محسن مهدي:ألف ليلة وليلة..تلخيص لآراء الناس في السلطة والسلطان

Thursday 23rd of February 2023 12:48:47 AM ,
5376 (عراقيون)
عراقيون ,

حواره: د. حامد طاهر

بعد مائة وخمسين عاما من تداول (ألف ليلة وليلة)في مختلف أنحاء العالم، ظهر هذا العام أول تحقيق علمي لها. وقد قام بهذا التحقيق أ. د. محسن مهدي، أستاذ كرسي (جويت) للدراسات العربية في جامعة هارفارد الأمريكية (وهو الكرسي الذي كان يشغله من قبل المستشرق الشهير جب). ومحسن مهدي أحد الأستاذة القلائل الذين تميزوا بدقة التحقيق العلمي،

على المستوى العالمي، فقد حقق بعض أعمال الفارابي الكبرى مثل كتاب (الحروف) وكتاب(الملة) وهو يرأس في الولايات المتحدة جمعية دراسة الفلسفة والعلوم في الإسلام، كما أنتخب منذ مطلع السبعينات عضوا مراسلا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة. وله العديد من المقالات الفلسفية المنشورة في مجلات علمية مختلفة. كما أنه يعتبر أستاذا مباشرا لبعض أساتذة الفلسفة العرب الذين درسوا في الولايات المتحدة الأمريكية.

وبمناسبة حضوره مؤتمر مجمع اللغة الواحد والخمسين في القاهرة في شهر مارس من عام 1985، كان لي معه لقاء طويل وخصب، دار الحوار فيه حول تطوره العلمي، والتحولات الكبرى في حياته كدارس للفلسفة الإسلامية، وآرائه في أهم القضايا التي تشغل المفكر العربي في الوقت الراهن، كما كانت هناك فرصة للإقتراب من (ألف ليلة وليلة) التي عاش مع مخطوطاتها المتناثرة في مكتبات العالم مايقرب من عشرين سنة.

* بمناسبة حضورك مؤتمر مجمع اللغة العربية الواحد والخمسين بالقاهرة، مارأيك في دور المجمع حاليا، وامكانيات تطويره مستقبلا؟

-ان المجمع مازال مستمرا في أداء رسالته بأمانة، وهي العمل على جعل اللغة العربية قادرة على مواجهة تحديات العالم الذي نعيش فيه، وذلك بإحياء التراث اللغوي القديم والتعرف إلى واقع الفصحى اليوم، ثم تقنين وتقعيد الألفاظ والإصطلاحات التي هي بأمس الحاجة إليها لتساير ركب الحضارة والفنون والعلوم المعاصرة. ولعل أهم ميزاته كمؤسسة لغوية أن اعضاءه يمثلون الإتجاهات والمدارس المختلفة فيتناقشون ويتوصلون الى قرارات تكاد تكون بالإجماع وهو إلى ذلك يستضيف أعضاء من مختلف أقطار الوطن العربي، يجتمعون ويبادلون الرأي في ماضي اللغة وحاضرها في الوطن العربي من العراق إلى المغرب. ولا أعرف مؤسسة أخرى تجمع هذه الميزات.

أما امكانات تطويره مستقبلا، فأنا شخصيا أعتقد أنه يجب أن توفر له الإمكانات المادية والفنية – كأجهزة الحاسب الإلكتروني، وأجهزة النسخ والطباعة الحديثة – التي تسهل عمله، وتساعد على إختصار الوقت والجهد الذي يبذله في نسخ أعماله وتصحيحها وطبعها. إن المجمع اللغوي مؤسسة ينتظر منها الوطن العربي الكثير، ويستحق أن توفر له الأجهزة الفنية التي تعينه على أداء رسالته أحسن أداء.

* ماهو الخط الدراسي الذي سرت فيه؟

-بعد الإنتهاء من الدراسات الأدبية في الإعدادية المركزية ببغداد-وأذكر من أساتذتي فيها صادق الملائكة في الأدب العربي، وجواد علي في التاريخ- التحقت بالجامعة الأمريكية ببيروت خلال الحرب العالمية الثانية. وكنت شغوفا بالعلوم الإجتماعية من اقتصاد واجتماع وتاريخ من جهة، وبالفلسفة من جهة ثانية وأهمية الجامعة الأمريكية لم تكن بالنسبة لي أكاديمية بقدر ماكانت اجتماعية وثقافية، أعني أنها أتاحت لي الفرصة للتعرف على عدد كبير من الأصدقاء العرب الذين جاءوا من مختلف الأقطار العربية، والعمل معهم في المجال القومي، كما أتاحت لي الفرصة للكتابة والعمل (الصحافي) كمحرر لمجلة الكلية، ومجلة العروة الوثقى ثم الإشتراك في جمعيات الطلبة ونواديهم الثقافية. ومع أني اطلعت على مبادئ كثير من العلوم الإجتماعية والإنسانية فعندما أقيم ثقافتي في تلك المرحلة يظهر لي أنها كانت جدلية وخطابية أكثر منها علمية.

* في أي طور إذن اخترت دراسة الفلسفة الإسلامية كتخصص، ولماذا؟

-قرأت جميع ماكانت المكتبة العربية تحويه من كتب الفلسفة قبل إلتحاقي بالجامعة الأمريكية ببيروت. ولم تكن المكتبة العربية تشمل إلا القليل من الكتب في الفلسفة الإسلامية في ذلك العهد، بل كان أغلبها يدور حول الفلسفة اليونانية والغربية. أما في الجامعة فكان الذي يدرس لنا هو الفلسفة اليونانية، والغربية في العصر الوسيط، والفلسفة الغربية الحديثة. وعندما إلتحقت بعد ذلك بجامعة شيكاغو في الولايات المتحدة للدراسات العليا وجدت محيطا يختلف كثيرا عما كان في بيروت. وذلك لأني وجدت فيها عدداً كبيرا من الأساتذة الأوروبيين-وخاصة الألمان- ممن كانوا قد هاجروا إلى الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية، وكان كل منهم يمثل قمة ماكان قد وصلت إليه العلوم التاريخية والإنسانية في حقله من اجتماع وأدب وفلسفة وتصوف الخ. وهناك بدأت الدراسة الجدية للنصوص الفلسفية بلغاتها الأصيلة، وتفتحت لي أبواب مناهج البحث والتفسير في حلقات الدرس والنقاش، واقتنعت بأنه من الممكن حقا الوصول إلى مغزى فكر كبار الفلاسفة والعلماء والأدباء عن طريق القراءة الجادة، والتأمل في معاني ماخلفوه من روائع الكتب. وفي هذه الفترة تحولت هوايتي الأولى، وهي الفلسفة بعامة والفلسفة الإسلامية خاصة إلى دراسة جادة للنصوص الفلسفية العربية والإسلامية، مع ملاحظة الصعوبة التي واجهتها في هذا الصدد، بسبب أن معظم هذه النصوص لم يكن قد حقق وشرح شرحا كافيا.

والذي أذكره على سبيل المثال أني كنت أقرأ كتيب الفارابي (فلسفة أفلاطون) وكان قد حقق ونشر في إنجلترا، وكأني أنظر في طلسم أو رموز غير واضحة، مع أنه مكتوب بلغة عربية فصيحة، ثم أنظر في التعليقات التي تحاول أن ترجعه إلى أصول يونانية، فلا أجد علاقة بين النص العربي والأصول اليونانية التي ادعى المحقق أن الفارابي اقتبس منها.

أما السبب الذي دعاني إلى التأكيد على دراسة الفلسفة الإسلامية فهو أنني رأيت أن المطلب الأساسي الذي يواجه الوطن العربي، ويواجه كل مفكر عربي هو مكانة العلم ومستقبل الحركة العلمية، وأن الطريق الأمثل لفهم هذا المطلب هو التعميق في دراسة الفلسفة الإسلامية.

* هل يمكن أن تلخص لنا موقف الغرب من الفكر الإسلامي؟

-(الغرب) عالم واسع. وله مواقف متعددة. ويلاحظ بين المختصين أن الإتجاه الذي ساد في القرن التاسع عشر (وكان فيه نوع من الرومانتيكية، والبحث عن جذور وأصول الفكر العربي، ولذلك كان يهتم كثيرا بمجالات تأثير الفكر الإسلامي في الفكر الغربي) كاد ينحسر. ولايجد المرء اليوم كثيرا من الأبحاث في تأثير الفكر العربي على الفكر الأوروبي في العصر الوسيط، بل هناك اتجاه إلى السكوت عنه، إن لم يكن إلى إنكاره. ولاشك أن ثورة البلدان الإسلامية على السيطرة الغربية، والصراع الذي أدى إلى استقلال هذه البلدان، ثم التطلع إلى إستقلال فكرى، كل هذا أدى إلى رد فعل في موقف الغربيين من الفكر الإسلامي. فهناك من يحاول أن ينكر استقلاله تاريخيا، وهناك من يحاول أن يحط من قدره وهناك من يحاول أن يظهره بمظهر المعادي للحضارة والتقدم والعقلانية الخ. وهذه اتجاهات تظهر غالبا عند المغرضين سياسيا، أو الجهلة من الصحفيين. وتغذي هذه الإتجاهات آراء في التاريخ، وفي موقف المثقف الغربي من الحضارات غير الغربية عامة، والتي يعتبرها حضارات متأخرة أو متحجرة.

* ونحن في منتصف الثمانينات من القرن العشرين، ماهو تقييمك لدور المستشرقين؟

-لقد كثر الكلام عن الإستشراق والمستشرقين في السنين الأخيرة وسأقتصر على ملاحظتين في هذا المجال. الأولى هي أن الإستشراق ليس علما مستقلا، أو علوما مستقلة كما يظن البعض، وإنما هو إحدى ثمار الحضارة الغربية، وتطبيق لأفكار وآراء نشأت في الفلسفة والعلوم الغربية فالمستشرق يبدأ عادة باستيعاب علم من علوم زمانه، كما يدرسه على أساتذته أو يقرأه من الكتب المعاصرة له، ثم يجتهد في تطبيق هذا العلم أو منهجه عند دراسة موضوع يتعلق بحضارة أخرى غير حضارته. وهو إلى ذلك يتأثر غالبا بالآراء الشائعة في محيطه العلمي عن الحضارات الأخرى. فلفهم الإستشراق على الدارس أن يبحث عن جذوره وأصول منهجه عند الفلاسفة الغرب وعلمائه وهذا أمر يتبدل من جيل إلى جيل لأن الفكر الغربي هو في تطور وتبدل دائم.

أما الملاحظة الثانية فهي أن من طبيعة الإستشراق أن ينظر إلى الحضارات غير الغربية من الخارج على أنها حضارات تطورت في الماضي، ثم وصلت إلى حالة الجمود بينما استمرت الحضارة الغربية في ازدهارها وتقدمها. أما عندما يبحث في حضارة غير غربية معاصرة، فإنه ينظر إليها كحادث أو واقع قد يكون له تاريخه، وقد يدل على مستقبل، لكن المستشرق لايتقمص عادة شخصية المسلم أو العربي الذي ينظر إلى ماضيه وحاضره نظرة تسيطر عليها غايات يريد أن يحققها من تجديد أو إصلاح أو ثورة. وهذا أمر طبيعي لأن المستشرق لايعيش في محيط العربي أو المسلم، ولايعاني مايعانيه، ولايشاركه في شقائه وآماله.

* وإذن.. مالذي جعلك تتحول من تحقيق مؤلفات الفارابي إلى تحقيق نص (ألف ليلة وليلة)؟

-الواقع أنه لم يكن تحولا. بل تزامن العملان. وذلك لأن اهتمامي بالفلسفة السياسية صاحبه اهتمام أوسع بالفكر السياسي عند العرب والمسلمين، وهذا أدى بي إلى الإهتمام بالفكر السياسي عند المؤرخين والفقهاء والمتكلمين، ثم آراء العامة من الناس في السلطة والسلطان والمجتمع. وكنت وما أزال أنظر إلى كتاب (ألف ليلة وليلة) كوثيقة تبين لنا آراء عامة الناس في هذه الأمور.

ثم بدأت منذ أوائل النصف الثاني من هذا القرن دراسات جادة لهذا الكتاب تحاول أن تبحث في تركيبه الأدبي، ولغته، ومايعكسه من أحوال اجتماعية، ومن مضمون حضاري، واتجاه أخلاقي. وهذه الدراسات الأسلوبية واللغوية والإجتماعية واجهت صعوبات كبيرة، لأنها تتطلب نصا محققا يعرف زمانه ومكانه، ولم تجد أمامها إلاطبعات ملفقة أخرجت على أساس نسخ خطية متأخرة، فأصبح من المتعذر على الباحث أن يقول شيئا محكما على أساس هذه الطبعات التي لاتشبع إلارغبة العامة من القراء، ولا فائدة منها إلا تسليتهم. فأصبح من الضروري إذن الرجوع إلى النسخ الخطية القديمة، والتعرف إلى شجرتها، وتحقيق أقدم وأصح نسخ منها، ثم المقابلة بين قراءات هذه النسخة والنسخ الأخرى، ثم وصف النسخ الموثوق بها والنسخ المختلفة ليكون الباحث على بينة من أمره عند القيام ببحث جاد أو رسالة جامعية في هذا الكتاب.

* هل يمكن أن تلخص لنا قيمة كتاب (ألف ليلة وليلة)عربيا وعالميا؟

-إن أهمية الكتاب عربيا تتلخص في الجوانب الآتية: أولا في دراسة تاريخ اللغة العربية، وتاريخ اللهجات، والعلاقة المتبادلة بين الفصحى ولغة الكلام الدارج اليومي. وهذا أمر نحن بأشد الحاجة إليه، وخاصة في العصر الوسيط. ولدينا الآن نسخة من الكتاب من القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) بلغة ذلك العصر يجدر أن نقابل بينها وبين الوثائق والكتب التاريخية والأدبية التي ألفت في عصر دولة المماليك، في مصر والشام. ثانيا في دراسة أسلوب الحكاية المعقدة المؤطرة ولغة الحكايات والمستويات اللغوية المستعملة في سرد مثل هذه الحكاية. ثالثا في التعرف إلى ألفاظ الحضارة الشائعة بين العامة في ذلك العصر. رابعا في دراسة استعمال الشعر غير المعرب ضمن الحكايات. وأخيرا في دراسة النواحي الفكرية والنفسية الخ بين جمهور الناس في ذلك العصر، مما يعني الدراسات التاريخية.

أما القيمة العالمية لكتاب ألف ليلة وليلة، فقد كان هذا الكتاب ومايزال يعتبر دستورا لنوع خاص من الحكاية، هي الحكاية المؤطرة، وكتابا فريدا لما حواه من سعة الخيال والسحر الحلال. ولاشك في أن ترجمة النص المحقق الجديد إلى اللغات الأجنبية سيساهم مساهمة بالغة أثر، كما قال ناشر الكتاب الهولندي(بريل)، في بناء صرح الأدب العالمي، وفي كشف جوانب مهمة من تاريخ الحضارة العربية، واللغة العربية في العصر الوسيط.

* ماهي أوجه الدراسة التي تراها ممكنة، وخاصة بعد نجاح تحقيق كتاب (ألف ليلة وليلة)في الأدب الشعبي؟

-في الوطن العربي اهتمام يتزايد كل يوم بمايسمى بالأدب الشعبي والذي أرجوه هو أن يتسع صدر دراسات الأدب الشعبي إلى النظر في التراث الذي وصل إلينا مكتوبا من هذا التراث. فهناك الكثير من كتب أدب القصة التي تجمع بين الفصيح واللهجات والعديد من السير الشعبية. ولا يصح من الوجهة التاريخية واللغوية الإقتصار في دراسة هذه القصص والسير على الطبعات الشعبية التي يتداولها الناس اليوم، بل من الضروري الرجوع إلى أصولها الخطية وتحقيقها تحقيقا علميا نتعرف من خلاله على أقدم النسخ وتطور لغتها وروايتها على مر العصور.

والذي يهمني الآن هو نشر الوعي اللغوي والتاريخي عند دراسة هذ الأدب الشعبي، إذ أنه يقدم لنا الكثير ممانحتاج إلى التعرف عليه من تاريخ اللغة العربية، وتاريخ المجتمع العربي، وتاريخ الحضارة العربية. أما دراسة الأدب الشعبي الشفاهي الموجود اليوم في الوطن العربي فله مناهج معروفة وليست من الأمور التي تهمني إلا عندما توضح مشكلات لغوية وتاريخية.

من مجلة البيان الكويتية،

العدد 230، عام 1985م.