتبة، ألقوا بأستاذ الفكر في إيطاليا في غياهب السجن وهو في السبعين من عمره، وجعلوه يصوم على الخبز والماء لأنه علَّم الجنس البشري، ولأنهم كانوا جهلة " - قاموس فولتير الفلسفي -. يُعد قاموس فولتير في نظر مؤرخي الفلسفة، اول مؤلف فلسفي يستخدم اللغة العادية في التعريف بالافكار الفلسفية. خطرت فكرة " القاموس " لفولتير للمرة الاولى عندما كان في ضيافة ملك بروسيا. وفي سنة 1764 نشر مجلدا وقد اسماه في بداية الأمر " قاموس فلسفي يمكن حمله " ثم اطلق عليه اسم " العقل بالأحرف الابجدية "، تعرض الكتاب الى حملة شرسة من الكنيسة، وأمر برلمان باريس باحراقه ووصف مؤلفه بانه منحل، ومعتوه ومتوحش.وكان الكتاب في جوهره تمجيدا للعقل ونقدا للخرافة يطرح فولتير من خلاله رأياً جريئاً وصادماً حين يؤكد ان معظم العقائد في الأديان هي نسيج من الأساطير ومن وضع جماعات دينية - حسن حنفي القاموس الفلسفي لفولتير مجلة تراث الانسانية - في القاموس ينبهنا فولتير ان الفضائل الحقيقية هي التي تقدم الخير الى المجتمع، فالاعتدال فيه محافظة على الصحة، والإخلاص والتسامح فيهما إبقاء على العلاقات الاجتماعية.، ويصر على ان الدين الوحيد الصحيح الناتج عن استعمال العقل، هو التنزيه المطلق الذي يظهر في الأخلاق العملية، من خلال ممارسة العدل، او الايمان بأن تعامل الناس بمثل ما تحب ان يعاملوك به.

واذا كان الهدف الأول من قاموس فولتير هو إعادة دراسة الدين ونقد الخرافات، فقد كان يرى ان الطقوس والشعائر والاحتفالات الدينية جرائم يجب ان يعاقب عليها كل من يزاولها لأنها ضارة بالمجتمع:"انا أعلم ان الله ليس بحاجة الى قرابيننا او صلواتنا، ان عبادة الله لا تتم بالطقوس ولكن بالسلوك الشامل والعمل الاخلاقي." – حسن حنفي -، ويرى فولتير ان افضل نظام سياسي يقوم على العقل، ويصر على إشاعة مفهوم الجمهورية التي تقوم على الديمقراطية ومبدأ تبادل السلطات وينكر فولتير على رجال الدين تدخلهم في شؤون السياسة، ويدعو الى علمانية الحكم، ويهاجم ادعاءات الكنيسة التي تريد ان تسيطر على البشر.

عندما نفي فولتير الى لندن عام 1726 اعجب بكل ما شاهده في هذه المدينة وما سمعه من نقاشات وحوارات، ولما عاد الى فرنسا اراد ان يبين لمواطنيه معنى النظام الذي يقوم على الحرية، ونبذ الطغيان مما دفع البرلمان ورجال الكنيسة الى المطالبة باعتقاله وحرق رسائله مما اضطره الى الهروب من جديد.

يبلغ عدد الرسائل الفلسفية " 25 " رسالة – ترجمها الى العربية عادل زعيتر – وهي تتناول مسائل الدين والفلسفة والادب، فالرسائل السبعة الاولى مليئة بنقاشات حول الدين، وفيها يوجه نقدا شديدا الى رجال الكنيسة في فرنسا حين يكتب:" إذا لم يكن في انجلترا سوى دين واحد فمن الممكن ان يكون دينا استبداديا، أما إذا كان فيها دينان فسيأخذ كل منها في الفتك بصاحبه، ولكن يوجد في انجلترا ثلاثون دينا، وهي تعيش بسلام وسعادة " – الرسائل الفلسفية – اما الرسائل الثامنة والتاسعة والعاشرة فقد خصصت للحديث عن النظام السياسي في بريطانيا. وفي الرسائل المتبقية يتحدث عن الثقافة الانكليزية، ويخصص الرسالة الأخيرة لمناقشة افكار الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال وكتابه الخواطر. لم يكن هجوم فولتير على الكنيسة انكارا لوجود الله، فقد كان مؤمنا بالدين الطبيعي يقول:" عندما ارى ساعة يدل عقربها على الزمن استنتج أن مخلوقا عاقلاً رتب لوالبها لهذه الغاية، وكذلك حين أرى لوالب الجسم الانساني استنتج ان موجودا عاقلاً رتب هذه الاعضاء، وان العينين اعطيتا للرؤية، واليدين للقبض " ولهذا يرى فولتير ان الانسان في الطبيعة هو خاضع لقوانين ولا مجال للمعجزات، فمن غير المعقول ان يصنع الله القوانين ثم يخرقها. هذا هو الدين الطبيعي والذي من خلاله كان للفيلسوف الانكليزي جون لوك والعالم اسحق نيوتن تاثيرا كبيرا على افكار فولتير.

من بين المؤلفات التي طبعت تاريخ الفكر البشري كان كتاب " رسالة في التسامح " – ترجمة هنريت عبودي - الذي نشره فولتير عام 1763 والكتاب يتناول حادثة إعدام جان كالاس البروتستنتي الذي اتهم بقتل ابنه الكاثوليكي، حيث تعرض كالاس لتعذيب شديد، وأعدم تحت ضغط الجماهير المتعصبة، برغم أنه لم يكن هناك دليل على ارتكابه جريمة القتل، وقد تصدى فولتير لمفهوم التعصب حيث يعلن ان التعصب ليس قانونا الهيا، وليس من الممكن تبرير التعصب باسم المنفعة. ويحدد فولتير الشروط التي يجب ان تتحقق حتى يعيش الانسان سعيدا سواء في الدنيا او الاخرة واولها ان يكون عادلا، وان يكون متسامحا في هذه الدنيا، ولا يصدر احكامه بدلا من الله:" لينقطع الناس عن تمزيق بعضهم بعضا في موطن السلام " ويختتم فولتير رسالته:" اني ابذر حبة تستطيع ان تنتج حصادا في يوم ما «.

في الساعة العاشرة ليلا من يوم " 30 " آيارعام 1778 دخل الطبيبان إلى الغرفة، كان الرجل الممد على السرير يئن بصوت خافت، قام احدهم بفرك الصدغين، ففتح عينيه وقال "دعوني اموت "، حاولت المراة التي تسهر على رعايته ان تستدعي القس قال لها بصوت واهمن:" لاتحدثيني عن ذلك الرجل..دعيني أمت بسلام "، ثم ناول احد القريبين منه ورقة اخرجها من تحت الوسادة، كان مكتوبا فيها:" اني اموت على حب الوطن، ولم ابغض اعدائي، واحب اصدقائي، ولا أؤمن بالخرافة ". في الثانية عشر ليلا كان قد استنفذ كل قواه واستسلم للموت، الا ان حكايته لم تنتهي، ففي خارج المنزل كانت الحشود تنتظر ان يخرج اليها، ولم يجرؤ المحيطون به ان يعلنوا خبر وفاته، وكان القرار ان تخرج الجثة من الباب الخلفي للدار لتوضع في عربة لتدفن في الضريح الذي اعد له، ومن اجل اتمام مراسم الدفن توجه ابنا شقيقته الى الكنيسة ان تهب خالهما جنازة دينية، وبرغم الوساطات التي قام بها عدد من المسؤولين الكبار الا ان الكنيسة رفضت رفضا قاطعا منح بركاته للميت الذي كان يشتم فيها ليل نهار، ويؤلب الناس عليها، واصدرت الكنيسة تعليمات صارمة بان كل رجل دين يتدخل في هذه القضية سيعفى من منصبه، وجرى الاتصال بالملك نفسه، فوجد نفسه في موقف محرج واجاب:"إنه ما من سبيل سوى ترك الكهنة يقومون بمهمتهم «.

مر يوم على الوفاة، وكانت باريس لاتزال تجهل ذلك، وفي لحظة ما قررا ابناء شقيقته ان يقوم خالهم باداء دوره الاخير في الحياة، فاستدعوا الى غرفة الميت جراحا وصيدلانيا، ليقوما بتشريح الجثة، وتحنيطها، وبعد ان انتهوا من المهمة البسوا الجثة الثياب ثم وضعوها في العربة بهيئة الجلوس، وشدو العربة بستة خيول، اذ كان ينبغي التحرك بسرعة..كان الميت يجلس على وسادات، مشدودا بقوة ومقيدا باحزمة مموهة، وقد جلس الى جانبه خادم ليكون رفيقا سفر، وتبعه ابنا الاخت في عربة اخرى، عند ابواب باريس ادى الحراس التحية للرجل الجالس في العربة وكان واحدا من المشاهير، وانطلق الموكب بسرعة، ليصلوا الى مدينة سيلير ليلا، كان الدير الذي قرروا دفن الجثة فيه شبه مهدم، فاختاروا ان يدفن قرب المذبح، فاقاموا برفع حجر كبير وحفروا قليلا، ووضعوا تابوتا من أربعة الواح، مددوا الجثة التي تمردت في حياتها على الكنيسة والملك، وقد تم الاتصال باحد القسسه حيث اقام قداسا بسيطا، ثم وري التابوت وغطي بالحجر.، بعد اسابيع علم اسقف باريس بان فرانسو ماري آروويه الشهير بـ " فولتير" مات ودفن في سيليير، فاحاط اسقف المدينة بما جرى في الدير القديم، وطلب بمحاسبة رئيس الدير ونبش الجثة، واخبرهم القس بان ابناء شقيقة المتوفي قدموا له بيان بان خالهم رجع الى الايمان، ورفض نبش الجثة قائلا ان فولتير له الحق في الدفن ولم يصدر بحقه حرمان. الامر الذي اغضب اسقف باريس فقرر فصل القس، ووصل الامر الى الصحافة التي قادت هجوم ضد الاساءة الى جثمان فولتير، الذي استطاع في النهاية يرقد بسلام ولكن الى حين.

ما ان قامت الثورة الفرنسية عام 1789 حتى بدا رجال الثورة يفكرون في نقل جثمان فولتير، وبسبب الاضطرابات تم تاجيل الامر لاكثر من عامين، وبدات بعض الصحف تطالب بتكريمه باعتباره أبا للثورة، وهكذا صدر القرار في 1 ايار عام 1791 بنقل الرفات، وغلفت الجثة المحنطة بورق السنديان، وحملت على مراى من الجموع التي كانت تلقي باوراق الزهور على الميت، جرى تحديد يوم 11 تموز موعدا لنقل الرفات الى باريس، وهو اليوم الذي قرر فيه الملك لويس السادس عشر الهرب من القصر حيث تم توقيفه في مدينة فارين، وتصادف ان تلاقيا الموكبين، موكب الملك اسيرا في عربته يحيط به حرس الثورة، وموكب جثمان فولتير يحيط به حرس الشرف، حيث يدخل الاول الى باريس اسيرا مهزوما، فيما يدخل الثاني منتصرا محاطا بالحرس الملكي الذي كان يطارده بالامس، فيما الملك ينظر من عربته الى الرجل الذي تسبب في تصدع مملكته ولم ينفع السجن والنفي في اسكات صوته.

في باريس التي وصل اليها النعش كان مئات الالاف قد تجمع لاستقباله وهم يهتفون تحية للتابوت، فيما الخيالة يتقدمون الموكب، وارتال لانهاية لها من المشاة تحيط بالتابوت الذي كان يجد صعوبة في شق طريقة وسط الحشود الهائلة، كانت باقات الزهور ترمى من النوافذ.

كان فولتير يخالف جان جاك روسو، ويرى ان افكاره في تقديس الغرائز الفطرية في الانسان دعوة تؤدي الى تعصب وحماسة مفرطة، ولم يكن فولتير يرى ما راه روسو من أن الانسان مفطور على الخير او خير بالفطرة، وان ما به من شرور هو وليد الحياة الاجتماعية المصطنعة، ولا بد من العودة الى الطبيعة وإلى الفطرة الانسانية المطلقة، فيما كان فولتير يرى ان الانسان يحمل الشر والخير معا وهو وليد العوامل المختلفة واهمها الجهل والاستبداد، وان الشر يمكن ازالته بازالة اسبابه من خلال تدعيم سلطة العقل وارساء مباديء القانون والدولة، ورغم الخلاف الشديد الذي طغى على علاقة روسو بفولتير، والردود الساخرة التي كان يكتبها روسو على مؤلفات فولتير، والتي اتسمت بالحدة، الا ان فولتير ما ان سمع بقرار السلطات الفرنسية حرق كتاب "العقد الإجتماعي" لروسو، كتب مقاله الشهير الذي عن حرية الراي والذي تضمن العبارة الشهيرة: قد أختلف معك بالرأي، لكنى على استعداد لأن أموت دفاعاً عن حقك فى أن تبديه و تعلنه على الناس «.

هل مات فولتير؟ يكتب جان أوريو احد اشهر كتاب سيرة فولتير: من عساه؟أن يجرؤ على القول ان فولتير مات؟ فهو من طبيعة النار والنور. كذلك هو شعاع ذكاء لا يتغير، ونسمة تنفذ إلى جميع الارواح التي تعشق الحرية والعدالة، إنه الحياة «.