البدايات الأولى للماركسية في النجف

Sunday 19th of February 2023 11:27:00 PM ,
5373 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

د. عدي حاتم المفرجي

ترجع الجذور التاريخية للوعي الشيوعي النجفي الى أحداث (ثورة أكتوبر)تشرين الثاني1917ذات الأصداء الواسعة عند العراقيين. ولاسيما النجفيون منهم،الذين استقبلوا أخبار الثورة الشيوعية، وأفكارها بوساطة زوار العتبات المقدسة من الإيرانيين،

وازدادت شعبية الثورة عند النجفيين بعد قيام الدولة السوفيتية الجديدة بفضح المعاهدات،والاتفاقيات السرية لدول الحلفاء، وتصل تلك الأفكار أيضا بوساطة الصحف الوافدة للعراق منها صحيفة (حبل المتين) الصادرة بمدينة (كلكتا الهندية) والقادمة مع التجار النجفيين، وكانت تقرأ وتتداول بشكل واسع في المجتمع النجفي.

وكان النجفي الصحفي (محمد عبد الحسين) قد تأثر بالشيوعية اثر رجوعه من إيران عام 1918. إذ عاد وهو محمل بأفكارها، فطرح أفكار ثورة أكتوبر بكل صراحة في المجتمع النجفي، وحتى الكتابة عنها في صحيفة ((الاستقلال)) النجفية وعكس فيها بعض الانطباعات الشخصية عن الثورة الاشتراكية ووصفها بأنها ((قوة لا تقاوم)) والجدير بالذكر أن الأفكار الشيوعية أخذت بالانتشار بشكل واسع في المجتمع العراقي بعد الحرب العالمية الاولى، بسبب دخول الكتب والصحف والمجلات العربية والأجنبية ذات الموضوعات المختلفة، فظهرت المكتبات العصرية في بغداد التي اختصت باستيراد المصادر المهمة بالفكر الشيوعي ومنها ((المكتبة العصرية)) والواقعة في سوق السراي لصاحبها (محمود حلمي) و ((المكتبة العربية)) لصاحبها (نعمان الاعظمي) و ((مكتبة مكنزي)) لصاحبها (دنون مكنزي) الاشتراكي النزعة والفكر،لهذه الأسباب اخذ العراقيون يتعرفون على أسماء وأفكار كتاب الاشتراكية بما فيهم(نقولا حداد و فرح انطوان و فليكس فارس وغيرهم).

وكانت نداءات (لينين) تقرأ وتسمع أيام اندلاع ثورة العشرين في العراق ومنها نداء يحمل روح الثورة والتحريض:((.. أيها المسلمون في روسيا أيها المسلمون في الشرق في هذا الطريق الذي نسير به نحو عالم جديد ننتظر منكم التأييد والمساعدة..)) بل ان البريطانيين اكدوا في تقاريرهم على تأثير ذلك التوجه على العتبات المقدسة ومنها مدينة النجف الاشرف، فقد ورد في تقرير 27 اذار1920التأكيد على أن: ((الأدبيات البلشفية وأنباء الأحداث الجارية في روسيا تناقش في العتبات المقدسة..وبوساطة الحجاج (الزوار)القادمين عن طريق حلب وقع كتاب (مبادئ البلشفية) بيد محمد رضا بن محمد تقي الشيرازي)) وجزم ذلك التقرير أن (محمد رضا الشيرازي) أفتى بان البلاشفة هم((أصدقاء الإسلام)) وهو يعكس حال ثورة العشرين التي كان للنجفيين نصيب كبير في شرارتها.

أرسل المتأثرون بالشيوعية من النجفيين برقية استغاثة للحكومة الشيوعية السوفيتية بتاريخ 15 تشرين الثاني 1921 سمي بـ (نداء النجف) بوساطة القنصلية الروسية في طهران، وكان نداء استغاثة يحث السوفيت على الوقوف إلى جانب العراقيين في مواجهة الاحتلال البريطاني وتوجهاته السياسية في المنطقة، فضلا عن الشكوى من اعتداءات الحركة الوهابية، وهذا النداء يوضح نمو الشيوعية في مدينة النجف الاشرف.

أصبحت المدن العراقية في أواخر عشرينات القرن العشرين ذا تمايز طبقي واضح وبسيط،وأثمرت التطورات الاجتماعية عن حركة اجتماعية تبلورت عنها ((الطبقة العاملة)و(النخبة المثقفة)) اللتان أكسبتا المدن العراقية قوة في وزنها الاجتماعي، وتفوقا» على المؤسسات التقليدية (الدولة والمؤسسة العشائرية) وظهر الشباب المثقف في المدن العراقية، ومنها النجف الاشرف، فكانوا يتساءلون عن أمور غير معروفة وجديدة منها (ما التقدم العلمي الاجتماعي؟ والصراع الطبقي؟ والعقلانية؟ والحرية وقضايا الابداع؟ وإنصاف المرأة وحقوقها) وكانوا محتاجين دوما إلى الجديد من الأفكار هذا العوز الفكري قد دفع الشباب إلى تقبل الأفكار الجديدة الطارئة، كالشيوعية، وعلى سبيل المثال قام مجموعة من الشبان النجفيين بتأسيس (العاصفة الحمراء) في أوائل عام 1930وهي منظمة سياسية ذات ميول شيوعية ومن مؤسسيها (علي محمد الشبيبي وهادي الجبوري ومرتضى فرج الله) وكانوا يتبادلون الكراسات الاشتراكية الماركسية القادمة من بغداد بوساطة (احمد جمال الدين وصادق كمونة) اللذين كانا على علاقة بالشيوعيين (يوسف إسماعيل يوسف وعبد القادر إسماعيل) وهما اللذان يزودان الجماعات الشيوعية في بقية المدن العراقية بالأدبيات، والمطبوعات الشيوعية المختلفة.

وكان البيان الأول (للحزب الشيوعي العراقي) في 21 آذار 1935 يحمل عنوان ((ماذا نريد))اذ وجد منتشرا» في شوارع مدينة النجف الاشرف، وهو - دليل على وجود نشاط متميز للفكر الشيوعي في المدينة- ومما جاء فيه: ((... ونحن دافعو الضرائب الجياع إنما هي ثورة من الصميم علة قوامها في صدورنا سنين عديدة وهي ألا تتفجر لترضي وتشبع جشع أشخاص معدودين الهاشمي والمدفعي والسعيد والأيوبي والعسكري وغيرهم، كلهم جربوا وكلهم جاءوا إلى الحكم فلم يحدث أي تبديل ملموس..)).

وبسبب ذلك النشاط الشيوعي المتميز،والمبكر، عمدت الحكومة العراقية إلى تشديد الضغط على رجالات الوعي الشيوعي في مدينة النجف الاشرف العراقي، فهرب النجفي الشيوعي (مهدي هاشم) إلى إيران عام1937 وهو دليل(على تعاون ثقافي وفكري بين الشيوعيين الإيرانيين وأقرانهم العراقيين بوساطة النخب النجفية المثقفة).

ونتيجة للتطور-الطفيف- في الخدمات العامة عقب الحرب العالمية الثانية،فقد تمخض عن ذلك تحولات في البنى الاجتماعية للسكان،فأزداد ظهور النخب المثقفة،مع بروز الفئة الصناعية العمالية الذين اصبحوا وقودا» للحركات السياسية ولاسيما الشيوعية والسبب في ظهور فئة العمال هو ازدياد هجرة الفلاح من الريف إلى المدن ومنها النجف الاشرف بسبب سوء الأحوال المعيشية التي تدهورت بعد تدهور العلاقات الاجتماعية، لاسيما شعور شيخ العشيرة بان الأرض ملكه ولا مانع من إبدال الفلاح بمضخة مائية،فضلا عن الاستفزاز المتواصل الذي يتعرض له ذلك الفلاح من قبل شيوخه، تلك العوامل ولدت في نفس الفلاح (نقمة) دفعته للهجرة- ويبدو اخذ معه نقمته وامتعاضه إلى المدن ومنها النجف الاشرف وهذا الامر كان مثار جدل في مجلس الاعيان اذ حذر (محمد رضا الشبيبي)من مخاطر هجرة الفلاح الى المدن ومنها النجف الاشرف وطالب وزارة الداخلية بوضع حد لتلك الهجرة ومعرفة اسبابها ووضع التدابير لمعالجتها.

ويبدو هذا التخوف لان نقمة الفلاحين مفهومه عند الشيوعيين الذين اخذوا باستقبال أولئك الفلاحون المهاجرون مع نقمهم- ووصف نشاط الشيوعيين في مدينة النجف الاشرف الشيخ (محمد الحسين كاشف الغطاء) بالقول: ((فيها أوكار واسعة وفيها تشكيلات ومنظمات مرتبة يقودها شباب متحمس)).وأخذت الحياة السياسية في العراق بعد عام 1946 تتعرف بشكل أكثر(الشيوعية) واخذ بعدا» في نفوس النخب العراقية،ومنها النجفية.

لقد كان الشيوعيون النجفيون يحبذون الائتلافات الوطنية الموحدة، وعرضوا هذا الأمر على النخب الوطنية العراقية المجتمعة بدار (كامل الجادرجي) ببغداد في 24 أب1945 وكان تسوغيهم هو:((عسى أن يجتمع الاخوان جميعهم في حزب واحد فتزال الضغائن والأنانية الشخصية والمهاترات)) وعلى الرغم من أن الفكرة قد فشلت إلا أنها(دلت على نضج الشيوعيين النجفيين) ولاسيما بعد قيام (حسين محمد الشبيبي) بالانفراد،وتشكيل حزب سياسي اسمه (حزب التحرر الوطني) أما الشيوعيان النجفيان (محمد مهدي الجواهري) و (محمد صالح بحر العلوم) فقد تجنبا الاحتكاك بالسلطة، وشاركا في تأسيس حزب (الاتحاد الوطني) المشكل في 2 نيسان 1946، وكانا من الموقعين على طلب التأسيس في 12اذار 1946، وأعطى (الجواهري) خبرته الصحفية و(بحر العلوم) إدارته.

واستمر (حسين محمد الشبيبي) بكتابة الأفكار الشيوعية ونشرها تحت اسم (صارم)، وتم اعتقاله وسجنه مع (يوسف سلمان يوسف) الملقب (فهد) و(زكي محمد بسيم) الملقب (حازم) وحكم عليهم بالإعدام، بتهمة الاستمرار بالعمل في الشيوعية المحظورة، ونفذ الحكم يومي (14و15) من شهر شباط 1949 وكان إعدام الشيوعي النجفي (حسين محمد الشبيبي) في منطقة باب المعظم.

عن (الاتجاهات السياسية في مدينة النجف المقدسة وموقفها من التطورات السياسية في العراق).